شرح الموطأ - 47 - كتاب الصلاة: باب العملُ في الجلوسِ في الصَّلاة

شرح الموطأ - 47 - كتاب الصلاة، باب العملُ في الجلوسِ في الصَّلاةِ، من حديث علي بن عبدالرحمن المُعاوِيِّ
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصلاة، باب العملُ في الجلوسِ في الصَّلاةِ.

 فجر الإثنين 12 محرم 1442هـ.

باب الْعَمَلِ فِي الْجُلُوسِ فِي الصَّلاَةِ

237- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُعَاوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَعْبَثُ بِالْحَصْبَاءِ فِي الصَّلاَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفْتُ نَهَانِي وَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُ. فَقُلْتُ: وَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلاَةِ، وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِأَصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ.

238- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَصَلَّى إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ، فَلَمَّا جَلَسَ الرَّجُلُ فِي أَرْبَعٍ تَرَبَّعَ وَثَنَى رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَإِنِّي أَشْتَكِي.

239- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَرْجِعُ فِي سَجْدَتَيْنِ فِي الصَّلاَةِ، عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْه، فَلَمَّا انْصَرَفَ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةَ الصَّلاَةِ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ هَذَا مِنْ أَجْلِ إنِّي أَشْتَكِي.

240- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلاَةِ إِذَا جَلَسَ، قَالَ: فَفَعَلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، فَنَهَانِي عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاَةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى، وَتَثْنِيَ رِجْلَكَ الْيُسْرَى. فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ رِجْلَيَّ لاَ تَحْمِلاَنِّي.

241- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَرَاهُمُ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ، فَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ عَلَى وَرِكِهِ الأَيْسَرِ، وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَانِي هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَحَدَّثَنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرِمنا بنور الشَّريعة، ومُبيِّنِها لنا على لسان عبده الذي جمع له الفضَّل جميعًا. اللَّهم أدِم صلواتك على الهادي إليك، والدَّال عليك، عبدك المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد، صاحب الوجاهات الوسيعة، وعلى آله وأصحابه الذين جعلت درجاتهم به رفيعة، وعلى مَنْ تَبعهم بإحسان مُخلصًا لوجهك، سالمًا مِنْ كُلِّ قطيعة ووقيعة، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين أهل الأنوار السَّاطعة اللَميعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المُقربين، وجميع عبادِك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.

وبعدُ، 

فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- كيفية الْجُلُوسِ فِي الصَّلاَةِ؛ وذلك لِمَا جاء في بيان السُنَّة الغرَّاء في ضبط حركة الإنسان في حياته، ومِنْ أعظم ذلك شؤون صلاته؛ قيامًا وقعودًا، وركوعًا وسجودًّا، وهيئة الجُلوس ووضع الأيادي، وإلى غير ذلك مِنَ الكيفيات والهيئات في الصَّلاة. ثُمَّ فيما عُلِّمنا مِنْ علوم الأدب أيضًا خارج الصَّلاة؛ في القيام والقعود المربوط عند المُؤمن الصَّادق المُخلص التَّقي بذكر ربه، فيما أشار الحقِّ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ..) [آل عمران:191]. فكُلِّ أحوال المؤمن مرتبطة بِسِرِّ ذكره للرحمن؛ لتنمية وتغذية حقيقة الصِّلة بينه وبين هذا الرَّب، التي لا غاية لها ولا نهاية، ولا تزال قابلةً للقوة وللسَعة وللوفرة وللعُمق أبدًا سرمَدًا. فينبغي أنْ يغنَم حياته القصيرة التي رتبَّ الله عليها وفيها كسبَ حقائق هذا القُرب، وحقائق هذه الصِّلة بما لا يُمكن أنْ يكون قبلها ولا بعدها، فهذه ميزة الحياة الدُنيا؛ أنَّه يُمكنك فيها تعميق صلتك بالإله، وتقوية قُربك منه، وتوسعة معرفتك به، هذه أعظم ما يوجد في الحياة الدُنيا، وما يترتب على ذلك في الآخرة فكُلُّه نتيجة للحال الذي كنت عليه أيام كنت في هذه الحياة. وعَقَل العُقلاء أنَّ هذا أعلى ما في الحياة وميزاتها وخُصوصيتها، فصرفوا هِمّتهم ونهمتهم في تقوية صلتهم بالإله (..قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ..)، وحيثُما كانوا وأينَما كانوا يبتغون رضاه. فأكرمهم مِنْ حضرته العظيمة بأنَّه ما تقرَّب إليه أحدٌ منهم بشبرٍ إلَّا تقرب إليه ذِراعًا، وما تقرَّب  إليه ذِراعًا إلَّا تقرب الرَّب إليه باعًا، وهكذا إذا أتاه يمشي، أتاه الرَّحمن هرولة، فضلًا مِنَ الله ونعمة. فلله الحمد ما أعظمه مِنْ كريمٍ، رحيمٍ، جوادٍ، واسع الإفضال. 

