(535)
(604)
(339)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول: باب مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ الْعَقْلِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ.
فجر الأحد 3 جمادى الأولى 1444هـ.
باب مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ الْعَقْلِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ
2557 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَشَدَ النَّاسَ بِمِنًى: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الدِّيَةِ أَنْ يُخْبِرَنِى. فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلابِي فَقَالَ: كَتَبَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَأبِي مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ادْخُلِ الْخِبَاءَ حَتَّى آتِيَكَ، فَلَمَّا نَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ، فَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ قَتْلُ أَشْيَمَ خَطَأً.
2558 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِى مُدْلِجٍ، يُقَالُ لَهُ قَتَادَةُ، حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ، فَأَصَابَ سَاقَهُ فَنُزِىَ فِي جُرْحِهِ فَمَاتَ، فَقَدِمَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْدُدْ عَلَى مَاءِ قُدَيْدٍ عِشْرِينَ وَمِئَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ ثَلاَثِينَ حِقَّةً، وَثَلاَثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ : خُذْهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَىْءٌ".
2559 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلاَ: أَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؟ فَقَالاَ: لاَ، وَلَكِنْ يُزَادُ فِيهَا لِلْحُرْمَةِ. فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: هَلْ يُزَادُ فِي الْجِرَاحِ كَمَا يُزَادُ فِي النَّفْسِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
2560 - قَالَ مَالِكٌ: أُرَاهُمَا أَرَادَا مِثْلَ الَّذِي صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عَقْلِ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ أَصَابَ ابْنَهُ.
2561 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ : أُحَيْحَةُ بْنُ الْجُلاَحِ ، كَانَ لَهُ عَمٌّ صَغِيرٌ هُوَ أَصْغَرُ مِنْ أُحَيْحَةَ، وَكَانَ عِنْدَ أَخْوَالِهِ، فَأَخَذَهُ أُحَيْحَةُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ أَخْوَالُهُ : كُنَّا أَهْلَ ثُمِّهِ وَرُمِّهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى عُمَمِهِ، غَلَبَنَا حَقُّ امْرِئٍ فِي عَمِّهِ.
قَالَ عُرْوَةُ فَلِذَلِكَ لاَ يَرِثُ قَاتِلٌ مَنْ قَتَلَ.
2562 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لاَ يَرِثُ مِنْ دِيَةِ مَنْ قَتَلَ شَيْئاً، وَلاَ مِنْ مَالِهِ، وَلاَ يَحْجُبُ أَحَداً وَقَعَ لَهُ مِيرَاثٌ. وَأَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَأً لاَ يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئاً، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِهِ، لأَنَّهُ لاَ يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ وَلِيَأْخُذَ مَالَهُ، فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِهِ، وَلاَ يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته العظيمة، وبيانها على لسان عبده سيدنا مُحمَّد الداعي إلى الطرق القويمة، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه أهل الوجهة إلى الحق تبارك وتعالى بالهِمم العظيمة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ساداتنا آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين أهل المراتب الرفيعة الفخيمة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويُتابع سيدنا الإمام مَالك -عليه رضوان الله تعالى- ما يتعلق بالعقل والدِّيَّة من مسائل، يقول: "باب مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ الْعَقْلِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ".
وذكر لنا عن سيدنا عُمَر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه "نَشَدَ النَّاسَ"؛ أي: طلب ونادى الناس سألهم، وذلك حين كان بمنى أيام اجتماع الحُجاج في حجّته، قال: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الدِّيَةِ" فلا بدّ له "أَنْ يُخْبِرَنِى" وهكذا.. "فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ -بن عوف المالك- الْكِلابِي" العامري الضبابي -رضي الله تعالى عنه- ويعدّ من أهل المدينة، كان ينزل بنجد، ولّاه النبي ﷺ على من أسلم من قومه، وكان من شجعان الصحابة، سيدنا الضَّحاك بن سفيان هذا يُعد بمائة فارس، بعثه النبي ﷺ على سرية وعقد له لواء.
يقول الضحّاك: "كَتَبَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"، لأنه كان استعمله على الأعراب هناك حين كان ينزل بنجد، فكان واليًا على من أسلم هناك بتولية النبي ﷺ، قال كتب إليه: "أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ" وذلك أن أشيم الضُبابي قُـتِل في عهد النبي ﷺ، فكانت قتلة خطأ، قُتِل خطًأ، فيحتاجون إلى قسم ديته، قال أمرني ﷺ فيما بعث إليّ، أن أورّث امرأته، يعني: زوجته التي مات عنها "مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ادْخُلِ الْخِبَاءَ حَتَّى آتِيَكَ، فَلَمَّا نَزَلَ" سيدنا عمر في الخيمة "أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ" الخبر واستفسره ما الذي حدث، فقال: إني لمّا كنت متوليًا على قومي بنجدٍ، وقُتل فلان هذا أشيم، ووجبت ديته لأنه قُتل خطأ، بعث إليّ النبي ﷺ أن أورّث زوجته، وكان سيدنا عمر يرى أن الذي يرث الدِّيَة فقط عَصَبة الميت الذين يعقِلونه، هم يرثون ديته، فرجع عن ذلك لمّا أخبره سيدنا الضحّاك بأن رسول الله ﷺ أمره أن يورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، هكذا الحديث جاء عند سنن الأربعة كذلك.
وفيه: حرص الصحابة الكرام على الاستزادة من العلم والاستفادة منه وهم في أواخر أعمارهم، وفي قمة شريف المراتب وعليّ المنازل، فهذا يناشد الناس، سيدنا عُمَر بن الخطاب، واغتنم الفرصة حين اجتماعهم بمنى، من عنده علمٌ في هذه المسألة؟، يعني عن رسول الله ﷺ ، إذًا فلا يغتني أحدٌ عن أن يستزيد من العلم، وأن يُباحث مهما بلغ من العلم، ومهما كانت رتبته في الفضل والشرف، إنه محتاجٌ إلى أن يتفقّه، ويعرف ما ورد عن الله وعن رسوله ﷺ في المسائل ليكون على بيّنةٍ وعِلم، وهذا يناشد الناس في مِنى حين اجتماع الحُجاج، من عنده علم بكذا كذا؟ لمّا كلمه الضحّاك قال له: ادخل الخيمة! ثم جاء ونزل إليه واستفسره عن الأمر الذي ذكره، فتبيّن له، فرجع عُمَر -رضي الله عنه- إلى أن الدِّيَة يرثها ورثة المقتول على حسب مواريثهم.
إذًا؛ فالمستحق للدِّية:
وهكذا جاء عن عمرو بن شعيب أن رسول الله ﷺ قال: "العَقْلَ ميراثٌ بيْنَ وَرَثةِ القَتيلِ على فَرائِضِهم"، أخرجه النَّسائي وأبو داود بإسناد حسن. يقول: "العَقْلَ ميراثٌ بيْنَ وَرَثةِ القَتيلِ على فَرائِضِهم". إذًا، فالدِّيَة حينئذٍ إرثٌ يرثها ورثة المقتول على حسب فرائضهم فيما ذكر الله تبارك وتعالى.
وعلمنا أنّ سيدنا عُمَر كان يقول: لا يرث الدية إلا عَصَبات المقتول، ورجع عنه لما جاءه الخبر عنه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم.
فإذا لم يوجد للمقتول وارث؟ صارت ديته لبيت مال المسلمين، جاء في الحديث يقول: "أنا وارِثُ مَن لا وارِثَ له، أعقِلُ عَنه وأرِثُه"، صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، فيرجع إلى بيت المال.
"قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ قَتْلُ أَشْيَمَ خَطَأً" أي: فتلزم فيه الدِّيَة دون غيره، ليس فيه قصاص؛ ولكن بالنسبة لحكم الدِّيَة إذا عفا أحد من ورثة المقتول على الدِّيَةِ، فالحكم نفسه، الدِّيَة وإن كان بعمد قُتِل، وإذا رضوا بالدِّيَة أو بعضهم، فالدِّيَة تُقسم على حسب المواريث كذلك.
