شرح الموطأ -462 - كتاب العقول: باب ما جاء في عَقْل الأصَابِعِ

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول: باب مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الأَصَابِعِ.

فجر الأربعاء 28 ربيع الثاني 1444هـ.

 باب مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الأَصَابِعِ

2529 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ: فَقَالَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي ثَلاَثٍ: فَقَالَ: ثَلاَثُونَ مِنَ الإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الإِبِلِ. فَقُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: أَعِرَاقِىٌّ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ، أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. فَقَالَ سَعِيدٌ: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي.

2530 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي أَصَابِعِ الْكَفِّ إِذَا قُطِعَتْ فَقَدْ تَمَّ عَقْلُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ خَمْسَ الأَصَابِعِ إِذَا قُطِعَتْ، كَانَ عَقْلُهَا عَقْلَ الْكَفِّ، خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ.

2531 - قَالَ مَالِكٌ: وَحِسَابُ الأَصَابِعِ ثَلاَثَةٌ وَثَلاَثُونَ دِينَارٍ، وَثُلُثُ دِينَارٍ فِي كُلِّ أَنْمُلَةٍ، وَهِيَ مِنَ الإِبِلِ ثَلاَثُ فَرَائِضَ وَثُلُثُ فَرِيضَةٍ.

 باب جَامِعِ عَقْلِ الأَسْنَانِ

2532 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضِّرْسِ بِجَمَلٍ وفِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ، وَفِي الضِّلَعِ بِجَمَلٍ.

2533 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ، وَقَضَى مُعَاوِيَةُ بْنُ أبِي سُفْيَانَ فِي الأَضْرَاسِ بِخَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ.

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَالدِّيَةُ تَنْقُصُ فِي قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَتَزِيدُ فِي قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ، فَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَجَعَلْتُ فِي الأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ، فَتِلْكَ الدِّيَةُ سَوَاءٌ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مَأْجُورٌ.

2534 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا أُصِيبَتِ السِّنُّ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا عَقْلُهَا تَامًّا، فَإِنْ طُرِحَتْ بَعْدَ أَنْ تَسْوَدَّ، فَفِيهَا عَقْلُهَا أَيْضاً تَامًّا.

باب الْعَمَلِ فِي عَقْلِ الأَسْنَانِ

2535 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أبِي غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ الْمُرِّيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ بَعَثَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ: مَاذَا فِي الضِّرْسِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فِيهِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ. قَالَ : فَرَدَّنِى مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَتَجْعَلُ مُقَدَّمَ الْفَمِ مِثْلَ الأَضْرَاسِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ تَعْتَبِرْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالأَصَابِعِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ.

2536 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ الأَسْنَانِ فِي الْعَقْلِ، وَلاَ يُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ.

2537 - قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ مُقَدَّمَ الْفَمِ وَالأَضْرَاسِ وَالأَنْيَابِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ". وَالضِّرْسُ سِنٌّ مِنَ الأَسْنَانِ لاَ يَفْضُلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرِمنا بشريعته، وبيانِها على لسان خيرِ بريَّته، عبدِه وحبيبه وصفوته سيدنا محمدٍ صلى الله وسلم وباركَ وكرَّمَ عليه وعلى آله وصحبه وأُمَّتِه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، محلِّ نَظِر الحق -تبارك وتعالى- وخيرتِه من بريتِه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميعِ عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

يتابع الإمام مالك -رضي الله عنه- ما يتعلق بالدِّيَات والعقلِ، ويقول: "باب مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الأَصَابِعِ"، تقدّم معنا أنها عشَرةٌ، في كل إصبَعٍ منها عشرٌ من الإبل، ففي قَطعِ جميعِ الأصابع العشَرة لليدين: دِيَةٌ كاملة.

 وفي قطعِ عشرِ أصابعٍ كاملةٍ من الرِّجلين: ديَةٌ كاملة، وإلا ففي كل إصبَعٍ عشَرةٌ من الإبل.