يُذكِّرُنا في العمل في الْجُلُوسِ فِي الصَّلاَة، وقد جاء في مناقب الصَّالحين: أنَّ سيِّدنا الشيخ أبو بكر بن سالم مكث خمسة عشر سنة لا يُرى في مجلسٍ إلَّا مُتورّكًا كهيئته في الصَّلاة، فقيل له، فقال: هذه جلسة العبد بين يديّ السيِّد.. هذه جلسة العبد بين يدي السيِّد؛ وأنا بين يديّ سيدي. وهكذا، يذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُعَاوِيِّ،" نسبةً إلى جدّهم مُعاوية "أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ"، بأنَّه صلَّى بجانبه، "وَأَنَا أَعْبَثُ بِالْحَصْبَاءِ"، صِغار الحصى "فِي الصَّلاَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفْتُ نَهَانِي"؛ أي: زجرني عن أن أعود إلى شيءٍ مِن ذلك أو أنْ أفعل شيئًا مِنْ ذلك، وأنْ أترُك الحركة في الصَّلاة بغير أعمال الصَّلاة. ولم يأمره بإعادة الصَّلاة. قال: لأن العمل يسير، لم يُبطل الصَّلاة، لم تكن ثلاث حركات متوالية. وهكذا يجب على المُؤمن أنْ يضبط حاله في الصَّلاة؛ فإنَّه في حالة حضورٍ خاصّ مع الرَّحمن -جلَّ جلاله- ووقوفٍ بين يديه، فلا ينبغي أنْ تبدو مِنه أي حركة بأي عضوٍ مِنْ أعضائه، إلَّا فيما نُدب إليه مِنَ الصَّلاة وأعمال الصَّلاة وواجبات الصَّلاة وسُنن الصَّلاة. 

ولقد ذكروا لنا في تاريخ سلف الأُمة أنَّ الطيور تقع على رؤوس المُصلين مِنهم تحسِبُهم جمادًا! فهكذا أحسنوا الصَّلاة وأقاموها كما يُحب تعالى. 

  • ثُمَّ أنَّ أي حركة في الصَّلاة إنْ كانت بقصد اللعب؛ تبطُل الصَّلاة باتفاق ولو أدنى حركة، 
  • وإنْ كان من غير قصد اللعب. فإنْ كان مِنْ ثلاث حركات متوالية؛ بَطلت بها الصَّلاة.
  • بل وكُلِّ هيئة لا تكون مِنْ هيئات الصَّلاة؛ بحيث يكون الناظر إليه فيها مُعتقدًا أنَّه ليس في صلاة. فهي تُبطِل الصلاة عند الحنفية. 
  • وقال الشَّافعية: ولو تحرك سهوًا ثلاثًا متواليات؛ بطُلت صلاته ولو كان ذلك سهوًا.

 فينبغي أنْ يضبط المُصلي جميع أعضاءه في الصَّلاة، تعظيمًا وإجلالًا وإكبارًا للَّذي يقف بين يديه. ولمَّا رأى ﷺ مَنْ يَعْبَث بلحيته وهو يُصلي، قال: "لو خَشَعَ قَلْبُ هذا لخَشَعَتْ جَوارِحُه".

