(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول، باب مَا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ.
فجر الأربعاء 6 جمادى الأولى 1444هـ.
باب مَا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ
2577 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَقَادَ وَلِيَّ رَجُلٍ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ بِعَصاً، فَقَتَلَهُ وَلِيُّهُ بِعَصاً.
2578 - قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ضَرَبَ الرَّجُلَ بِعَصاً، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرَبَهُ عَمْداً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَمْدُ، وَفِيهِ الْقِصَاصُ.
2579 - قَالَ مَالِكٌ: فَقَتْلُ الْعَمْدِ عِنْدَنَا: أَنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَضْرِبَهُ حَتَّى تَفِيض نَفْسُهُ، وَمِنَ الْعَمْدِ أَيْضاً أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي النَّائِرَةِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا, ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْهُ وَهُوَ حَيٌّ، فَيُنْزَى فِي ضَرْبِهِ فَيَمُوتُ، فَتَكُونُ فِي ذَلِكَ الْقَسَامَةُ.
2580 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْعَمْدِ الرِّجَالُ الأَحْرَارُ، بِالرَّجُلِ الْحُرِّ الْوَاحِدِ، وَالنِّسَاءُ بِالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ، وَالْعَبِيدُ بِالْعَبْدِ كَذَلِكَ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانِها على لسان خير بريّته، حبيبِه وعبده وصفوته سيدِنا مُحمَّدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته، وأهلِ ولائه ومحبته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرةِ الرحمن في خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالكٌ -عليه رحمة الله- في الموطأ، ذكرَ ما يتعلّق بالحدود، والقتل العمد، وما كان من خطأ، وما كان من شبه عمدٍ عند الأئمة الثلاثة.
فهو المشهور عند الشافعية وفي مذهب الإمام أحمد، وروايةٌ عن الإمام مالك فيما يتعلق بشأن القصاص والدية، وهل العمد العدوان يختص بالقصاص فقط أو يكون بأحد الشيئين.
ثم بعد ذلك أن القتلَ العمد، يلزم فيه القِصاصُ كما يأتي التفصيل.
وذكر: أَنَّ "عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَقَادَ وَلِيَّ رَجُلٍ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ بِعَصاً، فَقَتَلَهُ وَلِيُّهُ بِعَصاً."؛ يعني: يجوز أن يكون قتلُ القاتل العمد العدوان، على الهيئةِ والحالة التي قَتَـل عليها هو، فـيُـقتلُ بما قَتَلَ به.
ولما اعترف اليهوديُ أنه رضخَ رأسَ جاريةٍ من الأنصار بحجر، لمّا اعترف، أُتيَ به إلى النبي ﷺ، فرُضخَ رأسُه بين حجرين كما فعل. كما أن الذين قتلوا راعيَ الإبل لرسول الله ﷺ، بتقطيعِه وسَمْل عينيه، قطَّعهم وسَمَل أعينَهم كما فعلوا بالمقتول، وهكذا، ولو كان ذلك بالنار، وفي روايةٍ عند المالكية يقولون: إذا كان قَتَلَهُ بالنار فلا يُقتل بالنار، لحديث: "لا يعذّبُ بالنار إلا ربُّ النار".
ولكن المشهور أيضًا من قول الإمام مالك وأصحابه: أنه يُقتل أيضًا بها، كما هو عند الجمهور غير الحنفية، لأنه كان ذلك قصاصًا وجزاءً بمثل ما قَـتَـل به المقتول.
وكذلك في الرمي بالحجارة، يقول ابن الماجشون من المالكية: أنه لا يأتي على ترتيب القتل، لكن المشهور في مذهب مالك كما هو عند الشافعي وأحمد بن حنبل: يُقتلُ أيضًا بالحجارة، يُضرب بالحجارة حتى يموت، وهكذا إذا جرحَ رَجلاً ثم ضَرَب عنقه.
وحديثُ ابن ماجه: "لا قَوَدَ إلا بالسيف" قال الإمام أحمد: إسناده ليس بجيّد.
فكذلك إذا قَتَله بغير سيفٍ، بحجرٍ أو هدمٍ أو تغريق، يُستوفى القِصاصُ بمِثل ما فعله، وهكذا هي الرواية عند الإمام أحمد، والثانية: ما يُستوفى إلا بالسيف، فالمعتمد عندهم كذلك عند المالكية والشافعية: أنه يُستوفى منه القصاص بمثل ما فعَله. وهكذا جاء في الحديث أنه ﷺ يقول فيما روى الإمام البراء بن عازب أنه ﷺ قال: "من حَرَّق حرَّقناه، ومن غرَّق غرَّقناه"؛ يعني: يكون القِصاصُ على مثل ما فعل. وإنْ اقتصر على حزِّ رقبته فقط، فذلك أفضل، إذا اقتصر أولياءُ المقتول على ذلك، فذلك أفضل لهم؛ لأنهم سامحوا في بعض الحق.
ثم ذكر الإمام مالك قال: "الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا"؛ يعني: علماء المدينة المنورة "أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ضَرَبَ الرَّجُلَ بِعَصاً، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرَبَهُ عَمْداً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَمْدُ، وَفِيهِ الْقِصَاصُ". إذًا: إذا تحقق القتلُ العمد العدوان، فيترتب عليه القصاص، إذا كان المقتولُ حرًّا مسلمًا مكافئًا للقاتل، فلا خلاف أيضًا الفقهاء في أنّ الواجب هو القصاص والقَوَد، كما قالت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) [البقرة:178]، إلا أن يعفوَ وليُّ المقتول، وهذا معلومٌ كما جاء في الحديث وفيه: "من قَـتَـل عمدًا فهو قَوَد".
ثمّ بعد ذلك ما أشَرَنا إليه من أن الدية هل هي عقوبةٌ أصلية لقتل العمد؟ أو أنها ليست أصلية وإنما تَجِب بالصُّلح؛ برضا الجاني؟
ويقول مالك -عليه رضوان الله-: "فَقَتْلُ الْعَمْدِ عِنْدَنَا: أَنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَضْرِبَهُ حَتَّى تَفِيض نَفْسُهُ"
"فَقَتْلُ الْعَمْدِ عِنْدَنَا: أَنْ يَعْمِدَ"؛ يقصد "الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَضْرِبَهُ حَتَّى تَفِيضَ نَفْسُهُ"؛ أي: روحه، فهذا كما بيّنه الإمام مالك في مذهبه، أن من قتلَ حرًّا بآلةٍ يُـقتَـل بمثلِها، أو قَصَدَ القتل وَجَبَ عليه القَوَد، وعليه عامة الجمهور كما علمنا.
كذلك الكفّارةُ على من قَـتَـل خطأً، كما نصّت الآية عليه، عليه الكفّارة بعتق رقبةٍ أو صيام شهرين متتابعين، هذا في القتل العمد اختلف فيه:
قال الشافعية: الكفارة محتاجٌ إليها قاتل العمد، أحوجُ من قاتل الخطأ، فإذا كان قاتل الخطأ يحتاج إلى كفّارة فهذا أحوجُ إلى أن يُكفِّر، وعليه الكفارة، من عتق رقبةٍ أو صوم شهرين متتابعين، إن عجز عن إخراج الرقبة.
ثم إنّ الإمام مالك عنده:
ولم يَقُـل بشبه العمد.
قال الأئمة الثلاثة: القتل ثلاثة أنواع:
فيجب على الجاني في القتل شبه العمد: الدّيةُ والكفّارة أيضًا، وإن كان المقتول موروثًا له، فيُحرَم من الميراث، والديةُ أيضًا في شبه العمد تكون مغلّظةً، وتجب على عاقلة الجاني عند الجمهور، ولا يشتركُ هو فيها، إنّما تكون على عاقلته. وقال الحنفية: هو واحدٌ من العاقلة، أيضًا يُخرج الدية.
يقول: "وَمِنَ الْعَمْدِ أَيْضاً أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي النَّائِرَةِ" يعني: العداوة والشحناء، مشتقة من النار، "فِي النَّائِرَةِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا"؛ أي: تكون النائرةُ بينهما بين الضارب والمضروب، "ثُمَّ يَنْصَرِفُ" المضروب "عَنْهُ" عن صاحبه "وَهُوَ حَيٌّ، فَيُنْزَى"؛ أي: يصيبُه بجرحٍ يَنزى ويخرجُ منه الدم، يجري دمُه ولا ينقطع، "فِي ضَرْبِهِ فَيَمُوتُ" المجروح في ذلك الجرح، "فَتَكُونُ فِي ذَلِكَ الْقَسَامَةُ" التي هي خمسون يمينًا، وذلك أنه عند الإمام مالك داخل في القَسامة، واختلف الأئمة في ذلك.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا : أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْعَمْدِ الرِّجَالُ الأَحْرَارُ، بِالرَّجُلِ الْحُرِّ الْوَاحِدِ" كما تقدّم معنا من أن سيدَنا عمر أمرَ بقتل سبعةٍ اجتمعوا على قتل غلامٍ واحد، مهما اجتمع على قتله وتشارك فيه عددٌ، فيُقتلون به. "يُقْتَلُ فِي الْعَمْدِ الرِّجَالُ الأَحْرَارُ، بِالرَّجُلِ الْحُرِّ الْوَاحِدِ، وَالنِّسَاءُ بِالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ، وَالْعَبِيدُ بِالْعَبْدِ كَذَلِكَ"، فتُـقتـلُ الجماعةُ بالواحد، إذا اشتركوا في قتله، وهو قول جمهور العلماء، قال سيدنا عمر في المقتول: "لو تمالأََ عليه أهلُ صنعاءَ لقتلتُهم به".
وهكذا تقدّم معنا أن القاتل يُقتصُّ منه بمثل الطريقة والآلة التي قَـتَـل بها، لما ذكرنا من الآيتين، إلا أن تكون الطريقةُ محرّمةً، كيف؟
وهكذا يقول الحنفية والحنابلة: أن القصاص يكون بالسيف، ويكون في العنق، كما تقدّمت الإشارة، وأخذوا الحديثَ الذي ذكرنا أن الإمام أحمد ذكَر أن سندَه ليس بجيّد عند النسائي: "لا قَوَدَ إلا بالسَّيف".
وهذا القصاصُ حقُّ المجني عليه، لأن الجناية وقعت عليه، فإذا عفا المجني عليه بشروطه، سقط القِصاصُ، فإذا مات المجنيُ عليه من غير عفوٍ، انتقل حقُ القصاص إلى الورثة، مشترَكٌ بينهم، كلٌّ بحسب حصّته في التركة.
واستيفاءُ القصاص عند المالكية لورثة المجني عليه، أو لعصَبةِ المجني عليه، الذكور فقط، وبعد ذلك النساء عندهم، إذا كُنَّ من ورثة المجني عليه، كالبنت والأخت، ولا يُساويهنّ عاصب، ليس لهنّ عاصب، وتكونُ المرأةُ الوارثة ممّن لو كانت ذكراً لكانت عَصَبةً، فعندهم المرأةُ بهذه الشروط لها حقُ القِصاص، وإلا فحقُّ القِصاص لعَصَبة الذكور فقط، في مذهب الإمام مالك عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
وأمّا الوليُّ لا يستوفي القِصاص عمّن يلي عليه، أبٌ أو غيره، فإذا لم يكن للمقتول وارث ولا عَصَبةً، كان حقُّ استيفاء القصاص للسلطان؛ لولايته العامة، والسلطان ليس له أن يعفو، إقامةً للحد.
وهكذا تأتي المسائل المتعلقة بالقِصاص معنا إن شاء الله تبارك وتعالى، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179].
اللهمّ اجعلنا من أولي الألباب، وارزقنا فهم ووعي الخطاب في الكتاب، وسنّة سيّد الأحباب، واعصمنا والمسلمين في أدياننا وفي دمائنا وفي أعراضنا وفي أموالنا، عصمةً تقينا بها الأسواء، وتحفظنا بها من البلوى، وتصلح السرّ والنجوى، وترفعنا أعلى مراتب التقوى في خيرٍ ولطفٍ وعافية، آمين، الفاتحة.
07 جمادى الأول 1444