ويذكرُ عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ أنه سُئل: "كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟" منها "قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الإِبِلِ" في كل إصبعٍ عشرٌ، "فَقُلْتُ: كَمْ فِي ثَلاَثٍ؟" من الأصابع "فَقَالَ: ثَلاَثُونَ مِنَ الإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الإِبِلِ" رجعَ إلى الثلُثِ، على هذا القول لأنه يَصلُ إلى ثُلُثِ ديَة المرأة -إذا زاد على ثلُثِ دِيةِ المرأة رُجُّعَ إليها-، "فقال: قلت: سبحان الله! حِينَ عَظُمَ" يعني: كَثُر "جُرْحُهَا وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا" بأربعةٍ بعد الثلاث "نَقَصَ عَقْلُهَا؟" في الثلاث قلتَ ثلاثين، وعندما قلنا لك أربع قلتَ عشرين؟! أي: نَقصتْ ديتُها، فإن في الثلاث كانت ثلاثين، وفي الأربعة ما عاد سيء إلا عشرين فقط! "فَقَالَ سَعِيدٌ: أَعِرَاقِىٌّ أَنْتَ؟"؛  يعني: تُقابلُ الأثرَ بالرَّأي، وفي لفظٍ: "أأعرابيٌّ أنتَ؟" "فَقُلْتُ: بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ"؛ يعني: يتثبتُ في الأمر ويَفحصُ عنه "أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ"؛ أتعلَّمُ المسألةَ بالدراية، وفي لفظٍ: "بل جاهلٌ مُسترشِد أو عاقلٌ مُستفتٍ"، "فَقَالَ سَعِيدٌ: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي"، قالها مُلاطفةً على عادتهم؛ وإن كان ليس ابنَ أخيه من النسب، وهذا إرسالُ ابنِ المسيَّب للسُّنّة.

وقال الإمامُ الشافعي: كُنَّا نقولُ به، ثم رجَعتُ عنه، ويقول: وأنا أسألُ الله الخِيَرةَ؛ لأنَّا نجدُ من يقولُ السُّنة، ثم لا نجد نفاذًا بها عن النبي ﷺ، والقياسُ أَولى بنا فيها.  

وهكذا يقول: لو وَجبَ بقطعِ ثلاثِ أصابعٍ من المرأة ثلاثون من الإبِل، ما سقَطَ بالإصبعِ الرابعِ عَشْرٌ من الواجب، يَرجِعُ إلى عشرين؛ لأنَّ تأثيرَ القطْعِ في إيجابِ الأَرش، لا في إسقاطِه. 

وحمل بعضُهم قولَ سيدِنا سعيدِ بن المسيَّب: إنّه السنّةُ، يعني: سنةُ زيدِ بن ثابت، وقد أفتى كبارُ الصحابة بخلافه.

وهذا مبنيٌ على أن المرأةَ تساوي الرجُلَ في أَرشِ الجنايات حتى تبلُغَ ثلُثَ الدِّية، فتكونُ على النِّصفِ من دِيةِ الرَّجُل، فالآن لما وصلت الثُلثَ -ثلاثين- زادت الى أربعينَ من الإبل، صارت أكثرَ من ثُلثِ ديةِ الرَّجُل، فرجعوا إلى النِّصفَ، يعني: أن كلَّ إصبعٍ بخمسٍ؛ لأن في إصبَعِ الرجُل عَشْرٌ، وهذا خمسٌ؛ النصف، رجعوا إلى النصف. 

ويقول الإمامُ أبو حنيفة والشافعيُ من البداية: إذا قطعَ إصبعاً فعليه خَمس، وإذا قطعَ إصبعين فعليه عَشرٌ، وإذا قطعَ ثلاثةَ أصابعٍ من المرأة فعليه خمسة عشَر، وإذا قطعَ أربعة أصابعٍ فعليه عشرون، وهكذا.