ولمَّا رأى ابْنُ عُمَرَ هذا مسَّ الحصى -صِغار الحصباء- وهو في الصَّلاة، نهاه وزجره عن ذلك، وقال له: اجلس في هيئتك كما يجلس ﷺ، "اصْنَعْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُ. فَقُلْتُ: وَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلاَةِ، وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ"؛ يعني هذا في التَّشهُّد، وقبض أصابعه "كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِأَصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ،" فيمُدَّها ويقبض بقية الأصابع، "وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ." رسول الله ﷺ. فبيَّن له هيئة الجلوس في الصَّلاة، وهذه جلسته ﷺ في التَّشهُّد الأخير، وقد اختار الأئمة مِما ورد عنه ﷺ في الجلوس في الصَّلاة: 

  • فقال الحنفية: يفترش في جميع جلسات الصَّلاة، وأخذوا بترجيح رِواية الافتراش؛ وهو أنْ ينصِب رجله اليُمنى ويجلس على بطن رِجله اليُسرى.
  • وقال المَّالكية: يتورّك. كما أشارت إليه هذه الرواية في جميع جلسات الصَّلاة كذلك؛ وهو أنْ ينصِب رجله اليُمنى ويُثني ويُخرج رجله اليُسرى مِنْ تحت الرِجل اليُمنى، ويُلصق وركه بالأرض، فهذا هو التورّك.
  • وقال الشَّافعية: يجلس هيئة الافتراش في جميع الجلسات إلَّا التي يعقبها السَّلام، وهي الجلسة الأخيرة. فالتي يعقبها السَّلام وهي الجلسة الأخيرة؛ جلسة التَّشهُّد قبل السَّلام، يتورّك فيها، وبقية الجلسات يفتَرش.
  • وقال الحنابلة: إنْ كانت الصَّلاة أكثر مِنْ تشهّدين، فيتورّك في الأخير، وما عدا ذلك فيفترش. فإذا كان في صلاة الصُّبح ففيها تشهُد واحد، فيفترش عندهم ولا يتورك، بخلاف الظُهر والعَصر والمغرب والعِشاء، فهُم كالشَّافعية في التورّك في الأخيرة التي يعقبُها السَّلام.

وهكذا قال الشَّافعية: يُسَّن الافتراش في كُلِّ جلسة تعقبُها حركة إمَّا قيام أو سجود. ويُسنّ التورك في كُلِّ جلسه يعقبُها سلام. لهذا إذا جلس للتشهُد الأخير وهو يُريد سجود السهو قبل السَّلام عندهم، فيفترش. فإذا سجد سجدتين فجلس الجلسة الأخيرة ليُسلِّم؛ فيتورّك. إذًا، فربط التورّك عندهم بالسَّلام، كُلِّ جلسة يعقبُها سلام. وربط الحنابلة ما كان في الصَّلاة مِنْ تَّشهُّدين. فإنْ كان في الصَّلاة تشهُدان، ففي الأخير يتورك، وفي الأول يفترش كما في بقية الجلسات.

  • ففي يوم الجُمُعة والصُّبح يختلف الشَّافعية عن الحنابلة، بأنَّ الجلسة التي قبل السَّلام، يفترش فيها عند الحنابلة؛ لأنَّه تشهّد واحد في الجُمُعة وفي الصُّبح. وعند الشَّافعية يتورّك؛ لأنَّه يعقبُها سلام، فيتورك في جلسة التَّشهُّد. 

فهكذا يذكُر الفقهاء الافتراش والتورّك، وليس مِنْه التَّربّع وما إلى ذلك إلَّا لمعذورٍ فهذه جلسات الصَّلاة. وعلى ذلك لو فرضنا أنَّ العاجز عن القيام يُريد أنْ يُصلي مِنْ قعود، فكيف يقعد؟ فإنْ قعد مُفترشًا أو متوركًا فهي مِنَ المعهودة في الصَّلاة ومِنْ جلسات الصَّلاة. وإنْ قعد مُتربّعًا جاز له ذلك؛ لكنَّ الافتراش والتورّك أفضل له مهما قدر عليه مِنَ التربّع. فإذا كان ضعيفًا كما يأتي معنا في الأحاديث -لا تحمله رجلاه- فُيمكنه أنْ يتربَع، كما جاء عن ابْنُ عُمَرَ.

