شرح الموطأ -464 - كتاب العقول: باب ما جاء في دِيَة أهْلِ الذِّمَّة

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول: باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ أَهْلِ الذِّمَّة.

فجر السبت 2 جمادى الأولى 1444هـ.

 باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ

2544 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى: أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ إِذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا، مِثْلُ نِصْفِ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ.

2545 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنْهُ لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، إِلاَّ أَنْ يَقْتُلَهُ مُسْلِمٌ قَتْلَ غِيْلَةٍ، فَيُقْتَلُ بِهِ.

2546 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَانَ يَقُولُ : دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِى مِئَةِ دِرْهَمٍ.

قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.

2547 - قَالَ مَالِكٌ: وَجِرَاحُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فِي دِيَاتِهِمْ، عَلَى حِسَابِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَاتِهِمْ، الْمُوضِحَةُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ وَالْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ دِيَتِهِ وَالْجَائِفَةُ ثُلُثُ دِيَتِهِ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ جِرَاحَاتُهُمْ كُلُّهَا.

 باب مَا يُوجِبُ الْعَقْلَ عَلَى الرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ مَالِهِ

2548 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَقْلٌ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، إِنَّمَا عَلَيْهِمْ عَقْلُ قَتْلِ الْخَطَإِ.

2549 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لاَ تَحْمِلُ شَيْئاً مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاؤُوا ذَلِكَ.

2550 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِثْلَ ذَلِكَ.

2551 - قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَالَ : مَضَتِ السُّنَّةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ حِينَ يَعْفُو أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ: أَنَّ الدِّيَةَ تَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً : إِلاَّ أَنْ تُعِينَهُ الْعَاقِلَةُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا.

2552 - قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ عِنْدَنَا : أَنَّ الدِّيَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّلُثَ فَصَاعِداً، فَمَا بَلَغَ الثُّلُثَ فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ، فَهُوَ فِي مَالِ الْجَارِحِ خَاصَّةً.

2553 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قُبِلَتْ مِنْهُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ: أَنَّ عَقْلَ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِلاَّ أَنْ يَشَاؤُوا، وَإِنَّمَا عَقْلُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ أَوِ الْجَارِحِ خَاصَّةً إِنْ وُجِدَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ كَانَ دَيْناً عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاؤُوا.

2554 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَحَداً أَصَابَ نَفْسَهُ عَمْداً أَو خَطَأً بِشَيْءٍ, وَعَلَى ذَلِكَ رَأْىُ أَهْلِ الْفِقْهِ عِنْدَنَا، وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَداً ضَمَّنَ الْعَاقِلَةَ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ شَيْئاً، وَمِمَّا يُعْرَفُ بِهِ ذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ : (فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [البقرة:178] فَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ : أَنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَقْلِ فَلْيَتْبَعْهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ.

2555 - قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لاَ مَالَ لَهُ، وَالْمَرْأَةِ الَّتِي لاَ مَالَ لَهَا: إِذَا جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةً دُونَ الثُّلُثِ، إِنَّهُ ضَامِنٌ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ فِي مَالِهِمَا خَاصَّةً، إِنْ كَانَ لَهُمَا مَالٌ أُخِذَ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَجِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ عَلَيْهِ لَيْسَ، عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلاَ يُؤْخَذُ أَبُو الصَّبِيِّ بِعَقْلِ جِنَايَةِ الصَّبِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.

2556 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قُتِلَ كَانَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ يَوْمَ يُقْتَلُ، وَلاَ تَحْمِلُ عَاقِلَةُ قَاتِلِهِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ شَيْئاً، قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَصَابَهُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً، بَالِغاً مَا بَلَغَ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ الدِّيَةَ أَوْ أَكْثَرَ، فَذَلِكَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَذَلِكَ لأَنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنَ السِّلَعِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرمنا بشريعتِه وبيانِها على لسان عبدِه وحبيبه وصفوتِه، سيدِنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرَّمَ عليه وعلى آله وأصحابه وعِترته، وعلى أهل وَلائِه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورُسلِه وصفوتِه من خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويذكرُ الإمام مالك ما جاء في دية الذمِّي؛ إذا قُتِلَ ذمّي فكم الديةُ؟ سواءً قتلَه ذميٌ آخَر أو قتلَه أحدٌ من المسلمين، فما يلزَمُ من جهةِ الدية، واختلاف الأئمةُ في ذلك. ومذهب الإمام مالك: أنها نصفُ ديةِ الحرِّ المسلم، وهكذا يقول الحنابلة؛ فعند الحنابلة والمالكية: أن الديةَ بالنسبة لليهوديِ والنصراني إذا قُتِل أحدُهما مثلُ نصفِ دية الحرِّ المسلم.

