شرح الموطأ -460 - كتاب العقول: باب ما فِيهِ الدِّيَة كاملة
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول، باب مَا فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً.
فجر الإثنين 26 ربيع الثاني 1444هـ.
باب مَا فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً
2508 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، فَإِذَا قُطِعَتِ السُّفْلَى فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ.
2509 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الرَّجُلِ الأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ؟ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: إِنْ أَحَبَّ الصَّحِيحُ أَنْ يَسْتَقِيدَ مِنْهُ فَلَهُ الْقَوَدُ، وَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ الدِّيَةُ أَلْفُ دِينَارٍ، أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
2510 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ فِي كُلِّ زَوْجٍ مِنَ الإِنْسَانِ الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَأَنَّ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَأَنَّ فِي الأُذُنَيْنِ إِذَا ذَهَبَ سَمْعُهُمَا الدِّيَةَ كَامِلَةً، اصْطُلِمَتَا أَوْ لَمْ تُصْطَلَمَا، وَفِي ذَكَرِ الرَّجُلِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَفِي الأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةً.
2511 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ فِي ثَدْيَي الْمَرْأَةِ الدِّيَةَ كَامِلَةً.
2512 - قَالَ مَالِكٌ: وَأَخَفُّ ذَلِكَ عِنْدِي الْحَاجِبَانِ وَثَدْيَا الرَّجُلِ.
2513 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أُصِيبَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهِ فَذَلِكَ لَهُ، إِذَا أُصِيبَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ وَعَيْنَاهُ، فَلَهُ ثَلاَثُ دِيَاتٍ.
2514 - قَالَ مَالِكٌ فِي عَيْنِ الأَعْوَرِ الصَّحِيحَةِ إِذَا فُقِئَتْ خَطَأً: إِنَّ فِيهَا الدِّيَةَ كَامِلَةً.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفوته خير بريته، سيدنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رقّاهم الرحمن في الفضل أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيتكلم الإمام مالك -عليه رضوان الله- على ما قُدّر من قطع الأعضاء التي يكون فيها؛ أي: أرشُها وغُرمها وديتها ديةٌ كاملة كَدِية النفس، وذلك أنّ الله ركّب الإنسان -سبحانه وتعالى- تركيبًا بديعًا..
- وجعل في تركيبه بعض الأعضاء مفردة؛ واحد، واحد، واحد: كاللسان وكالأنف.
- وجعل بعض الأعضاء اثنين، اثنين، اثنين: كالعينين واليدين والرجلين والشفتين.
- وجعل بعض الأعضاء أكثر من ذلك؛ فتكون من الأعضاء ما يكون عشرة كمثل: أصابع اليدين عشرة، وأصابع الرجلين عشرة.
- ومن الأعضاء ما هو أكثر من ذلك وهو: الأسنان.
ثمّ إنه جاء حكم الشريعة:
- فيما إذا اعتدى وجنى إنسان على إنسان في أحد الأعضاء المفردة -الذي هو واحد-: أنه يلزمه فيه الدية كاملةً؛ لانه أفقد جنس هذه المنفعة.
- فإذا كان من العضو اثنان: ففي كل واحد نصف الدية؛ فاليدان: في اليد الواحدة نصف الدية، وفي اليدين الدية كاملة، وفي الرجلين كذلك، وفي العينين كذلك، وفي الأذنين كذلك، وفي الشفتين كذلك.
- وما كان منه عشرة: ففي كل واحد عُشر الدية؛ ففي الإصبع الواحد عُشر الدية: عشرة من الإبل، الإصبع الثاني كذلك، سواءً كان من اليدين أو من الرجلين، وفي الإصبع الثالث ثلاثين، وهكذا.. حتى تكون العشرة: قطع الأصابع كلها مائة، مائة من الإبل.
- أما الأسنان: فليس فيها هذا القياس، فقد جاء النصّ على أن كل سنٍّ فيها خمس من الإبل، فتزيد على الدية؛ لو قطع فوق العشرين من الأسنان لزادت على الدية، فتزيد على الدية، وفي كل سنٍّ خمسة خمسة خمسة خمسة، فلو وصل إلى عشرين سنًّا لكان عليه دية كاملة، فإذا كان واحد وعشرين: عليه دية وخمس، ولو كان اثنين وعشرين: عليه دية وعشر من الإبل وهكذا..
"باب مَا فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً"؛ أي: الأعضاء التي إذا جنى عليها الجاني وقطعها فعليه مقابل ذلك الدية كاملة.
وأورد حديث ابن المسيّب: "أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةً"؛ وهذا متفقٌ عليه، أنه إذا قطع الشفتين معًا السفلى والعليا فعليه الدية، فإذا كان قطع واحدة في هذا التفصيل فيه خلاف.
فيقول: "فَإِذَا قُطِعَتِ السُّفْلَى فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ"، والثلث للأخرى؛ لأن فوائد هذه أكثر من حيث أن السفلى أحمل للطعام واللعاب، ولكن في العليا من الجمال أكثر وهكذا..
- ومع ذلك فإن من الأئمة من يرى أن في كل واحدة من الشفتين نصف الدية، وهو كذلك في مذهب الحنفية وغيرهم ولا يفرِّقوا بين هذا، والحنابلة والشافعية كذلك يقولون: في كل واحدٍ منها نصف الدية؛ من الشفتين.
- وهي فيما ذكر ابن المسيّب في مذهب الإمام مالك: أنّ في السفلى ثلثا الدية، في الشفة السفلى.
كما أنه لا فرق بين شيءٍ من الأصابع لا تختلف فعلًا، وكذلك لا فرق بين شيء من اليدين، وقد تكون في الغالب اليمنى أقوى وأكثر منفعة، ولكن نصف الدية، وليس في واحدة ثلث الدية وواحدة ثلثين الدية، كله واحد، كله سواء ما كان من عضوين، وعلى ذلك الجمهور والأكثر، في كل واحدةٍ من الشفتين نصف الدية.
في رواية عن الإمام أحمد كما ذكر الإمام مالك: أن في العليا ثلث الدية وفي السفلى الثلثين؛ وهذا الذي يُروى عما ذكره عن سعيد بن المسيّب وعن زيد بن ثابت، قالوا: لأن المنفعة بها أعظم؛ لأنها التي تدور وتتحرك وتحفظ الريق والطعام، والعليا حركتها أقل منها، ولكن الأصل فيما جاء أيضًا عن سيدنا أبو بكر وسيدنا علي وغيرهما: أن لكل شيئين وجبت فيهما الدية وجب في أحدهما نصفها، كسائر الأعضاء فلا فرق بين الشفتين وغيرهما.
قال: وذكر مالك: "أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ -الزهري- عَنِ الرَّجُلِ الأَعْوَرِ يَفْقَأُ"؛ يعني: يشقّ "عَيْنَ الصَّحِيحِ؟"؛ عمدًا، "فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: إِنْ أَحَبَّ الصَّحِيحُ"؛ أي: المجني عليه، الذي ليس بأعور، "أَنْ يَسْتَقِيدَ"؛ أي: يقتصّ "مِنْهُ فَلَهُ الْقَوَدُ"؛ أي: القصاص، "وَإِنْ أَحَبَّ"؛ أن يأخذ الدية "فَلَهُ الدِّيَةُ"؛ ومقدارها: "أَلْفُ دِينَارٍ"؛ إن كان من أهل الذهب، "أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ"؛ إن كان من أهل الفضة؛ فإذا الأعور فقأ عين الصحيح عمدًا.
- أمّا لو كان خطأ؛ إذا كان خطأ سواءً كانت عين الجاني مثل العين التي أتلفها أو خلافها: ليس المجني عليه فيها إلا دية عينه الذي هو خمسمائة دينار، الذي هو نصف الدية، سواء.
- وإذا كانت العين الباقية للأعور مثل العين التي فقأ الصحيح في كونها يمنى أو يسرى: فإذًا يتخيّر بين أن تُفقـأ عين الثاني وبين أن يأخذ الدية التي هي نصف الدية وهكذا.
- أمّا إذا فقأ يسرى الصحيح، وهو عينه اليمنى باقية، هذا الأعور، قال بعض الأئمة: الآن لا يكون قصاص، إنما له ديتها: نصف العين، لأن هذه ما تساوي هذه، هذه مُفَتَّحة، وهذه عين الجاني عمياء ما فيها شيء، ما ينظر بها، فما يساويها.
- أمّا إذا كان نفسها، يمنى بيمنى أو يسرى بيسرى: فله الخيار، المجنى عليه؛ إمّا أن نُخرِّج عينه هذه، أو نعطيك نصف الدية.
- فإذا فقأ سالمُ العينين أو سالمُ المماثلة المجنى عليه: فللأعور القَوَد، يأخذ بنظيرتها من السالم وإن كان؛ لأنه جاني، لأن عينه بمنزلة العينين.
- وإن فقأ أعورٌ من سالمًا مماثلة عينه السالمة: فلـسالم العينين القصاص من الأعور، سيرجع أعمى!.. يرجع أعمى تلك عمياء من الأصل ليس لي شأن فيها، أنا طالبت بالقصاص لـعين مقابل عين، أنت فقأت عيني اليسرى وأنت عينك اليسرى سنفقأها الآن، قالوا: هو ما عنده اليمنى أصلًا، ما يرى إلا باليسرى، قل: أنت على نفسك! إذا طلب المجني عليه القصاص نقتص له، قال: سأرجع أعمى! قل له: ولِمَ تجني على خلق الله؟! ارجع أعمى -لا إله إلا الله- وهكذا.
- وإذا فقأ عين أعور: خرّج العوراء، ثمّ قالوا: كم الدية؟ يسلّم كم دية؟ الإمام مالك يقول: هذا الآن صار الأعور أعمى ؛ لأن الصحيحة قام ذاك وجنى عليها فصار أعمى، فعليه دية كاملة يقول، لأنه ما كان يُبصر إلا بعين واحدة، فهذا أفقده البصر كما أفقد العينين.
لكن الجمهور قالوا: لا، قال أبو حنيفة والشافعي: نصف الدية، عين: نصف الدية، لو خرّج الاثنتين معًا العمياء والصحيحة نعم، إذا أخرج السالمة والعوراء الاثنتين نعم عليه دية كاملة، أمّا ما أخرج إلا واحدة فعليه نصف الدية.
"ففي العين خمسون من الإبل" كما جاء في الحديث، وقال ﷺ: "في العينين الدية"؛ وبذلك قضى سيدنا عمر وعثمان وعلي، قضوا في عين الأعور بالدية.
- فإذا قلع الأعور عين الصحيح، فإن قلع العين التي تماثل عينه الصحيحة، أو قلع المماثلة للصحيحة خطأ؛ فليس عليه إلا نصف الدية، ما فيه خلاف لأن ذلك هو الأصل.
- وإذا قلع المماثلة لعينه الصحيحة عمدًا، قال بعض أهل العلم: لا قصاص عليه، وعليه دية كاملة، هذا قول ابن المسيّب ومالك في الرواية هذه التي ذكرها وأشرنا إليها، وفي الرواية الأخرى: نصف الدية كما هو عليه الجمهور.
ويقول: "عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ فِي كُلِّ زَوْجٍ مِنَ الإِنْسَانِ"؛ أي: ما يوجد منه اثنين، كاليدين والرجلين والعينين: "الدِّيَةَ كَامِلَةً"؛ في الإثنين، ففي الواحد منهما نصف الدية، "وَأَنَّ فِي اللِّسَانِ"؛ اللسان لا يوجد إلا واحدة، اللسان مع الإنسان، لا يوجد لسانين، لا يأتي لسانين! توجد واحدة، "وَأَنَّ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ كَامِلَةً"؛ فإذا قطع لسان إنسان فعليه أن يُسلّم دية كاملة: مائة من الإبل، إذًا؛ في اللسان الدية إن منع الكلام بالاتفاق، أو إذا امتنع أداء أكثر الحروف بها، بعد أن قطعها.
وبعض أهل العلم يقول: إذا قدر على التكلم ببعض الحروف دون بعض؛ تُقسّم الدية على عدد الحروف الثمانية والعشرين، ونقول كم بقي من الحروف ننزلها من الدية، والباقي يُسلِّمها؛ لأن أكبر مقاصد اللسان الكلام، لها فوائد أخرى وثانية ولكن هذا...
إذًا؛ فإذا قطع اللسان كاملة فبالإجماع أنه يلزم عليه دية كاملة. فإذا ذهب بعض الكلام وَجَب َمن الدية بقدر ما ذهب، يُعتبر ذلك بحروف المعجم: ثمانية وعشرين حرف، نقسّم الدية على ثمانية وعشرين، كل واحد، كل حرف منها جزء… لا إله إلا الله!.
"وَأَنَّ فِي الأُذُنَيْنِ إِذَا ذَهَبَ سَمْعُهُمَا الدِّيَةَ كَامِلَةً"؛ إذا ذهب السمع بسبب جنايته عليه، "اصْطُلِمَتَا"؛ أي: قُطِعَتا من أصلهما، "اصْطُلِمَتَا أَوْ لَمْ تُصْطَلَمَا"؛ لم تصْطَلَمَا يعني: لم تُقطعا.
"في السمع مائة من الإبل" في الحديث، فلو قطع الأذنان ولكن لم يذهب السمع، ولكن الأذن ما عادت موجودة والسمع يسمع الرجل. قال الإمام الشافعي: دية أخذ بعموم حديث: "في الأذن خمسون من الإبل" ليس في السمع بل الأذن، الأذن نفسها عليها خمسون من الإبل.
وفي قول كما هو مذهب بعض الأئمة: أن فيه حكومة، وهكذا؛ إذا لم يذهب سمعهما: فيكون فيه الحكومة كما هو عند المالكية، بل يُروى فيهما روايتين عن الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- أن فيه الحكومة وليس فيه الدية، والقول الثاني: فيه الدية.
وجاء عن سيدنا أبي بكر: أنه قضى بالحكومة، ويقول: أن الأذن تساعد على جمع الصوت وغيره، لكن المقصود هو السمع، فأما إذا ذهب السمع من الأذنين فبلا خلاف أنه فيه الدية، أي: يلزمه الدية، نعم في السمع الدية بلا خلاف، وهو ما جاء في النص في الحديث قوله ﷺ: "وفي السمع الدية".
وجاء في رواية البيهقي: أن رجل رمى رجل بحجرة ذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه، فرُفع إلى سيدنا عمر: قضى بأربع ديات، ذاك هو الرجل حي، فقضى بأربع ديات: للسمع دية، وللعقل دية، وللّسان دية، ولذهاب النكاح دية، فجعلهن أربع، فإذا ذهب السمع من أحد الأذنين والثانية يسمع بها فنصف الدية، عليه يُسلّم نصف الدية.
إذًا؛ الأذنان إذا اصطُلمتا كان فيهما الدية، وإن لم يذهب السمع عند الشافعي وأبي حنيفة، إذا اصطُلمتا، يعني: أُخذت من أصلها، فالأذن نفسها دية، لو قلنا أخذ الإمام الشافعي من قوله في الحديث: "في الأذن خمسون من الإبل"، وقال: حتى وإن لم يذهب السمع إذا قد اصطُلمتا.
والإمام مالك المشهور عنه: أنه لا تجب في الأذنين الدية إلا إذا ذهب سمعهما، فإن لم يذهب ففيه حكومة، وهذا الذي يُروى عن أبي بكر.
قال: "وَفِي ذَكَرِ الرَّجُلِ الدِّيَةُ كَامِلَةً"؛ لأنه من الأعضاء المفردة، "وَفِي الأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةً"؛ فإنهما من المثنيين؛ من الاثنين في الأعضاء.
ويقول: "بَلَغَهُ: أَنَّ فِي ثَدْيَي الْمَرْأَةِ الدِّيَةَ كَامِلَةً"؛ إذا قطع الثديين، يعني: إذا استأصلهما بالقطع، وأمّا قطع رأس الثدي فقط، أو حلمة تامة: فلا تجب الدية فيهما إلا بشرط إبطال اللبن.
ففي الثديين الدية، ولا خلاف في وجوب الدية في قطع ثديي المرأة، والواحد نصف الدية، ولكن الخلاف أيضًا في الرجل فقيل: هو أيضًا مثل المرأة، وقيل: لا، هذا لا يجيء فيه اللبن، ليس فيه لبن، ولكن فيه جمال ومنفعة.
فثديا الرجل أيضًا في قول للإمام الشافعي وهو عند بعض الأئمة: الدية، ولكن ظاهر مذهب الشافعي، كما قال الإمام مالك وأبو حنيفة: فيهما حكومة، ثدي الرجل ليس فيها دية، ولكن ثدي المرأة يترتب عليها أمور وفوائد أخرى غير ثدي الرجل، في ثديي المرأة الدية لأنه فوّت جنس المنفعة، في الواحد نصف الدية، بخلاف ثديي الرجل تكون حكومة عدل، هكذا عند الشافعية وعند الحنفية.
"قَالَ مَالِكٌ: وَأَخَفُّ ذَلِكَ"؛ الذي تجب فيه الدية "عِنْدِي الْحَاجِبَانِ وَثَدْيَا الرَّجُلِ"؛ وفيه الخلاف كما سمعت.
والحاجبان فيهما الدية عند الإمام أحمد، وكذلك يُروى عن سعيد بن المسيّب وشريح والحسن وقتادة، ومشهور أيضًا مذهب مالك والشافعي: أن فيها حكومة عدل.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أُصِيبَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهِ فَذَلِكَ لَهُ"؛ يعني: وإن كان أكثر من الدية، كيف؟ "إِذَا أُصِيبَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ وَعَيْنَاهُ، فَلَهُ ثَلاَثُ دِيَاتٍ"؛ لليدين دية، وللرجلين دية، وللعينين دية، فثلاث ديات تُسلّم ما دامه حيّ، خلاف لو مات وقعت دية واحدة، ما دامه حي على كل ما فقد من المنافع دية.
فمن أُصيب من أطرافه: ما فيه دياتٌ كثيرة، وبقيت نفسه، يأخذ دية كل شيءٍ من ذلك، وإن بلغت عدتها ديات نفوس، ما تتداخل مع بقاء النفس، إنما تدخل كلها في دية النفس إذا تلفت النفس، هذه دية واحدة خلاص…لا إله إلا الله!
وتَقدّم معنا أن سيدنا عمر حكم بأربع ديات، بضربة واحدة ضربها، رمى بالحجر وذهب عقله مسكين.. ولسانه ونكاحه وسمعه ما بقي شيء! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقضى بأربع ديات يُسلّمها.
"قَالَ مَالِكٌ فِي عَيْنِ الأَعْوَرِ الصَّحِيحَةِ إِذَا فُقِئَتْ خَطَأً: إِنَّ فِيهَا الدِّيَةَ كَامِلَةً"؛ هذا مذهب الإمام مالك، لأنه ماذا راح عليه البصر كله، والأخرى هو أصلًا ما يشوف بها، وكذلك عند الحنابلة. ولكن يقول أبو حنيفة والشافعي: نصف الدية، الأولى هي منزوعة البصر من أصلها، ليس له دخل فيها هذا المسكين! والنقص الذي في ذاك لا نرده على الثاني -الجاني- هذا، وإن كان إثمه قد يتضاعف عند الله، لكن في الأرش لا نأخذ إلا مقابل عين واحدة، كما أننا سنأخذ عليه نصف الدية إذا أخرج العوراء، فقال: في العين العوراء يُسلِّم نصف الدية، قال هو أصله ما يشوف بها! أيش عليك يشوف بها أو ما يشوف بها؟! أنت لماذا اعتديت على عينه!
وجاء عن بعض الصحابة: أنهم قضوا في عين الأعور بالدية كاملة، كما هو مذهب مالك.
قال الشافعي: لا يجوز أن يُقال إن في عين الأعور الدية، إنما قال النبي ﷺ في العين بخمسين، وهذه عين؛ يكون أعور أو يكون صحيح؛ هذه عين، أو حتى إذا كان أعمى، عين الأعور لا تعدُ أن تكون عينًا قال الشافعي، فخلاص فيها خمسين، والله أعلم.
رزقنا الله السلامة والاستقامة وأتحفنا بالكرامة، ودفع عنّا الآفات، وألهم الرشد وتمّم السُّعد وبلّغ القصد في لطف وعافية، وأصلح أمور المسلمين ودفع البلايا عنهم ظاهرًا وباطنًا، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
27 ربيع الثاني 1444