 يقول: "وَأَشَارَ بِإصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ"، "وَأَشَارَ بِأَصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ" جاءت فيها روايات مُختلفة منها:

  • أنْ يقبض الأصابع كُلِّها إلَّا المسبحة والإبهام، فيعقد كما يعقد ثلاث وخمسين. 
  • وفي رواية ابْنُ عُمَرَ يعقد ثلاث وعشرين وهي رواية ابن الزبير. 
  • وكذلك ورد: يقبض الأصابع الثلاثة، ويُرسل الإبهام والوسطى. 
  • ومنها يقبض الخنصر والبنصر، ويُحلّق الوسطى والإبهام. وهذه المُرجحة عند الحنفية. 

إذًا فلهم في كيفية القبض وجوه، 

  • يقول الشَّافعي: يقبض الوسطى والإبهام. وفي قبض الإبهام، إمَّا يجعله تحت الإصبع السبابة أو عند الأَنمُلة الأخيرة أو الأَنمُلة الثانية. 

وكذلك الإشارة: 

  • فيقول الشَّافعية والحنفية والحنابلة: لا يُحرّك الإصبع. كذلك يقول ابن القاسم مِنَ المالكية.
  •  ومن يقول: عند التَّشهُّد قولهم: "إلَّا الله".. أشهد أنَّ لا إله إلَّا الله، يرفع السبابة بلا تحريك. 
  • والمشهور في مذهب المالكية سُنيّة التحريك.

وتحريك الإصبع والإصبعين مِمَّا لا يتحرك معه الكفَّ، مِمَّا استثناه الشَّافعية مِنْ بُطلان الصَّلاة إذا توالت الحركات، كحركة الشَّفتين وحركة الأجفان فإنَّها لا تُبطل الصَّلاة. كذلك حركة الإصبع والإصبعين مِمَّا لا يتحرك معه الكفَّ، فلا تُبطل الصَّلاة وإنْ كثُرت. 

وذكر "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَصَلَّى إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ،" فلمَّا صلَّى "فِي أَرْبَعٍ تَرَبَّعَ" جلس مُتربّعًا "وَثَنَى رِجْلَيْهِ"؛ عطفَهما. فالتربّع إمَّا انْ يُخالف بين رجليه؛ يضع رجله اليُمنى تحت ركبته اليُسرى، ورجله اليُسرى تحت ركبته اليُمنى. أو يتربَع يثني رجليه مِنْ جانب واحد؛ فتكون رجله اليُسرى تحت فخذه وساقه اليُمنى، ويثني رجله اليُمنى. قال: "فَلَمَّا انْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ،"؛ يعني كيف يتربّع وهو في الصَّلاة؟ "عَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ"؛ عاب عليه الجلوس مُتربعًا في الصَّلاة. "فَقَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ"، رأيتك أنت تجلس هذا الجلوس؛ فجلست مثلك. قال "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: فَإِنِّي أَشْتَكِي". لا أفعل هذا لكونه سُنَّة الجلوس في الصَّلاة، وإنَُما أفعله لشكوى في رجلي، فلا أستطيع. وكان ابْنَ عُمَرَ فُدع بخيبر، فلم تعُد رِجلاه على ما كانت عليه. كان يشتكيهما، فكان يجلس في الصَّلاة على حسب ما كان يقدر عليه. وإلَّا قبل أنْ تُفدع رجليه كان ما بين مُفترشٍ ومُتورك، فذكر له أنَّه عنده عُذر بسبب المرض الذي فيه وشكواه لرجليه. فإذًا لا ينبغي للصحيح القادر أنْ يتربَّع في الصَّلاة.