"وقال مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى: أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ إِذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا، مِثْلُ نِصْفِ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ." ونساؤهم على النصف من دياتِ رجالهم، أما كونُ ديةِ النساء على النصف من دياتِ الرجال، فهذا متفقٌ عليه.

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنْهُ لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"، ولو حرًّا ولو ذمّيًا، وعليه جماهير أهل العلم: أنه لا يُقتلُ المسلمُ بالكافر، بل يكونُ عليه الجَلد والسجن والدِّية أيضًا، وإلى غير ذلك.

  • عرفنا مذهبَ الإمام مالكٍ والإمام أحمد بن حنبل، أنَّ دية الذمِّي إذا قُتِل نصفُ ديةِ المسلم الحر.
  • قال الحنفية: الدية واحدةٌ للمسلم وللذمِّي ولغيرِهم إذا قُتِل، فالديةُ هي نفسُ الدية.
  • والشافعية قالوا بالثلث. 

وجاء عن سيدِنا عمر وعثمان: أن ديتَه أربعة آلاف درهم -وهذه هي الثلث- وبه قال الإمام الشافعي، لما جاءَ في روايةٍ عن عبادة بنِ الصامت عن النبي ﷺ قال: "ديةُ اليهوديِّ والنصراني أربعةُ آلاف"، وهذه ثلثُ ديةِ المسلم، وجاء أيضًا في روايةٍ عند الإمام أحمد بن حنبل: دية المُعَاهَد نصفُ دية المسلم.

  • ثم الجمهور على أنه لا يُقتلُ مسلمٌ بكافر، وهكذا أيضًا أكثرُ أهل العلم، لا يوجبون على مسلمٍ قصاصًا بقتل كافر، -أيَّ كافرٍ كان-، وعليه ساداتُنا عمرُ وعثمان وعليٌّ، وزيد بن ثابت، وجماعةٌ من الصحابة.
  • وجاء عن النخعي والشعبي، وكذلك عند الحنفية: أنه يُقتلُ المسلمُ بالذمي خاصة. ويستدلون أنه رُوي أن النبي ﷺ أقادَ مسلماً بذمِّي، وقال: "أنا أحقُّ من وفَّى بذمَتِه".

والحديث المشهور في رواية الإمام أحمد وأبي داود وغيرِهم: "لا يُقتلُ مؤمنٌ بكافرٍ"، وفي لفظٍ: "لا يُقتلُ مسلمٌ بكافر"، في رواية البخاري، "لا يُقتل مسلمٌ بكافر" فجعلوا العموماتِ مخصوصاتٍ بهذا الحديث.

ويدُ المسلم تُقطع إذا سرقَ من مال الذمي، نعم. فقال الحنفية :إذا كانت حرمةُ مالُه كحُرمةِ مال المسلم، فَدَمُه كذلك، ورَأَوا أنه يُقتل المسلمُ بالذمي. 

قال: "إِلاَّ أَنْ يَقْتُلَهُ"؛ أي: الكافر "مسلمٌ قتْلَ غيلةٍ"؛ أي: خديعةٍ، "فيُقتلُ" المسلمُ  بالكافر عند الإمام مالكٍ إذا كان قَتْلَ خديعةٍ وغيلةٍ "فَيُقْتَلُ بِهِ".

فإذًا:

  • قال قومٌ من أهل العلم لا يُقتل مؤمنٌ بكافر، وبه أخذَ الشافعي وأحمد بن حنبل وجماعة.
  • وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة: أنه يُقتل.
  • وقال مالكٌ إن كان قَتَلهُ غيلةً يُقتل به، وإن قَتَلَه غيرَ غيلةٍ فلا يُقتل، ومن الغيلة القتل لأخذ المال.

"عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كَانَ يَقُولُ: دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِى مِئَةِ دِرْهَمٍ."؛ أي: ثلُثُ خُمُسِ ديّة المسلم. "قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا."، فصارت  "دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِى مِئَةِ دِرْهَمٍ" ونساؤُهم على النصف، وهذا قولُ أكثر أهل العلم. وبذلك أيضًا يقول الإمام الشافعي:  ديةُ المجوسي ثَمَانِى مِئَةِ دِرْهَمٍ.

"قَالَ مَالِكٌ: وَجِرَاحُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فِي دِيَاتِهِمْ، عَلَى حِسَابِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَاتِهِمْ، الْمُوضِحَةُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ."

  • إذًا؛ عند الشافعي: 
    • ديةُ اليهودي والنصراني 4000 درهم.
    • وديّة المجوسي 800 درهم.

 لما ورد عن النبي ﷺ أنه جعل ديَةَ النصراني واليهودي 4000 درهم، وديةَ المجوسي 800 درهم.

"قَالَ مَالِكٌ: وَجِرَاحُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فِي دِيَاتِهِمْ، عَلَى حِسَابِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَاتِهِمْ، الْمُوضِحَةُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ."، كما أنَّ ديةَ الموضِحَةِ في المسلم نصفُ عشرِ ديته، فكذلك نصفُ عُشرِ ديّة الكافر تجب في الموضِحة، وهكذا..

"وَالْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ دِيَتِهِ"، ثلثُ ديةِ كلِّ واحدٍ منهم، "وَالْجَائِفَةُ ثُلُثُ دِيَتِهِ، فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ جِرَاحَاتُهُمْ كُلُّهَا.". وعلمتَ أن مذهب الحنفية: أن الديةَ سواءٌ،  ديّةَ المسلم والذمّي سواء؛ رجالُهم كرجالِهم ونساؤُهم كنسائهم.

 

باب مَا يُوجِبُ الْعَقْلَ عَلَى الرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ مَالِهِ

 

ثم ذكر: "ما يُوجِبُ الْعَقْلَ عَلَى الرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ مَالِهِ"، ولا يُلزِمُ ذلك عاقلته - قبيلته -.

ذكر: "عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ" وهو من  يحمل الديّة "عقلٌ"؛ أي: ديّةٌ "فِي قَتْلِ الْعَمْدِ."، وهذا اتفقوا عليه، أنَّ ديةَ العمد تجب في مال القاتل نفسِه، لا تَحملها عنه العاقلة لتعمُّدِه، لا يجني الجاني إلا على نفسه.

فإذًا؛ موجبُ الجناية وأثرُ فعل الجاني، يجب أن يختصَّ بضرِرها هو وحدَه، فلا تتحمل عنه العاقلة شيء ،لكونه قَتلَ متعمدًا.

وإذا قتلَ متعمدًا، ورضي آل القتيل بالدية، فتلزَم الديّة في مالِه وحده -هذا القاتل- ولا تتحمل العاقلة عنه شيء، "إِنَّمَا عَلَيْهِمْ عَقْلُ"؛ أي: دية  "قَتْلِ الْخَطَأ"، وعليه عامة أهل العلم، وفي الخبر قضى رسولُ الله ﷺ بديةِ الخطأ على العاقلة.

أما العمد: فيتحمَّلـها نفسُ القاتل ولا تحمل عنه العاقلة شيء، حتى لا يُحدِّثَ الناسُ أنفسَهم بتعمدِ القتل، ثم يقول تتحمل عنه القبيلة، فاختلف شأن العمد عن الخطأ، فأجمعوا على أنه في حالة العمد يتحملّها وحدَه، لا دخْلَ لعاقلته فيها.

"عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لاَ تَحْمِلُ شَيْئاً مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاؤُوا ذَلِكَ"؛ أي: تبرَّعوا بإعطاءِ الجاني شيئًا من ذلك. وذُكِرَ "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِثْلَ ذَلِكَ."

"قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ حِينَ يَعْفُو أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ"؛ عن القصاص ويرضوا بالدية، "أَنَّ الدِّيَةَ تَكُونُ عَلَى الْقَاتِل" نفسِه  "فِي مَالِهِ خَاصَّةً  إِلاَّ أَنْ تُعِينَهُ الْعَاقِلَةُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا."؛ أي: تبرع. جاء عن ابن عباسٍ عن النبي ﷺ قال: "لا تحملُ العاقلة عمدًا ولا عقدًا ولا صُلحًا ولا اعترافًا".

"قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الدِّيَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّلُثَ"؛ يعني: الدية في الجروح، فثلُثُ دية المجني عليه على الجاني، فما زاد على ذلك -ثلث فأكثر-، فتحمله عنه العاقلة، "فَصَاعِداً"؛ أي: أكثر من الثلث، "فَمَا بَلَغَ الثُّلُثَ فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ، فَهُوَ فِي مَالِ الْجَارِحِ". 

  • ولم يفرّق الشافعية بين القليل والكثير، وقالوا بِتَحمُّل العاقلة، يَتحمَّلون عنه ديةَ الجروح سواءً قلَّت أو كثُرت.
  • وقال أبو حنيفة: قدرُ أرش الموضِحَةِ نصفُ عُشر الدية  لا ما دونه تتحمله العاقلة، وما دونه يتحملُه الجاني نفسُه.

إذاً: 

  • فلا تحمل العاقلة ما دون الثلث، هذا مذهب الإمام مالك.
  • وسمعتم قول الإمام أبي حنيفة: أنها تحملُ العقلَ في السنِّ والموضحة وما فوقها.
  • ولا فرق عند الشافعية بين القليل والكثير، تتحمله العاقلة.

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قُبِلَتْ مِنْهُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ: أَنَّ عَقْلَ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِلاَّ أَنْ يَشَاؤُوا، وَإِنَّمَا عَقْلُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ أَوِ الْجَارِحِ خَاصَّةً"، فلا تحمل العاقلةُ العمدَ سواءً مما يجبُ فيه القصاص أو لا يجب، كأن قتَلَ ذمّيًا أومُعاهدًا غيرَ مسلم، لا يجب القصاص، ولكن أيضًا ما دام متعمِّدًا، لا تحمل العاقلة شيئًا من الدية.

قال: "إن وُجدَ له"؛ يعني: للقاتل أو الجارح "مالٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ كَانَ دَيْناً عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاؤُوا". يتطوعوا ويتبرّعوا بذلك.

"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَحَداً أَصَابَ نَفْسَهُ عَمْداً أَو خَطَأً بِشَيْءٍ"، ففي العمدِ بلا خلاف، وأما في الخطأِ ففيه خلافٌ إذا جنى الرجل على نفسه من غير قصدٍ؛ خطأَ، أو على أطرافه:

  • عند الإمام أحمد روايتان، والأظهر عند الحنابلة والمشهور عندهم: أن على عاقلته ديتَه لورثتِه إذا قتلَ نفسه، يقول الحنابلة على العاقلة يسلّمون دية، إن قتلَ نفسَه أو أرشُ جُرحه لنفسه، إذا كان أكثر من الثلث، هكذا يقول الحنابلة، وهو أيضًا عند الأوزاعي. 
  • وأكثرُ أهل العلم يقول: الجاني على نفسه جنايتُه هَدَر.

ماذا نفعل له يعتدي على نفسه ثم نُحمِّل العاقلة؟! فهو هدَرٌ في قول أكثرِ أهل العلم، منهم الإمام مالكٌ والشافعي والإمام أبو حنيفة، يقولون: لا يَستحقُّ هذا شيئًا، ولا يُعقَل عنه، هو يعتدي على نفسه بنفسه، فكيف تَعقلُ عنه العاقلة شيئًا؟!

و قالوا: أنَّ عامرَ بن الأكوع بارز مرحب يوم خيبر، فرجَع سيفُه على نفسه فمات، قالوا: ولم يقضِ النبيُّ ﷺ فيه بديّةٍ ولا غيرها، ولو وجبت لبيَّنه، بل ردَّ كلامَ بعضِ المنافقين لما قالوا أنهُ قتلَ نفسَه فهدَر، وما كان ذلك منه بقصدٍ  فهو من الشهداء، ردَّ عليهم ﷺ في هذا، ولكن لم يذكرْ شيئًا من الدية. وبهذا قال الجمهور: أنه من اعتدى على نفسه عمدًا أو خطأ، فلا تتحمل العاقلةُ شيئًا وهذا هدَر.

"وَعَلَى ذَلِكَ رَأْىُ أَهْلِ الْفِقْهِ عِنْدَنَا"، يعني: أن دية العمد واجبةٌ على القاتل دون العاقلة "وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَداً" من اهل العلم "ضَمَّنَ الْعَاقِلَةَ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ شَيْئاً، وَمِمَّا يُعْرَفُ بِهِ ذَلِكَ،أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [البقرة:178]. 

فحمَلَها الإمام مالكٌ بالتفسير على أنها تبرُّعِ العاقلة، قال: "فَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى"؛ أي: نظنُّ "وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ" من عُفي له؛ من العفو والفضل والمعروف، "مَنْ أُعْطِيَ"؛  أي: مِن أحدٍ من العاقلة "شَيْءٌ مِنَ الْعَقْلِ"؛ أي: الدية،  "فَلْيَتْبَعْهُ"؛ أي: فليطلب الجاني من المحسنِ "بالمعروف"، ولا يُجبَر عليه ولا يَتشدَّدُ بالطلب. "وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ". أي: الجاني بإحسان. (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ). واختلفوا في تفسير الآية، فمنهم من فسّرها:

(عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ)؛ يعني:  بُذل له؛ أي بذل له أخوه القاتل الدية، سامحه فيها؛ يعني: ولي المقتول، (فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ) نُدب ولي المقتول إلى الرضا بذلك والمطالبة بما كُتب له من الدية بمعروف، (فَمَنْ عُفِي لَهُ) من القاتلين من دم أخيه المقتول (شَىْءٌ) بأن تُرك القصاص منه، (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)؛ يعني: بأن طالبه بالدية بلا عنف، على القاتل أداء الدية إليه بلا مماطلة (بِإِحْسَانٍ)؛ لا يبخس ولا يُماطل.

"قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لاَ مَالَ لَهُ، وَالْمَرْأَةِ الَّتِي لاَ مَالَ لَهَا: إِذَا جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةً دُونَ الثُّلُثِ، إِنَّهُ ضَامِنٌ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ فِي مَالِهِمَا خَاصَّةً"، كغيرِهم من الرجال، يعني: لا يجبُ على والدِ الصبيِ ولا زوجِ المرأة ولا غيرِهما، وخصَّ الصبيَّ والمرأةَ بالذكر، لأنَّ: 

  • النظرَ في جناية الصبي يتشوَّفُ إلى والده. 
  • وفي جنايةِ المرأة إلى زوجها. 

فَذَكَر: "إن كان لهما"؛ أي: الصبيَ والمرأةََ "مالٌ أُخِذَ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَجِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ عَلَيْهِ"، على نفسه خاصة، حتى يؤديَها متى تيسَّرت له، "لَيْسَ، عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلاَ يُؤْخَذُ أَبُو الصَّبِيِّ بِعَقْلِ جِنَايَةِ الصَّبِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ". لما جاءَ بقوله ﷺ في أبي رمثة وابنه: "لا تَجني عليه ولا يَجني عليك".

وتقدم معنا عند الإمام مالكٍ وغيره أنه إذا قد بلغت  الديةُ الثلثَ فترجع على العاقلة.

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قُتِلَ كَانَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ يَوْمَ يُقْتَلُ"، يعني: يجب على القاتل أن يسلِّم قيمتَه القيمةَ التي كانت يوم القتل، "وَلاَ تَحْمِلُ عَاقِلَةُ قَاتِلِهِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ شَيْئاً، قَلَّ أَوْ كَثُرَ"، يعني: 

  • زادت القيمةُ على الدية 
  • أو كانت أقلَّ من ذلك 
  • أو تضاعفت على ذلك 

فلا فرق، "وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَصَابَهُ"، الذي وجب من قيمة العبد على الذي أصابَه، يعني: الجاني، "فِي مَالِهِ خاصة" بالغًا ما بلغ، ولو كان أضعافَ ديات، وإن كانت قيمةُ العبد كالدية أو أكثر، فذلك عليه في ماله خاصة. ولكنَّ الحنفية قالوا: إذا كانت القيمةُ أقلَّ من دية الحرّ بعشرِ دراهم فكذلك، وإلا لا يُزاد على هذا المقدار، يعني فيما يُعطَى على دم المملوك. قال الإمام مالك: "وَذَلِكَ لأَنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنَ السِّلَعِ"؛ يعني: جزءٌ من المال.

فالله يصونُ دماءَنا والمسلمين، ويحفظ أعراضنا والمسلمين، ويحفظ أموالنا والمسلمين، ويدفعُ البلاء عنا وعن جميع المؤمنين، ويجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم،  بسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

03 جمادى الأول 1444

تاريخ النشر الميلادي

27 نوفمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام