شرح الموطأ -469 - كتاب العقول: باب القِصَاصِ في القَتْل
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول، باب الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ.
فجر السبت 16 جمادى الأولى 1444هـ.
باب الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ
2581- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ أُتِىَ بِسَكْرَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: أَنِ اقْتُلْهُ بِهِ.
2582- قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى) [البقرة:178] أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ بَيْنَ الإِنَاثِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الذُّكُورِ، وَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالأَمَةُ تُقْتَلُ بِالأَمَةِ، كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْقِصَاصُ يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالْقِصَاصُ أَيْضاً يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [المائدة:45] فَذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، فَنَفْسُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ بِنَفْسِ الرَّجُلِ الْحُرِّ، وَجُرْحُهَا بِجُرْحِهِ.
2583- قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُمْسِكُ الرَّجُلَ لِلرَّجُلِ فَيَضْرِبُهُ فَيَمُوتُ مَكَانَهُ: أَنَّهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، قُتِلاَ بِهِ جَمِيعاً، وَإِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الضَّرْبَ، مِمَّا يَضْرِبُ بِهِ النَّاسُ، لاَ يَرَى أَنَّهُ عَمَدَ لِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَيُعَاقَبُ الْمُمْسِكُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ، وَيُسْجَنُ سَنَةً، لأَنَّهُ أَمْسَكَهُ، وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ.
2584- قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ عَمْداً، أَوْ يَفْقَأُ عَيْنَهُ عَمْداً، فَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ، أَوْ تُفْقَأُ عَيْنُ الْفَاقِئِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَلاَ قِصَاصٌ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّ الَّذِي قُتِلَ أَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فِي الشَّيْءِ بِالَّذِي ذَهَبَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ عَمْداً، ثُمَّ يَمُوتُ الْقَاتِلُ فَلاَ يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّمِ إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ شَيْءٌ، دِيَةٌ وَلاَ غَيْرُهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة:178].
قَالَ مَالِكٌ: فَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي قَتَلَهُ، فَإِذَا هَلَكَ قَاتِلُهُ الَّذِي قَتَلَهُ، فَلَيْسَ لَهُ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ.
2585- قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ قَوَدٌ فِي شَىْءٍ مِنَ الْجِرَاحِ، وَالْعَبْدُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ إِذَا قَتَلَهُ عَمْداً، وَلاَ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْداً. وَهُوَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة وأحكامها العليّة الرَّفيعة، وبيانها على لسان عبده المُصطفى مُحمَّد الذي جمع فيه الخير والحُسن جميعه، صلَّى الله عليه وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه الذين دخلوا حصون مِلّته المنيعة، وعلى مَن تبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين مَن رفع الله لهم القدر والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- الأحكام المُتعلِّقة بالقِصَاص، والقِصَاص؛ تتبع الأثر، ويُعبَّرِ أيضًا عنه بالقَوَد، فهو أن يُفعل بالفاعل الجاني مثل ما فعل، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) [البقرة:178].
"باب الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ"، فحُكم القِصَاص على ولي الأمر الوجوب؛ أن يقتصَّ إذا رُفِع إليه؛ إذا رُفِع إليهِ من مستحقِّه. فمَن استحق قصاصًا ورفع قضيته إلى ولي الأمر.. وجبَ على ولي الأمر أن يُنَفِّذ حُكم القِصَاص. وأما طلب القِصَاص من مستحقِّه؛ فذلك مُباح له..
- فله أن يطالب به.
- وله أن يُصالح على شيء.
- وله أن يعفوَ. والصُّلح خيرٌ، والعفو أفضل في أي جناية كانت.
وقال ﷺ: "مَنْ قُتِلَ لهُ قَتيلٌ فهوَ بخيرِ النَّظَريْنِ، إمّا يُودَى، وإمَّا يُقَادُ." وجاء إن الرُّبَيِّع بنت النَّضر بنت أنس لمَّا تضاربت مع جارية فكسرت ثنيتها -سنّها الثنية-، عرضوا عليهم الأرش؛ فأبوا. طلبوا العفو؛ فأبوا، فأتوا النَّبي ﷺ فأمر بالقِصَاص، جاء سيِّدنا أنس بن النُّضْر قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟! بنت النَّضْر إنها أخته، والذي بعثك بالحق لا تُكسَر ثنِيَّتَها. فقال النَّبي ﷺ: "كتاب الله القِصَاص، كتاب الله القِصَاص"، فمضوا في الطريق من أجل أن يقتصوا من المرأة؛ -الرُّبَيِّع بنت النَّضْر- قالوا: ماذا نستفيد من كسر ثنِيَّتَها؟ أحسن نعفو أو نرجع، فرجعوا إلى النَّبي ﷺ ثم عفوا. قال: "إنَّ من عبادِ اللهِ مَن لو أقسَم على اللهِ لأبَرَّه"؛ منهم أنس بن النَّضر. قال: "والله لا تُكسَر ثنيتها"، فألقى في قلوب أولئك العفو، ورجعوا؛ ما كُسِرَت ثنِيَّتَها وأبرَّ الله قسمه؛ أي: لمكانته عند الله -تبارك وتعالى-.
وما دون النَّفس كالنفس في الحاجة، فالأمر فيه واحد إلا أن القِصَاص يقوم على مَن كان مُكلّفًا؛ يعني: بالغًا عاقلًا عندما فعل الجناية.
- فلا يجب على القاتل إذا كان طفل صبي لم يبلغ.
- أو مجنون، جنون مُطبِقًا عند القتل.
- ومثله لو كان نائمًا فتدحرج على أحدٍ فقتله.
- أو كان مغمى عليه
فهؤلاء الذين وضِعَ عنهم الأمر. أما السكران، فهو مهما كان سُكرُه بمحرَّم وتعدّى بسكره؛ فيؤاخذ بما عمل ولو كان في حالةِ سُكرِه؛ حتى لا يتساكر النَّاس ويَدَّعُوا السُّكُر ويقتل بعضهم البعض، ويضر بعضهم البعض ويؤذي بعضهم البعض؛ فيغلظُ على السَّكران المتعدي بسُكرِه. فإن قتل وهو سكران وإن كان سُكره بمحرّم؛ وجب القِصَاص عليه بخلاف مَن أُكرِهَ على السُّكر وثبت ذلك. وهكذا كان جماهير أهل العلم يقولون: بوجوب القِصَاص على السَّكران، فهو كذلك عند الأئمة الأربعة مادام السَّكران آثم بسُكرِه، فما يعمله وهو في حال سُكره يُؤاخذُ به، وذلك في الجنايات يُجنى عليه. واختلف كذلك في الطلاق، وقال الجمهور: أنه ينفذ طلاقه وإن كان سكرانًا لأنه متعدٍّ بالسُّكر. فعند الإمام أحمد في نفوذ طلاقِ السَّكران روايتان، وأما في الجناية فيؤاخذ بها.
قال: "باب الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ"، وذكر: "أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ أُتِىَ بِسَكْرَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: أَنِ اقْتُلْهُ بِهِ"؛ يعني: المسألة واضحة في ذهنِ معاوية لما كان عليه الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم- وما قضَوا به، وما فهموه عن رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. بخلاف الصَّبي والمجنون ومَن كان زائل العقل بسبب يُعذرُ فيه كالنائم والمُغمى عليه كما أشرنا، لقوله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم: "رُفِعَ القلم عن ثلاثة عن الصَّبي حتى يبلغ، وعن النَّائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". فلا تجبُ هذه العقوبة المُغلَّظة من القِصَاص ونحوها على هؤلاء لأنهم ليس لهم قصد صحيح، فيكون كالقاتل خطأ، بخلاف السَّكران كما ذكرنا.
وقد جاء عن الصَّحابة -رضي الله عنهم- إقامةُ الحدِّ على القاذِفِ وهو سكران، "قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖالْحُرُّ" يُقتل "بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ)" فهؤلاء الذكور من الصَّنفين الحر والعبد عمَّهُما في الإناث، فقال: (وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى) [البقرة:178] من الحُرة والأمة، كل يقتلُ بالآخر، على "أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ بَيْنَ الإِنَاثِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الذُّكُورِ" الحر والعبد، "وَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ" الذكر "بِالْحُرِّ" الذكر، "وَالأَمَةُ تُقْتَلُ بِالأَمَةِ، كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْقِصَاصُ يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ" سواءً كانت حرة أو أمة، "كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ"؛ لأن عموم قوله: (وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى)، يشمل الحُرة والأمة، "وَالْقِصَاصُ أَيْضاً يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ"، فيُقتل الرجل إذا قتَلَ امرأة ، كما هو عند جماهير أهل العلم بل عامتهم وكُلهم. إذا قَتَلَ الرجل امرأةً؛ قُتِلَ الرجل، وإذا قَتَلَت المرأة رجلًا؛ قُتِلَت المرأة مهما كان القاتل مُتعمدًا، وهذا دليل الآية الأخرى أيضًا.
"وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ"؛ يعني: في سورة المائدة: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ)؛ أي: فرضنا عليهم (فِيهَا) في التوراة، وكذلك هو الحكم عندنا في الشَّريعة المُطهرة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) سواءً كان ذكرًا أو أنثى، (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ) تُقلَع (بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ)؛ كُلها (قِصَاصٌ) [المائدة:45]؛ أي يُقْتَصُّ منها إذا أمكنَ مثل يده ورجل وغيرها، كما هو مُفَصَّل في كتب الفقهِ. "فَذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ"، ولم يُقيّده بذكر ولا أنثى، فشمِلَ كل الصّنفين سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى، فالقاتل يُقتَل وسواءً كان المقتول ذكرًا أو أنثى، فالقاتلُ يُقتَل، القاتل العمد يُقتَل سواءً كان قتلَ ذكرًا أم أنثى، وسواءً كان هو القاتل ذكر أو أنثى فالقاتل العمد يُقتل، "النَّفْسَ بِالنَّفْسِ." وذكر الله -تبارك وتعالى- "النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، فَنَفْسُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ بِنَفْسِ الرَّجُلِ الْحُرِّ، وَجُرْحُهَا بِجُرْحِهِ"؛ فالقِصَاص واحد، وهكذا قال الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
قال تعالى في آخر الآيات: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) [المائدة:49]؛ أي ما تقدَّم مما بيّن لنا، ومن ذلك هذا الذي كَتَب عليهم في التوراة كُتِب أيضًا علينا معشر أهل القرآن. ومَن جرى بينهم القِصَاص في النَّفس يجري القِصَاص بينهم في الأطراف؛ يقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد بالعبد، والذكر بالذكر والأنثى بالأنثى، ويقطع الناقص بالكامل. قال: العبد بالحر، والكافر بالمسلم، ومَن لا يُقتَل بقتلِه، لا يُقطَع طرفه بطرفه، فلا يُقطع مسلم بكافر ولا حرٌّ بعبد، هكذا عند مالك والشَّافعي -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
يقول الإمام أبو حنيفة: لا قصاص في الطرفِ بين مختلفِي البدل، فما يُقطع الكامل بالناقص، ولا الناقص بالكامل، وعنده كذلك لا الرجل بالمرأة، ولا المرأة بالرجل، ولا الحر بالعبد، ولا العبد بالحر، ويُقْطَعُ المسلم بالكافر والكافر بالمسلم لأن التكافؤ معتبرْ في الأطراف.
وهكذا جاء في سُننِ البيهقي عن الزُّهري، قال: قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة:178] الآية كُلّها.. ثم قال رب العالمين: (وَكَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیهَاۤ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة:45]، فلمَّا نزلت هذه الآية أقيدت المرأة من الرجل، وفي ما يُعمدُ من الجراح.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُمْسِكُ الرَّجُلَ لِلرَّجُلِ فَيَضْرِبُهُ فَيَمُوتُ مَكَانَهُ"، فمَن يُقْتَلْ الضارب أو الماسك؟ قال الإمام مالك: "أَنَّهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ"، فمذهب مالك قال: "قُتِلاَ بِهِ جَمِيعاً"، الذي مسك والذي قتل، كلّكم لأنه أمسكه ليقتله وهو يعرف أنه سيقتله. "وَإِنْ أَمْسَكَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الضَّرْبَ، مِمَّا يَضْرِبُ بِهِ النَّاسُ"، فقط ما بيقتل إلا صدفة، زاد الضرب أو وقع في مقتل ومات الرجل وقُتِل، قال: "لاَ يَرَى أَنَّهُ عَمَدَ لِقَتْلِهِ"؛ يعني: لم يرَ أنه قاصد قتله، "فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَيُعَاقَبُ الْمُمْسِكُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ"، بجلدٍ بأسواط كثيرة ونحو ذلك، "وَيُسْجَنُ سَنَةً كاملة، لأَنَّهُ أَمْسَكَهُ" حتى قُتِل، "وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ.".
ويروى أنه جاء برجلٍ أمسك رجلًا فقتله القاتل إلى سيِّدنا علي، فأمر بقتل القاتل، وقال للآخر: أمسكته ليموت، ونحن نمسكك لتموت، أدخله في الحبس خلّوه حتى يموت جزاءً. قال: أمسك هذا ليموت، ونحن نمسكك لتموت، اقعد محبوس إلى أن تموت مكانك، -عليه الرضوان-.
وهكذا إذا أمسك الرجل لمن قتلَ وهو يرى أنه يريد قتله:
- فرأى الإمام مالك: أن على القاتل والممسك القتل معًا.
- وقال الإمام أبو حنيفة والإمام الشَّافعي: إنما يُقتل القاتل، والماسك هذا الذي يُشاركه في إثم القتل عند الله -والعياذ بالله-، ومَن أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة كان شريكًا له فيها، "من أعانَ على قتْلِ مؤمِنٍ" بغير حق "ولو بِشَطْرِ كلمةٍ، لَقِيَ اللهَ مكتوبٌ بين عينَيْهِ: آيِسٌ مِن رحمةِ اللهِ." -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. بنصف كلمة أعان على القتل فيحسب قاتل عند الله، أما الحد في الدُّنيا.. قال الإمام أبو حنيفة والإمام الشَّافعي:
- إنما يقتل القاتل المباشِر للقتل
- وأما مَن أعان فإنه يعزَّر ويعاقب وحسابهم على الله -تبارك وتعالى-.
فمَن أمسك رجلًا وقتله آخر:
- القاتل يُقتل باتفاق.
- والمُمسك إن لم يعلم أن القاتل؛ يقتله لا شيء عليه لأنه المتسبب والقاتل مُباشرة، والقاتل مُباشر وهذا متسبب، سقط حكم المُتسبب.
- وإن أمسكه له ليقتله مثل أن ضبطه له حتى ذبحه:
- ففي رواية عن الإمام أحمد، ما هو الشيء الذي أشرنا إليه من كلام سيِّدنا الإمام علي، أنه المُمسك يُحبس إلى أن يموت.
- والرواية الثانية، أنه يُقتل كما قال الإمام مالك.
- وعلمت قول الإمام أبو حنيفة والشَّافعي -رضي الله عنهم-: أنه يعاقب ويأثم ولا يُقتَل، حذرًا من قوله ﷺ: "إنَّ أعتى الناسِ على اللهِ من… قتل غيرَ قاتلِه"، قال: والمُمسك غير قاتل. وإن كان شريك في الإثم عند الله -تبارك وتعالى-، ومُتعرِّض لليأس من رحمة الله -والعياذ بالله-.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ عَمْداً، أَوْ يَفْقَأُ عَيْنَهُ عَمْداً" -والعياذ بالله تعالى- وهكذا يفعل الغضب، والطباع التي لم تُهذَّب في النَّاس بالناس تفعل هذه الأفاعيل. وجاءت الشَّريعة بالتأديب والقِصَاص والقَوَد والتعزير، وخوَّفت من أمر الحساب، يوم يقوم النَّاس لربّ الأرباب في يومٍ قال عن الحساب فيه: (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
فمَن سار إلى قلبه نور الإيمان فهو المُتحذر من الطغيان، والغالب لنفسه وهواه عن أن يعتدي على الغير ويمد يده على الغير. ومَن ضعف إيمانه في وقت من الأوقات وغلبَت عليه نفسه، فهذا الحكم في الدُّنيا، وعليه أن يستعد لعقاب عدل وحكم مَن لا يدع حقًا لأحد حتى يأخذه -جلّ جلال وتعالى في عُلاه-. قال: "فَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ، أَوْ تُفْقَأُ عَيْنُ الْفَاقِئِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَلاَ قِصَاصٌ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّ الَّذِي قُتِلَ أَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فِي الشَّيْءِ بِالَّذِي ذَهَبَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَقْتُلُ الرَّجُلَ عَمْداً، ثُمَّ يَمُوتُ الْقَاتِلُ فَلاَ يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّمِ إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ شَيْءٌ، دِيَةٌ وَلاَ غَيْرُهَا"، فإذا قتل زيدٌ عمرًا ثم مات زيد، "(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة:178]".
"قَالَ مَالِكٌ: فَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ"؛ أي: لعمرو "الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي قَتَلَهُ" وهو زيد، "فَإِذَا هَلَكَ قَاتِلُهُ الَّذِي قَتَلَهُ، فَلَيْسَ لَهُ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ."، فحق المقتول مُتعلِّق بنفس القاتل. فإذا مات بطلَ حقه؛ لا سبيل إلى القِصَاص لعدم محله لأنه قد مات. والدِّية قد تقدَّم معنا، هل الأمر فيها من الأصل والتخيير بين القِصاص والدِّية؟ فإذا لم تكن هناك نفس، تُستبقى ببدل الدِّية لم يكن سبيل إلى الدِّية أو أنَّ ذلك راجع إلى الصُّلح بينهم وليس بموضوع بالأصالة عقوبة وحكم بالقِصَاص كما تقدَّم معنا الخلاف في ذلك. يقول: فإذا قتل القاتل غير ولي الدَّم؛ على قاتله القِصَاص.
- ولكن يقول الإمام الشَّافعي والإمام أحمد: إذا مات القاتل قبل أن يُقتصَّ منه، فتثبُت الدّية في تركته على ورثته لأولياء المقتول، تثبُت الدّية لأنها حق ثابت.
- وقال أبو حنيفة والإمام مالك: يسقط، لا يكون قصاص ولا دية لأن المُتعلِّق الأمر به قد فات خلاص.
"قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ قَوَدٌ فِي شَىْءٍ مِنَ الْجِرَاحِ"، فإذا جنى الحر على العبد، ودية العبد ناقصة عن دية الحر؛ فيمنع أن يقتص له منه. فلا قِصاص بينهما، كما هو المشهور من مذهب مالك، وفي القول الثاني الصحيح أنه يقاد منه. وهكذا اختلف الأئمة في ذلك. فقال الإمام أحمد: لا يُقطع طرف الحر بطرف العبد ولكن على خلاف بين أهل العلم.
"وَالْعَبْدُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ إِذَا قَتَلَهُ عَمْداً، وَلاَ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْداً". قال: "وَهُوَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ"؛ يعني: من الأقاويل في ذلك.
- قال الإمام أبو حنيفة: يُقتل الحر بالعبد ولا يُقتل بعبده إن كان عبده؛ فلا.
- والإمام أحمد كما يقول الشَّافعي يقول: لا يُقتل حر بعبد، وأن ذلك روي عن الخلفاء سادتنا أبو بكر وعُمَر وعلي وجماعة من الصَّحابة -رضي الله عليهم-. حتى جاء عن الإمام أحمد عن سيِّدنا علي أنه قال: من السُّنة أن لا يُقتل حرٌّ بعبد، وأما الإثم فهو الإثم نفسه ما ينقص منه شيء.
- وجاء عن النَّخعي وداود أنه: يُقتَل الحُر بالعبد ويُقتص به، وأوردوا حديث: "مَن قتل عبده قتلناه، ومَن جدع عبده جدعناه".
وجاء في رواية النّسائي، عن سيِّدنا عُمَر بن الخطاب أنه قال: لو لم أسمع الرَّسول ﷺ يقول: "لا يُقاد المملوك من مولاه، والولد من والده لأقدته منك.". ثم يذكر باب العفو في قتل عمد، والله أعلم.
رزقنا الله العفو والعافية والاستقامة على ما يحبه في شؤوننا الظاهرة والخافية، وجعل هوانا تبعًا لما بعث به بحبيبه مُحمَّد ﷺ ودلَّنا عليه وهدانا إليه، ويجعلنا من المُهتدين المُقتدين المُتَّبعين المُنقادين، ويسلمنا من غلبة الأهواء والنُّفوس والشَّهوات، وجعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأصلح أحوالنا وأحوال الأُمة في المشارق والمغارب، وكشف عنا وعنهم الشدائد، وختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنا في لطف وعافية، بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
16 جمادى الأول 1444