"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَرْجِعُ فِي سَجْدَتَيْنِ فِي الصَّلاَةِ، عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْه"؛ يعني: يرجع عليهما عند رفع رأسه مِنْ كُلِّ واحدة مِنْ سجدته في الصَّلاة إلى أنْ يستوي على قدميه. أقرب ما كان يقدر عليه مِنْ هيئات الجلوس، يعني: في أثناء جلوسه بين السَّجدتين. وفيه تفسير الإقعاء المَسنون، وذكروه ولم يذكروا له موضعًا في الصَّلاة؛ وهو أنْ ينصِب قدميه ويجلس على أطراف القدمين، يجلس على مؤَخر الرِّجل، فهذا هو الإقعاء. وأطلق عليه عند الفقهاء: بالإقعَاء المَسنون؛ هو الجلوس على العقِبين، يفرد قدميه ويجلس على العقبين؛ ولكن كرِه ذلك الحنابلة. 

  • وأمَّا الجلوس على إليتيه ناصبًا فخذيه، فذلك مُجمعٌ على كراهته عند الأئمة كُلِّهم، ما يليق في الصَّلاة.
  •  وأطلق عندنا فقهاء الشَّافعية: الإقعاء المَسنون، والإقعاء المكروه؛
    •  فجلوسه على العقبين مع نصب الرجلين سموه بالمَسنون، وفي قولٍ عند الشَّافعية كغيرهم: أنَّه أيضًا داخل في المكروه.
    •  والإقعاء بالجلوس على الإليتين ونصب الفخذين مكروه بالاتفاق. 

"فَلَمَّا انْصَرَفَ" يعني: ابْنَ عُمَرَ مِنَ الصَّلاة "ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ"، وفي رواية: فذكرت له ذلك، يستفسر عن هذا الجلوس، وهو جلوسه على الإقعاء، فقال: "إِنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةَ الصَّلاَةِ،"؛ يعني: السُنة الافتراش والتورك، "وَإِنَّمَا أَفْعَلُ هَذَا مِنْ أَجْلِ إنِّي أَشْتَكِي"؛ لا أستطيع أنْ افترش ولا أنْ أتَورك. 

وذكر لنا عن "عَبْدَ اللَّهِ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلاَةِ إِذَا جَلَسَ، قَالَ: فَفَعَلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، فَنَهَانِي" عن ذلك "وَقَالَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاَةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى، وَتَثْنِيَ رِجْلَكَ الْيُسْرَى. فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ رِجْلَيَّ لاَ تَحْمِلاَنِّي". لما أصابهما مِن الضَّعف عندما فُدع مِنْ خيانةٍ مِنَ اليهود وهو في خيبر. فإذًا، أثناء الجلوس يضع يده اليُمنى على فخذه اليُمنى، ويَده اليُسرى على فخِذه اليُسرى، بحيث تقرُب رؤوس الأصابع مِنَ الرُكبتين وأصابعه منشورة إلى القبلة.

  • يقول الحنفية: مفرّجة قليلًا. 
  • تقول الحنابلة: مضمومة، 

ويُسن للمُصلي أنْ يُشير بسبابته أثناء التَّشهُّد.

  • وسَمعنا أقوال الشََّافعية: أنْ يقبض المُصلي أصابع يده اليُمنى، ويضعها على طرف ركبته إلَّا المُسبِحة، يُرسلها ويقبض الإبهام بجنبها حيث تكون تحتها على حرف راحته أو عند الأَنمُلة.
  • وجاء عن ابْنَ عُمَرَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ  إذا قعد، وضع يده اليُسرى على ركبته اليُسرى، ووضع يده اليُمنى على رُكبته اليُمنى، وعقد ثلاث وخمسين، وأشار بالسَبابة"، وقوله: "على رُكبته" أي: قريبًا مِنْ رُكبته.
  • وقال الحنابلة: يُحلِّق بين الوسطى والسبابة.
  • قال الشَّافعية: ومحل رفع الإصبع المُشير بها إلى التَّشهُّد. 

وقد جاء في رواية في حديث الذي أورده مالك "أنَّها مذَّبة الشَّيطان"؛ تطرُد الشَّيطان. وقال الشَّافعية: يرفعها عند قوله: إلَّا الله. إذا قال أشهد أن لا إله إلَّا الله،

 وعند إلَّا الله فالمُهللة *** ارفع لتوحيد الذي صلَّيت له 

فلا يرفعها عند قول: أشهد، ولكن عند قوله: إلَّا الله. أشهد أن لا إله إلا الله، فيرفع إصبعه السبابة، ويقيمها مرفوعة إلى أن يقوم مِنَ التَّشهُّد الأول، وإلى أن يُسلِّم من التَّشهُّد الثاني.

  • وهكذا قال الحنابلة: يُشير بسَبابته مرارًا، كل مرة عند ذكر لفظ الله، ولا يُحركها.
  • وهكذا يقول المَّالكية: الإشارة بالسبابة مِنْ المندوبات، ويُندب عندهم تحريك السبابة يمينًا وشمالًا، فيُحرّكها يمينًا وشمالًا في جميع التَّشهُّد.

 واليُسرى مبسوطة مقرونة الأصابع على الفخذ.

وهكذا عَلِمنا عن التَّربّع في الصَّلاة، هذا النوع مِنَ الجلوس، يقعُد على وركيه ويمدّ ركبته اليُمنى إلى جانب يمينه، وقدمه اليُمنى إلى جانب يساره، واليُسرى بعكس ذلك هذا هو التَّربُع. فالتَّربُع، إنْ كان معذورًا لا يُطيق القيام فله أنْ يُصلي جالسًا، ويجوز له أن يتربع. قال ﷺ لسيِّدنا عمرانَ بنَ حصينٍ: "صلِّ قائمًا فإن لم تستطعْ فقاعدًا، فإنْ لم تستطعْ فعلى جَنبٍ، فإن لم تستطعْ فمستلقيًا". فإذا جلس لعُذره عن القيام؛ لا يستطيع القيام في الصَّلاة، يقعُد إذا قعد المعذور، فيجلس متربّعًا.

  • هكذا يرى المالكية والحنابلة: أنَّه إذا عَجَز عن القيام في الصلاة، فيصلي مِن جلوسٍ مُتربّعًا.
  • وجاء عن الحنفية: إذا افتتح الصَّلاة يجلس كيفما يشاء، ما دام معذورًا فعلى أي هيئة يجلس. وجاءت رواية عن أبي حنيفة أيضًا: أنَّه يتربَّع. وإذا ركع، يفترش رجله اليُسرى ويجلس عليها. ففرَّق بين محل القيام ومحل الجلوس بين السجدتين، فندب له الافتراش في وقت الجلوس بين السجدتين، وفي وقت القيام يتربَّع. 
  • والشَّافعية يرون أنَّ الافتراش أفضل. فيجلس مُفترشًا؛ لأنَّها جلسةٌ يعقِبُها حركة. فيجلس مُفترشًا وهو مِن جلسات الصَّلاة، ولا يتربع إلَّا إن عجز عن الافتراش. ولو تربَّع، صحّت صلاته عند الشَّافعية وغيرهم باتفاق تصُح الصَّلاة. ولكن الأفضل عند الشَّافعية يجلس مُفترشًا، إذا يقدر على الافتراش أوالتورك. أو التورك وهو مِنْ جلسات الصَّلاة، مُقدَّمُ على التَّربُع. 
  • وقال المالكية: إذا عُذر عن القيام فيجلس مُتربعًا. وكذلك قال الحنفية. وهذا قولٌ عند الشَّافعية غير المُعتمد: فالمُعتمد، السُنة أنْ يجلس مُفترشًا أو متوركًا إذا عجز عن الافتراش. إذًا وقت التَّشهُّد يجلس مُفترشًا في التَّشهُّد الاخير. 
  • وهكذا يقول الحنفية وغيرهم: بكراهة التَّربُع لغير عُذر، وتشتد الكراهة على المُتربِّع في الفريضة؛ ولكن في صلاة التطوع يجوز له الجلوس كحال العاجز في الفريضة.
  • إذًا المُتطوع أيضًا عند الشَّافعية يقعد مُفترشًا.
  • ويقول المالكية وغيرهم: أنَّه يَحرِم مُتربِع ويقرأ، فإذا أراد الركوع، غَيَّر هيئة جلوسه إلى التورك أو الافتراش عند المالكية. 

وذكر لنا قوله:  "إِنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةَ الصَّلاَةِ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ هَذَا مِنْ أَجْلِ إنِّي أَشْتَكِي".

وعَلِمنا كراهة الإقعاء بإلصاق الإليتين بالأرض ونصب الساقين، وهذا الذي يُستعمل في جلسة الكلب عندما يجلس. ويقولون: أقعى الكلب. والثاني: أنْ ينصب قدميه، ويجلس على عقبيه فهو مكروه عند الأئمة الثلاثة. 

  • وقال الشَّافعية: أنَّ هذا الإقعاء الثاني مَسنون. 
  • ونُقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنَّه قال: لا أفعله ولا أعيب على مَنْ فعله. وقال العَبَادلة كانوا يفعلونه؛ يعني: يجلسون على العَقبين، شيء مِنْ جلسات الصَّلاة. 

وأورد لنا حديث: "أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلاَةِ إِذَا جَلَسَ، قَالَ: فَفَعَلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ قال: "إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاَةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى، وَتَثْنِيَ رِجْلَكَ الْيُسْرَى، َقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ رِجْلَيَّ لاَ تَحْمِلاَنِّي". ثُمَّ ذكر: "أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَرَاهُمُ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ، فَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ عَلَى وَرِكِهِ الأَيْسَرِ"، وهذا هو التورك المَسنون في جميع جلسات الصَّلاة عند المالكية، "وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَانِي هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَحَدَّثَنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ".  مع شُهرة عبد الله بشدَّة المُتابعة للنبي ﷺ. 

  • ثُمَّ الذي يُذكر أيضًا عن الحنفية: في سُّنية الافتراش للرَّجُل، وجعلوا أنَّ التورك للمرأة في صلاتها، وفرَّقوا بين الرَّجُل والمَرأة. 
  • وأمَّا ما سمِعنا عن المالكية: فلا فرق بين الرَّجُل والمَرأة. فإنَّه يُسنّ له التورك لكُلِّ منهما، يُسن لهم التورك في جميع جلسات الصَّلاة. 
  • وعَلِمنا ما قال الشَّافعية والحنابلة: ولا فرق عندهم بين الرَّجُل والمَرأة. فيفتَرش في جميع الجلسات التي يعقبُها سلام. وعند الحنابلة إلَّا التَّشهُّد الثاني. فأمَّا التَّشهُّد الواحد وإنْ كان يعقبُه سلام، فعندهم يكون فيه الافتراش لا التورّك، ولا فرق بين الرَّجُل والمَرأة.

وهكذا يَنقُلُنا مِنَ الجلسة في الصَّلاة إلى التَّشهُّد فيها، وهو ما ورد مِنَ الأذكار التي يكون مِنْ ضِمنها: "أشهد أنَّ لا اله إلَّا الله، وأشهد أنَّ مُحمَّد رسول الله"؛ الشهادتين، فسُمي الكُلِّ تشهُدًا من باب تسمية الكُلِّ باسم البعض، وذلكم لتجديد العهد مع الرَّحمن في الصَّلاة بواسطة هذا التَّشهُّد. 

جعلنا الله وإيَّاكُم مِنْ أهل حقيقة الشَّهادة بأنَّ لا إله إلَّا هو وأنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، وأثبتنا في ديوان أهل الصِّدق معه، والمُحافظين على سُنة حبيبه ﷺ المُقتدين به، والمُقتدين في أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله في لُطفٍ وعافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

13 مُحرَّم 1442

تاريخ النشر الميلادي

31 أغسطس 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام