شرح الموطأ -457 - كتاب العقول: باب عَقْل الجِرَاحِ في الخَطَأ
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول، باب عَقْلِ الْجِرَاحِ فِي الْخَطَأ.
فجر الأربعاء 21 ربيع الثاني 1444هـ.
باب عَقْلِ الْجِرَاحِ فِي الْخَطَأ
2492- حَدَّثَنِي مَالِكٌ: أَنَّ الأَمْرَ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي الْخَطَإِ: أَنَّهُ لاَ يُعْقَلُ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ وَيَصِحَّ، وَأَنَّهُ إِنْ كُسِرَ عَظْمٌ مِنَ الإِنْسَانِ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ خَطَأً، فَبَرَأَ وَصَحَّ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ عَقْلٌ، فَإِنْ نَقَصَ أَوْ كَانَ فِيهِ عَثَلٌ، فَفِيهِ مِنْ عَقْلِهِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهُ.
قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَظْمُ مِمَّا جَاءَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَقْلٌ مُسَمًّى، فَبِحِسَابِ مَا فَرَضَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَمَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَأْتِ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَقْلٌ مُسَمًّى، وَلَمْ تَمْضِ فِيهِ سُنَّةٌ وَلاَ عَقْلٌ مُسَمًّى، فَإِنَّهُ يُجْتَهَدُ فِيهِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ فِي الْجِرَاحِ فِي الْجَسَدِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً عَقْلٌ إِذَا بَرَأَ الْجُرْحُ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَثَلٌ، أَوْ شَيْنٌ، فَإِنَّهُ يُجْتَهَدُ فِيهِ، إِلاَّ الْجَائِفَةَ، فَإِنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ فِي مُنَقَّلَةِ الْجَسَدِ عَقْلٌ، وَهِيَ مِثْلُ مُوضِحَةِ الْجَسَدِ.
2493- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا خَتَنَ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ: إِنَّ عَلَيْهِ الْعَقْلَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْخَطَأ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا أَخْطَأَ بِهِ الطَّبِيبُ أَوْ تَعَدَّى إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ، فَفِيهِ الْعَقْلُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بشريعته وأحكامها وبيانها على لسان مُبلّغها وإمامها، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان في خصوص الأمور وعامّها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين الذين جعلهم الله من بين الخلائق الفئة التي خصّصها ومَنّ بتقديمها وإكرامها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويتحدّث الإمام مالك -عليه رضوان الله- عن حكم الجراح الخطأ وعقله كيف يكون، وكيف يتم فيه القَود أو الأرش. يقول مَالِك: "أَنَّ الأَمْرَ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي الْخَطَأ: أَنَّهُ لاَ يُعْقَلُ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ وَيَصِحَّ"، وهذا ما عليه الأئمة الثلاثة، أنه: لا يُؤخذ ديتُه حتى يبرأ المجروح ويصح؛ يعني: يشفى من هذا الجرح الذي جرحه به ذلك الجاني عليه خطأ، وكذلك في العمد. ويقولون: إذا أخذ دية جرحه قبل البُرء، ربما ترامى إلى ما هو أكثر منه فيحتاج إلى تكرار الحكم، وربما انتقل أرش الجناية عن الجاني إلى العاقلة، بأن يكون أرش الجناية الأولى أقل من الثلث، فيكون في مال الجاني ثم يترامى إلى أن يبلغ الثلث ويزيد عليه، فيصير واجب على العاقلة، فلهذا قالوا: بالتأخير.
- وهكذا يقول أيضًا الحنابلة: لا تجب دية الجرح حتى يندمل لأنه لا يدري أقتل هو أم ليس بقتل، فينبغي أن ينتظر حكمه وما هو الواجب فيه. وهكذا قالوا: لا يجوز الاستيفاء في العمد قبل الاندمال، فلا يجوز أيضًا أخذ دية قبله، وهكذا عند عامّة الفقهاء.
- وقال الشَّافعية: أن التأخير مُستحَب، ويمكن أن يكون القصاص على الفور، والتأخير أولى وهو المُستحب.
وجاء في الحديث: "أن رجلًا طعن رجلًا بقرنٍ في رُكبَتِه، فجاء إلى النَّبيِّ ﷺ فقال: يا رسولَ اللهِ! أَقدْني، قال : حتى تَبْرأُ، ثمَّ جاء إليه فقال: أَقِدني، فأَقْادَه ثمَّ جاء إليه فقال: يا رسولَ اللهِ! عَرجْتُ ، فقال : قد نَهَيتُكَ فَعَصَيْتَني فأبعدكَ اللهُ وبطلَ عَرَجُكَ"؛ خلاص يعني أثّر فيه ذلك الجرح إلى أن صار أعرج. قال: قلنا لك انتظر ما يؤول إليه أمرك، استعجلت وأردت القًوَد في الحال، خلاص، خذ ما جاءك.
- وهكذا يقول الحكم بالدية عند المالكية والحنابلة والشَّافعية: أن الحكم بالدية لا يكون إلا بعد البُرء مثل القصاص؛ لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال.
- في قول عند الشَّافعية كما هو عند الحنفية: يجوز أخذ الأرش قبل الإندمال كاستيفاء القصاص قبل الاندمال؛ لأن الجناية إن اقتصرت، فأمر ظاهر، وإن سرَت، قد أخذ بعض الدية ثم يأخذ الباقي، هذا قول الحنفية وقول عند الشَّافعية.
قال: "وَأَنَّهُ إِنْ كُسِرَ عَظْمٌ مِنَ الإِنْسَانِ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ"؛ يعني: عظم في اليد أو في الرجل "أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ" في أي موضع كان "مِنَ الْجَسَدِ خَطَأً، فَبَرَأَ" الكسر "وَصَحَّ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ"؛ يعني: صار بعد الصحة على الهيئة التي كانت قبل الكسر، "فَلَيْسَ فِيهِ"؛ أي: في هذا الكسر "عَقْلٌ"؛ أي: دية. يقول: "فَإِنْ نَقَصَ"؛ يعني برئ وشفي المجروح على غير هيئته، بل حدث شيء من النقص والعيب، "أَوْ كَانَ فِيهِ عَثَلٌ"؛ يعني: برأ على غير هيئته. عثلت؛ إذا انجبرت على غير استواء، ما استوت على ما هي، "فَفِيهِ مِنْ عَقْلِهِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهُط. فإن جناية الخطأ فيها غُرم ما نقص. فإن عاد لهيئته؛ فما هناك أي شيء، كأنه كما كان قبل. وإن وقع فيه العثل وغيره، تنقص اليد أو الرجل، ما تعود لحالتها الأولى، فيُنظر إلى حالها اليوم كم نقص من حالها الأولى، فإن كان ثلثًا؛ فلها ثلث دية اليد، وإن كان أقل أو أكثر؛ بحساب ذلك. قال: "فَفِيهِ مِنْ عَقْلِهِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهُ."؛ فإن نقص ثلث منفعة اليد؛ فعليه ثلث دية اليد. وإن كان ربع؛ فعليه ربع وهكذا.
"قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَظْمُ" الذي وقع فيه العثل، "مِمَّا جَاءَ فِيهِ"؛ أي: من العظام التي وردت فيه "عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَقْلٌ مُسَمًّى"؛ أي: ديّة معينة "فَبِحِسَابِ مَا فَرَضَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَمَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَأْتِ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَقْلٌ مُسَمًّى، وَلَمْ تَمْضِ فِيهِ سُنَّةٌ"؛ يعني: طريقة مسلوكة للسلف من قبل، "وَلاَ عَقْلٌ مُسَمًّى" ومعيّن، "فَإِنَّهُ يُجْتَهَدُ فِيهِ"؛ يعني: إن كان اليد أو الرجل الذي فيه نصف الدية، كان بقدر ما نقصه العثل، وإن لم يكن فيه عقل مسمى، اجتهد فيه الحاكم في ذلك؛ يريد أعضاء الجسد مثل: ضلع أو ترقوة أو غير هذا مما لم يرد فيه نص في تعيين ديته.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ فِي الْجِرَاحِ فِي الْجَسَدِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً عَقْلٌ إِذَا بَرَأَ الْجُرْحُ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ"؛ يعني: صار كهيئته الأولى، "فَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَثَلٌ، أَوْ شَيْنٌ"، عيبٌ "فَإِنَّهُ يُجْتَهَدُ فِيهِ، إِلاَّ الْجَائِفَةَ، فَإِنَّ فِيهَا" عقلًا مسمى وهو "ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ"؛ فديّتها مقدرة. وإذا برأت، تبرأ غالبًا على غير شين؛ فجُعل فيها ثلث الديّة تحرُّزًا للدماء وردعًا عنها. "قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ فِي مُنَقَّلَةِ الْجَسَدِ" التي ينقل منها فراش العظم أو ما رقَّ منها. يقول: "وَلَيْسَ فِي مُنَقَّلَةِ الْجَسَدِ عَقْلٌ"؛ يعني: ديّة معيّنة، فهي المنقلة "وَهِيَ مِثْلُ مُوضِحَةِ الْجَسَدِ". يريد إذا برئت على السلامة، فلا شيء لقلة خطرها. أما مُنقَّلة الرأس، ففيها العقل لغررها، كذلك الموضحة.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا خَتَنَ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ: إِنَّ عَلَيْهِ الْعَقْلَ"؛ يعني: دية دون القصاص، "وَأَنَّ ذَلِكَ" الفعل "مِنَ الْخَطَإِ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ" أيضًا؛ لأنه ما أراد إلا المصلحة والقيام بالمهمة مع الكمال ولكن أخطأ وتجاوز فتجاوز الحد، "وَأَنَّ كُلَّ مَا أَخْطَأَ بِهِ الطَّبِيبُ" الذي يُباشر بيده مثل القطع "أَوْ تَعَدَّى إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ، فَفِيهِ الْعَقْلُ"؛ يعني: الدية.
أما لو تعمّد فيه القصاص مثل غيره؛ جاني يعتبر. أما قصده يعالج مسكين ووقع منه بعد ذلك الزلة وخرج الأمر عن أمره… وبذلك اختلفوا في مسألة هذا الطبيب إذا عالج. يقول: ورد في الحديث، "مَن تطبَّبَ ولم يُعلمْ منهُ طبٌّ فهوَ ضامِنٌ." في رواية أبو داود والنّسائي. "مَن تطبَّب"؛ جعل نفسه طبيب "ولم يُعلم منه طب"، ما كان بسابقة معرفة، ولا خبرة، ولا دراية، ولا دراسة عنده. فالمُعالج إذا تعدّى، فتلِف المريض يكون "ضامن".
كذلك من تعاطى علم أو عمل لا يعرفه؛ فهو متعدٍّ.
- فأما إذا طرأ من فعله التلف ضمن الدية، بسبب أنه يفعل ذلك بإذن المريض.
- وهكذا مَن فَصَد أو حجم بإذن؛ لم يضمن؛ لا ضمان على حجّام وفصّاد وبزّاغ لم يجاوز الموضع المعتاد.
- فإذا جاوز، ما يُعتاد في ذلك ضمِن الزيادة.
وهكذا يقول: لا ضمان على حجّام، ولا ختان، ولا متطبب، إذا عُرف منهم حذق الصنعة، ولم تجنِ أيديهم. فإذا كانوا ذوي حُذق في صناعتهم.
- هذا الشرط الأول أن يكونوا حُذّاق في صناعتهم لأنه إذا لم يكن حاذق في الصناعة لم يجز له مباشرة ذلك القطع.
- وألّا تجني أيديهم، يتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع.
فإذا لم يحصل، تجاوزهم ذو خبرة وحُذق؛ يسقط الضمان.
حفظ الله علينا أدياننا وأبداننا، وعقولنا وعافيتنا، وما أعطانا من النعم ظاهرًا وباطنًا، ووقانا الأسواء والأدواء، وأصلح شؤون المسلمين حسًّا ومعنى، وكتب لنا ولكم ولهم التوفيق لما يحب والدخول فيمَن يحب في عافية، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
27 ربيع الثاني 1444