قال: ثُمَّ ذكر: "عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِى مُدْلِجٍ، يُقَالُ لَهُ قَتَادَةُ، حَذَفَ ابْنَهُ" لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم! موت الغضب، يعني: رماه، وهذا رمى بالسيف "حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ"، وفي رواية "بسيفٍ"، إنا لله وإنا إليه راجعون، أمر ابن له ببعض الأمر فأبطأ عليه فحذفه بالسيف، فوقعت على رجله، قطع رجله، فسرى إليه الموت فمات، فبلغ ذلك عُمَر بن الخطاب فقال: لأقتلنّ قتادة، يعني هذا الأب، فأتى سراقة بِنْ مالك، قال: يا أمير المؤمنين إنه لم يُرِد قتله إنما كانت بادرةً منه في غضب، لم يزل به حتى ذهب ما كان في نفسه عليه، ثم قال: مُرّهُ فليلقَني بقُديد بعشرين ومئة من الإبل، ففعل، فأخذ عمر بن الخطاب منها "ثَلاَثِينَ حِقَّةً، وَثَلاَثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ ثنيّة خَلِفَةً" وقال لقتادة: لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَىْءٌ " لورّثتك منه. نعم القاتل لا يرث، وإن كان القاتل هو من الورثة ما يُعطى له شيء من الدِّيَة، ثم دعا أخا المقتول فأعطاه إياه.
جاء في روايةٍ أن هذا الرجل من بني مُدلج يدعى قتادة كانت له أم ولد، كان له منها ابنان، تزوج عليها امرأة من العرب قالت: لا أرضى عنك حتى ترعى على أم ولدك، فأمرها أن ترعى عليها، فأبى ابناها ذلك، فتناول قتادة إحدى ابنيه بالسيف فمات.
"فَقَدِمَ سُرَاقَةُ" بن مالك "بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ" قال: "اعْدُدْ عَلَى مَاءِ قُدَيْدٍ" أرضَ في بني مُدلج "عِشْرِينَ وَمِئَةَ" من الإبل، "فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ ثَلاَثِينَ حِقَّةً، وَثَلاَثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً"، ثُمَّ "قَالَ: أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ؟" سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ليس للقاتل شيء"، وهكذا جاء بطرق: "ليس للقاتل شيء" فمَن قتل مورِّثه فلا يَرِثَه أصلاً، لا من الدِّيَة ولا من غيرها؛ لأنه هو السبب في قتله، ليس للقاتل في ترِكة المقتول شيء.
وتوسّع الشَّافعية في هذا فقالوا: كل من له دخلٌ في القتل ولو بغير قصد ولو بغير عمد ولو من بعيد، حتى أنه لو حفر بئرًا، فجاء مورّثه فسقط فيها لم يرثه؛ لأنه له سبب في قتله، لولا حفرك هذا البئر لا بيسقط ولا بيموت، فذا الحين أنت السبب، ولو كان طبيبًا يعالج، فعالج أباه فمات، فعند الشَّافعية ليس له شيء في الإرث، إذا كان للعلاج دخل وسبب الموت، فلهذا بعض الأطباء ما عادَ يعالج والده، لأنه ربما يموت بمرضه فيُشتبه أن علاجه كان سببًا من الأسباب، فيجعل غيره يعالجه.
ومن الأئمة الأربعة من قال: إنما لا يرث قاتل العمد العدوان، ويرث غيره ولو خطأ، ولكن كما في المسألة القتل خطأ، ووجبت به الدية، فلم يورّث سيدنا عُمَر القاتل وإن كان خطأً، واستدلّ بقوله ﷺ: "ليس للقاتل شيء"، وعليه بعض الأئمة الأربعة: أن كل قتلٍ أورث ديَّةً أو قصاصًا فلا يرِث صاحبه، وإن كان غير ذلك مثل هذا الذي حفر البئر وغيره فعندهم يرث، لا يضر؛ إنما الذي يوجب القصاص أو الدِّيَة هذا الذي لا يرث صاحبه إذا قُتِلَ مورّثه بسببه.
قال: "فَأَصَابَ سَاقَهُ فَنُزِىَ فِي جُرْحِهِ" أصاب السيف ساق الولد، "فَنُزِىَ فِي جُرْحِهِ" يعني: أصابه فنزيَ منه "فَمَاتَ" نُزي؛ يعني: سال دمه ولم ينقطع لم يسكن، فمات الولد، وقدِمَ سراقة بن جعشم، هذا سراقة بن جعشم هذا صاحب مُدلج، صاحب القصة في الهجرة، هو الذي لقِيَ النَّبي وأبو بكر الصديق، وهو الذي لبس سواري كسرى وقيصر، عليه الرضوان.
قال له: يا أمير المؤمنين إنّه لم يُرِد قتله، فأمره أن يُعدّ الدِّيَة ليسلّمها، فسلّمها لأخيه، يعني: عم المقتول هذا، ولم يعطِ أباه منه شيء؛ لأنه هو سبب في قتله. ولماذا يزيد عشرين؟ الدِّيَة مائة بس فقط! كيف عشرين ومائة هذا؟!
على كل حال هو لم يأخذ إلا المائة، أو الاحتمال أنه أمر بالمائة والعشرين من أجل أن ينظر ما لم يوافق ولم يصلح من هذه يبدّلها بهذه حتى أخذ مائة كاملة ورد له الباقي حقه العشرين، وهكذا.
وأما القصاص فإنه لم يفعل ذلك متعمِدًّا وأنّه بالخطأ، ولو فعله متعمدًّا بحيث قصد إلى قتله، فإن كان قتل الغيلة، الغيلة؛ يعني: قصد إلى قتله مثل إذا أضجعه يذبحه أو يشق بطنه هذا كان قتل الغيلة وهذا الذي فيه الخلاف، أو أن كان مثل هذا رمي بحجر، أو سيف، أو رمح أو مثل ذلك، يُحتمل أن يريد به غير القتل، فقتل الغيلة:
فإذا كان الأصل الفرع جزء منه، بخلاف مثلًا الأب من الرضاع، إذا قتل ولده من الرضاع يُقتل، فهو ليس جزء منه؛ إنما إذا كان جزء منه، فإذًا الأب لا يُقتل بولده.
كذلك الجد لا يُقتل بولد ولده وإن نزلت درجته، وسواءً أولاد البنين أو أولاد البنات، وعلى هذا كان سيدنا عُمَر، وبه قال الثوري والأوزاعي والإمام الشَّافعي وأبو حَنِيفَة، وفهمت تفصيل الإمام مَالِكْ:
لما جاء في الحديث: "لا يُقتَلُ والدٌ بولدِه".
قال: "عِشْرِينَ وَمِئَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ"، يعني: في قديد، "فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ ثَلاَثِينَ حِقَّةً، وَثَلاَثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً"، مائة فقط ما أخذ زائد على المائة، ما أخذ مائة وعشرين، "ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ؟" أخو المقتول ابن هذا الذي … "قَالَ -أخوه-: هَا أَنَا ذَا. قَالَ -عمر: خُذْهَا" فلم يعطِ أباه شيئًا، لأن النبي ﷺ قَالَ: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَىْءٌ".
ثم ذكر لنا: "أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلاَ: أَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ" أي: ديَة الذي قُتِل "فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ فَقَالاَ: -كلاهما- لاَ،" يعني: لا تغلّظ باعتبار عدد، "وَلَكِنْ يُزَادُ فِيهَا لِلْحُرْمَةِ"؛ يعني: في أسنانها، حرمة الأشهر الحرم.
"فَقِيلَ لِسَعِيدٍ : هَلْ يُزَادُ فِي الْجِرَاحِ" في الأشهر الحُرُم "كَمَا يُزَادُ فِي النَّفْسِ؟ فَقَالَ : نَعَمْ" يُزاد في الجراح أيضًا.
"قَالَ مَالِكٌ: أُرَاهُمَا"؛ يعني: سعيد بن المسيّب وسليمان بن يسار، قال: "أُرَاهُمَا أَرَادَا مِثْلَ الَّذِي صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عَقْلِ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ أَصَابَ ابْنَهُ"؛ ثلّث سيدنا عُمَر الدِّيَة وأخذ أربعين خليفة، يعني: حوامل، ولم يزِد في العدد إنّما زاد في السِّن.
فأمّا في الجروح: إذا عفا صاحب الجرح خلاص سقط الحق، وأما إذا سرى الجرح فقتل وهو كان عفا، كان عفا عن القطع، فبقي حق الدِّيَة مكانه، لأجل النفس، وإن كان عفا عن الجناية نفسها أو عن القطع وما تفرّع منه وما تسبّب فيه، فهذا عفو من الميت لكنه لا يُعدّ على ورثته، فإن الحق إنما يثبت بموته، وهذا عفو قبل أن يثبت الحق، فيصير كحكم الوصية، إن كان وصّى ففي الثلث ينفذ، وما زاد فالحقّ للورثة.
يقول الأئمة: الإمام الشَّافعي ومَالِكْ وكذلك أحمَدْ: أنه قد تُغلّظ أصل الدِّيَة، وما هي الأسباب؟ أسباب التغليظ:
هكذا يقول الشَّافعية والحَنَابِلَة..
فهذه أسباب تُغلّظ بها الدِّيَة. كيف تُغلّظ؟
والقتل الذي يتعلّق به القصاص، يمنع القاتل البالغ العاقل من الميراث هذا بالاتفاق؛ ولكن بعد ذلك سمعت الخلاف بين الأئمة.
فيقول: القتل العدوان العمد الذي يوجب القصاص: أن يقصد الجاني من يعلم آدميًا معصومًا ليقتله بما غلب على ظنه أنه قتله، فهذا أيضًا من غير شك هو القتل الذي يُحرَم به الإرث.
واختلفوا بعد ذلك في عمد الصبي والمجنون.
يقول: "أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أُحَيْحَةُ بْنُ الْجُلاَحِ، كَانَ لَهُ عَمٌّ صَغِيرٌ هُوَ أَصْغَرُ مِنْ" ابن أخيه هذا "أُحَيْحَةَ، وَكَانَ عِنْدَ أَخْوَالِهِ، فَأَخَذَهُ أُحَيْحَةُ"؛ يعني: على الحضانة، "فَقَتَلَهُ"؛ يعني: جرى منه في مقامه عنده شيء قتله بسببه أُحَيْحَةُ "فَقَالَ أَخْوَالُهُ: كُنَّا أَهْلَ ثُمِّهِ وَرُمِّهِ"؛ يعني: أهل إحكام للشيء وإحسان، يعني نحن أهل لنربّي هذا الولد ونتولّى إصلاح شأنه. فالثم: الخير، والرُم: الشر، يعني: قصدوا بذلك أنهم كانوا يُحكِمون التربية ومن تولّوا إصلاح شأنه، ويسوقون إليه الخير ويجنّبونه الشر، "كُنَّا أَهْلَ ثُمِّهِ وَرُمِّهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى عُمَمِهِ"؛ يعني: على طوله واعتدال شبابه، صار صاحب عُمم، يعني تمام الجسم والشباب، "غَلَبَنَا" يعني: غَلب علينا "حَقُّ امْرِئٍ فِي عَمِّهِ"؛ يعني: أخذه منّا قهرًا علينا، "قَالَ عُرْوَةُ فَلِذَلِكَ لاَ يَرِثُ قَاتِلٌ مَنْ قَتَلَ" لا يرث من قتله.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لاَ يَرِثُ مِنْ دِيَةِ مَنْ قَتَلَ شَيْئاً، وَلاَ مِنْ مَالِهِ، وَلاَ يَحْجُبُ أَحَداً وَقَعَ لَهُ مِيرَاثٌ" كأنه عَدَم، "وَأَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَأً لاَ يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئاً، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِهِ" من غير دية هل يرث أو لا يرث؟ "لأَنَّهُ لاَ يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ وَلِيَأْخُذَ مَالَهُ"، قال: "فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِهِ، وَلاَ يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ"، هذا عند الإمام مَالِكْ عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
إذًا، فاختلفوا في ميراث القاتل:
إذًا؛ أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيء، والخلاف في مسألة الخطأ، والحديث تقدّم معنا: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَىْءٌ"، وكذلك أكثر أهل العلم؛ أنه وإن كان القتل خطًأ فإنه لا يَرِث من مقتولهِ شيء.
عصم الله دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وأصلح أحوالهم، ودفع السوء عنّا وعنهم أجمعين، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، رقّانا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي الأمين ﷺ.
03 جمادى الأول 1444