وأما عند القصاص: فالإصبَعُ بإصبَعٍ، قطع إصبعَ امرأةٍ فأرادت القصاصَ فيُقطَعُ إصبع الرجل نفسِه، لا يُقطَع نصفُ إصبعه.. يُقطعُ اصبَعه كاملاً إن قام بقطعه، وهكذا في القصاصُ يتساوون، وفي الديَّة تكون ديةُ المرأة نصفَ دية الرجلِ عند الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي.

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا" المجتمع عليه "فِي أَصَابِعِ الْكَفِّ إِذَا قُطِعَتْ  فَقَدْ تَمَّ عَقْلُهَا. ذَلِكَ أَنَّ خَمْسَ الأَصَابِعِ إِذَا قُطِعَتْ، كَانَ عَقْلُهَا عَقْلَ الْكَفِّ، خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ."

الواجب "فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ" فالخمسةُ بخمسين، فكذلك إذا قطعَ الكفَّ عليه خمسين.  

وهكذا، فإن قُطِعت الأصابعُ كلُّها ليدٍ واحدة: فذلك خمسون، وهو عقلُ اليد، فسواءً قطعَ أصابعَ اليدِ الخمسةِ، أو قطعَ الكفَّ كله، أو قطع اليدَ من المرفق: فالواجبُ هو الخمسون من الإبل. 

"وَحِسَابُ الأَصَابِعِ ثَلاَثَةٌ وَثَلاَثُونَ دِينَارٍ، وَثُلُثُ دِينَارٍ فِي كُلِّ أَنْمُلَةٍ"؛ لأن الديةَ الكاملة من الذهب: ألفُ دينارٍ، نصفُها في اليد الواحدة: خمسُمائَةِ دينار، كلُّ إصبعٍ مائةُ دينار. 

قال: "وَهِيَ"؛ يعني: ديةُ الأَنمُلةِ "مِنَ الْإِبِلِ" في كل أَنملةٍ "ثَلَاثُ فَرَائِضَ وَثُلُثُ فَرِيضَةٍ."؛ لأن الديةَ من الإبل: مائةٌ، وفي اليد الواحدة: خمسون من الإبل، في كل إصبعٍ: عشرٌ، وفي كل أنمُلةٍ: عُشُرها، الإبهامان فيهما: أنمُلتان،  فإذا قُطِعتا ففيهما: عشرٌ من الإبل، في كل واحدةٍ منهما خَمس، قال: ما سمعت فيها شيئًا، وهو رأيي.  

فالذي عليه جمهورُ الفقهاء: لا يُفرِّقون بين الأصابعِ كما لا يُفرِّقون بين الأسنان، وفي كل واحدٍ عشرٌ على المعتمد.

وهكذا في كل إصبَعٍ من اليدين والرجلين: عَشرٌ من الإبل، في كل أنمُلةٍ منها: ثُلث عقله، إلا الإبهام فإنها مِفصلان؛ ففي كل مِفصلٍ منها: خَمسٌ من الإبل، فإذا قطعَ أنملةً واحدةً، ما قطع الأصبعَ كلَّه، قطعَ الأنملة، كم عندنا أنامل في الأصبع؟ ثلاث؟ فعليه: ثلثُ العَشر، ثلثُ العَشر من الإبل، وإن قطع أنمُلةً من الإبهام: عليه نصفٌ؛ لأن الإبهام هو عبارةٌ عن أنمُلتين فقط،  فإذا قطعَ نصفَه ففيه: خَمسٌ من الإبل، وعامةُ أهل العلم على ذلك. 

إلّا ما جاء عن سيدنا عمر، أنه قَضى في الإبهامُ بثـلُثِ غُـرّةٍ، وفي التي تليها باثنتي عشرة، وفي الوُسطى بعشرٍ، وفي التي تليها بتسعٍ، وفي الخِنصَر بستٍّ، هذا اجتهادٌ من سيدنا عمر. 

إذًا؛ في كل إصبَعٍ عَشرٌة من الإبل، كما هو المعتمد المُقَرّرُ عند أكثر العلماء. 

 

باب جَامِعِ عَقْلِ الأَسْنَانِ

 

ثم ذكر الأسنان: جمعُ سنٍّ، وفي كل شيءٍ من هذه الأعضاء آيةٌ من آيات الله.. أنامل، أصابع، كفّ، ساعد، بعد ذلك مرفقين، عضد، كتفين.. كلُّها آيات كبيرات، ومنها الأسنان. 

ووجَبَ احترامُ صَنعةِ الصانع، وحَرُمَ التعدّي عليها بدون ما شرَع، وبدون ما أباحَ -سبحانه وتعالى-، وعلى المُعتدي العقاب في الدنيا وفي الآخرة، وعلى المُخطئِ تسليم الدية، ولا إثمَ عليه، ما لم يَقصِد او يتعمَّد. 

وذكر: "عَنْ أَسْلَمَ" العدوي "مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ" -رضي الله عنه- كما جاء عند عبد الرزاق وغيرِه: "قَضَى فِي الضِّرْسِ"؛ يعني: في السِّن، "بِجَمَلٍ"، يعني: ذكراً من الإبل، أي: حكَمَ بذلك، "وَفِي التَّرْقُوَةِ": العظمُ الذي بين ثَغرة النَّحرِ والعاتقِ، من الجانبين "بِجَمَلٍ"، وظاهرُ الكلام أن في كل تَرقوةٍ بعيرين، هنا في الترقوة: جملٌ واحد، وإذا أخذ الترقوتين صارَ بعيرين، وفي قول الخرقي: أن في كلِّ واحدٍ من التَرقوتين جَمَلين، وهذا قول زيد بن ثابت.

والذي عليه مذهبُ الشافعي وغيرِه أن في هذه التَّرقوة وغيرِها: إنما تلزَمُ فيها الحُكومة،  وهو المعتمدُ في المذهب، وكذلك عند أبي حنيفة ومالك؛ لأنَّه عظمٌ باطنٌ لا يختص بجمالٍ ومنفعة، فلم يجب فيها أرشٌ مُقَدَّر. 

"وَفِي الضِّلَعِ" يُقال الضِّلَعِ كما هي لغة الحجاز، ويُقال الضِّلْع كما هي لغة تميم، "وَفِي الضِّلَعِ" عظمٌ مستطيلٌ من عظام الجَنب، مُنحَنٍ، يُجمَع على: أضلُعٍ، وضُلوعٍ، وأضلاعٍ،  "وَفِي الضِّلَعِ بِجَمَلٍ"؛ فهذا هو القضاءُ الذي جاء عن سيّدِنا عمر، أيضًا في روايةِ البيهقي. "أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الضِّرْسِ بِجَمَلٍ، وفِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ، وَفِي الضِّلَعِ بِجَمَل".

وقال الشافعيُّ: في الأضراس خمسٌ،  لِما جاء عن النبيِ ﷺ: "في السنِّ خمسٌ". وكذلك يقول سيدُنا الشافعي: إن ما ذُكرَ عن سيدِنا عمر يُشبِهُ أن يكونَ حكومةً، لا توقيتَ عقل.

ثم ذكر عن سعيدِ بن المسيَّب، أنه "قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ" في كل ضرس، "وَقَضَى مُعَاوِيَةُ" بنُ أبي سفيان "فِي الْأَضْرَاسِ بخَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ". 

"قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : فَالدِّيَةُ تَنْقُصُ فِي قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَتَزِيدُ فِي قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ"، قال: "فلو كُنْتُ أَنَا" قاضيًا "لَجَعَلْتُ فِي الأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ" يعني: في كل ضِرسٍ، "فَتِلْكَ الدِّيَةُ" الكاملةُ "سَوَاءٌ"، يعني: الاثنين وثلاثين من بعيرين بعيرين: أربعةٌ وستون.

 قال: رأى ابنُ المسيّبِ بعيرين بعيرين في كل ضرسٍ، قال: واستحسَنه عمرُ بن عبد العزيز،  فكان يجعلُ سيدنا عمر في الأضراس بعيرًا بعيرًا، والأضراسِ عشرون، وكان يجعل في الأسنان خمسةٌ، والأسنانُ اثنا عشر فيها أربعةُ أنياب، فتكون ثمانين بعيراً، فنَقَصتْ عن ديةِ النفسِ عشرون بعير.

وكان معاويةُ يجعلُ في الأضراس خمسةً خمسة، أي: ستون ومائة، زادَ على ديةِ النفسِ ستين.

قال: "فَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَجَعَلْتُ فِي الأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ" فتصير أربعون بعيراً، وفي الأسنان خمسةٌ خمسة، فتلك ستون، تمام المائة.. ديةٌ كاملة، والذي قاله معاويةُ هو المرويُّ عن النبي ﷺ، وهذا الذي مضى عليه الإمامُ مالك في أصح روايته وأبو حنيفة والشافعي؛ أنَّ في كل ضرسٍ خمسٌ.

يقول: "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا أُصِيبَتِ السِّنُّ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا عَقْلُهَا" على رأيِ سعيدِ بن المسيّب "إِذَا أُصِيبَتِ السِّنُّ" أي: جُرحت "فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا عَقْلُهَا" أي: عقلُ السنّ "تَامًّا، فَإِنْ طُرِحَتْ بَعْدَ أَنْ تَسْوَدَّ، فَفِيهَا عَقْلُهَا أَيْضاً تَامًّا". يريد اسودادها: أي: يوجبُ فيها العقلَ التام، بخلاف ما يُذكرُ عن الشافعي وغيره: أنه إذا ضربَ السنَّ فاسودّت ففيها حكومة وليس فيها عقل. 

 

باب الْعَمَلِ فِي عَقْلِ الأَسْنَانِ

 

قال: "بَابُ الْعَمَلِ فِي عَقْلِ الْأَسْنَانِ"، وذكر: "أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ بَعَثَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ: مَاذَا فِي الضِّرْسِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فِيهِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ. قَالَ: فَرَدَّنِى مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَتَجْعَلُ مُقَدَّمَ الْفَمِ مِثْلَ الأَضْرَاسِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ تَعْتَبِرْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالأَصَابِعِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ"؛ فعقلُ الأسنان سواءٌ؛ كلُّ سنٍّ ليس بينهن فرقٌ، وهو الذي عليه الجمهور؛ لا فرقَ بين الأسنانِ والأضراس كلِّها. 

قال: "حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ الأَسْنَانِ فِي الْعَقْلِ، وَلاَ يُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ". 

"قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ مُقَدَّمَ الْفَمِ وَالأَضْرَاسِ وَالأَنْيَابِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ" وعليه أخذ عامةُ الأئمة؛ أن في السنّ خمسٌ "وَالضِّرْسُ سِنٌّ مِنَ الْأَسْنَانِ، لاَ يُفْضُلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ."، وهو مذهب الجمهور كذلك، والله أعلم.

رزقنا الله الصدق والإخلاص والإنابة واليقين، ووقانا الأسواءَ والأدواءَ في كلِّ شأنٍ وحالٍ وحين، وغمرنا بفائضات الجود وأسعدَنا بأعلى السُعود، ورفعَنا أعلى مراتب قـُربهِ والدنوّ منه والفهمِ عنه مع الصالحين من عباده أهل وداده، وأصلحَ شؤوننا وشؤون الأمة بما أصلح به شؤون محبوبيه في عافية وإلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

04 جمادى الأول 1444

تاريخ النشر الميلادي

27 نوفمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام