شرح الموطأ -455 - كتاب العقول: باب ما جاء في دِيَةِ العَمْدِ إذا قُبِلَت وجِنَايَة المجنون
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول: باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ وَجِنَايَةِ الْمُجْنُونِ.
فجر الأحد 18 ربيع الثاني 1444هـ.
باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ وَجِنَايَةِ الْمُجْنُونِ
2484 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَانَ يَقُولُ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسُ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً.
2485 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيَانَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِمَجْنُونٍ قَتَلَ رَجُلاً. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ اعْقِلْهُ وَلاَ تُقِدْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَجْنُونٍ قَوَدٌ.
2486 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ إِذَا قَتَلاَ رَجُلاً جَمِيعاً عَمْداً: أَنَّ عَلَى الْكَبِيرِ أَنْ يُقْتَلَ، وَعَلَى الصَّغِيرِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
2487 - قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ يَقْتُلاَنِ الْعَبْدَ، فَيُقْتَلُ الْعَبْدُ وَيَكُونُ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَتِهِ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مكرمنا بشريعته الغرّاء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، سيدنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الكبراء، وعلى من تبعهم بإحسان واقتدى بهم سرًا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين في الفضل أعلى الذُرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويتابع سيدنا الإمام مالكٌ -عليه رضوان الله- الأبواب المتعلقة بالدية، وقال: "باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ وَجِناية الْمُجْنُونِ"، فالقتل يكون على ثلاثة أوجه:
- عمدٌ
- وشِبهُ عمدٍ
- وخطأ
فهو منقسمٌ عند اكثر اهل العلم، الى هذه الأقسام الثلاثة: عمدٌ وشبه عمد وخطأ. ولم يقل مالكٌ بشِبهِ العمد، وقال إنما في الكتاب، العمدُ والخطأ، فشِبهُ العمد لا يُعمَل به عنده، وجَعلَه من قِسم العمد، فما عنده إلا قسمان: عمدٌ وخطأ، وليس بينهما شيء. وروايةٌ أخرى عند مالك، كما قال غيره من الأئمة: أنه يكون عمدٌ وشبهُ عمدٍ وخطأ، ولكن المشهور عندهم في المذهب، الرواية المشهورة لديهم، أنه قسمان فقط: عمدٌ وخطأ.
وجاء عن أبي الخطاب: أن هناك قسمٌ رابع، وهو: ما أُجريَ مجرى الخطأ، مثلُ أن ينقلب النائمُ على شخصٍ فيقتله، أو قتلٌ بسبب حفر بئر، وهي عند الجمهور من الخطأ -داخلة في الخطأ- وهذا أبي الخطاب جعله جاري مجرى الخطأ، لأنه مسلوبُ الإرادة مثل هذا، وذاك بعيدٌ عن المباشرة والقصد.
في قتل العمد يكون لولي الدم أحدُ شيئين:
- إما القصاص
- أو العفو
- إما عفو عن الدية
- وإما مجانًا
- أو على بعض الدية
أو مجاناً بمقابل أو بغير مقابل. وهذا الانتقال من القصاص إلى العفو على أخذ الدية، هل هو حقٌ واجب لولي الدم من دون أن يكون الخيار للجاني المقتص منه؟ أو لا تثبت الديةُ إلا بتراضي الفريقين؟
- يقول مالك: لا يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفوَ عن غير دية. أما أن يعفو بالدية، فيرجع إلى رضا المقتصّ منه -إلى رضا الجاني- إذا رضي هو أن يُعطِيَ الدية مقابل القصاص، فذلك راجعٌ إليه.
- وهكذا يُذكَر عن الإمام أبي حنيفة -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
- لكن يقول الإمام الشافعي والإمام أحمد وأكثر فقهاء المدينة: أن وليَ الدم بالخيار؛
- إن شاء اقتص.
- وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتلُ أو لم يرض.
قال القاتل: أنا ما بسلم الدية اقتلوني، ما تُقتل إذا عفا ولي الدم ، فلا بد تُسلَّم الدية، فيجبرُه الحاكم أن يسلِّم الدية من دون رضاه. هكذا عند الشافعية والحنابلة أنه راجع إلى رأي ولي الدم، إما أن يقتص وإما أن يعفو على الدية، أو على أي شيء، أو من غير مقابل مجانًا، فالأمر راجع إليه، ولا خيار للجاني.
لكن عند الحنفية والمالكية: ليست الديةُ عقوبةً أصليةً للقتل العمد، ولكن تجب بالصلح، إذا رضي الجاني. لكنها عند الشافعية والحنابلة: لا دخل لرضا الجاني، وإنما أمرها منوطٌ ومعلق بولي الدم، فولي الدم إما أن يقتص، وإما أن يرضى بالدية. فيُجبَر عليها الجاني، وإما أن يعفو مجانًا، فله ذلك، وإما أن يعفو بعضُ الورثة دون البعض، فيُعطَى الذي لم يَعفُ قسطَه من الدية.
قالوا: وديةُ العمد تجب في مال القاتل، باتفاق أهل العلم، لا تحملها العاقلة عنه لأنه متعمد، فتُغلَّظ عليه، وهذا هو الأصل في الأمر.
ولكن خولف في قتل المعذور فيه صاحب الخطأ، لأن الواجب عليه كثير، والجاني يعجز في الغالب عن تحمله، مع وجوب الكفارة عليه، وقيام عذره بأنه مخطئ، ولهذا جاء بعد ذلك إجماعُ الصحابة أنه يتحمله العاقلة عنه. أما العامد فغير معذور، فلا يستحق التخفيف.
إذًا:
- فديةُ العمد تجب حالَّةً، وفي مال الجاني وحده، وهكذا يقول الجمهور.
- وإنما قال الحنفية: بأنها تؤجل لثلاث سنين، دية العمد تؤجل ثلاث سنوات عندهم.
- لكن عند الجمهور تكون حالَّة، تغليظا على الجاني.
إذًا؛ فكل عمدٍ سقط القصاص فيه بشبهة، فالدية في مال القاتل، لا تعقل العواقل عمدًا، في الحديث.
ثم ذكر لنا: "عن ابْنَ شِهَابٍ كَانَ يَقُولُ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ"، يعني برضى الفريقين عند أبي حنيفة، وهو المشهور عن مالك، أو برضى ولي المقتول فقط عند الشافعي وأحمد، إذا قُبلت "خمس وعشرون بنت مخاض" التي آن لأمها أن تكون ماخضًا بغيرها، التي لها سنة ودخلت في الثانية "وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ"، لها سنتان ودخلت في الثالثة، "وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً،" لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، "وَخَمْسُ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً"، لها أربع سنين. هذا مذهب الإمام مالك عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
فالمالكية كالحنابلة عندهم: أن الدية مخمّسة، أو مربّعة أرباع كما ذكر عندنا، خمس وعشرون حقة، خمس وعشرون جذعة، خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون. وتجب في مال الجاني تغليظاً على القاتل، هكذا يقول المالكية والحنابلة.
لكن عند المالكية: أن في قتل الأب ولده عمداً، تثلث الدية، إذا لم يُقتل به، فالتثليث يكون بثلاثين حقة، وثلاثين جذعة وأربعين خَلِفة، يعني حاملا.
وهكذا يقول الشافعية: هذه دية العمد مثلَّثة، تكون في مال الجاني حالَّةً مغلظة:
- من جهة السن: مثلثة
- ومن جهة كونها في مال الجاني خاصة
- ومن جهة كونها حالَّةً غير مؤجلة
فهي مغلظة من ثلاث جهات.
فما تؤجل الدية في القتل العمد عند جمهور الفقهاء كما سمعت -إلا عند الحنفية- لأن الأصل وجوبُ الدية حالَّة بسبب القتل، إنما التأجيل في الخطأ، عُدِل به عن الأصل لإجماع الصحابة، فأُجلت إلى ثلاث سنين.
وكذلك يقول الحنفية: في القتل العمد مثل التغليظ في شبه العمد عندهم، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. لكن عند محمد ابن الحنفية: أثلاث كالشافعية.
ذكر لنا هذا، ويذكر في الحديث بعده: "أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيَانَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِمَجْنُونٍ قَتَلَ رَجُلاً. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ اعْقِلْهُ"؛ يعني: احبسه بالعقال والقيد، "وَلاَ تُقِدْ"؛ أي: لا تقتص مِنْهُ، لكونه تصرفَ في حال جنون، "فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَجْنُونٍ قَوَدٌ." إذًا؛ فحكم المجنون القاتل، أن يُعقل ولا يُقاد، لأن فعله من غير قصدٍ، فأشبه قتل الخطأ.
إذًا؛ لا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبيٍ ولا على مجنونٍ، ولا زائل العقل بسبب يعذر فيه، مثل نائم ومغمى عليه، بخلاف سكران متعمد بسكره، لما جاء في الحديث عند أبي داود والترمذي وابن ماجة والنسائي عند أهل السنن الأربع يقول ﷺ: "رُفعَ القلمُ عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلُغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". والقصاص عقوبة مغلظة، فما تجب على صبي وزائل العقل، مثل بقية الحدود، لأنهم ليس لهم قصدٌ صحيح، فيصير كالقاتل خطأ.
فإذًا؛ عمدُ الصبي والمجنون خطأ، ففيه الدية على العاقلة.
واختلفوا في المعتوه، وكذلك من يُجَن ويعقِل:
- فإن قَتل أيام صحوه فيلزم عليه القَوَد.
- وإن قتل أيام جنونه، فلا يلزم القَوَد وتلزم الدية.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ إِذَا قَتَلاَ رَجُلاً جَمِيعاً عَمْداً: أَنَّ عَلَى الْكَبِيرِ أَنْ يُقْتَلَ"؛ لأن موجب القتل العمد، القصاص، وهذا حاصل عليه، "وَعَلَى الصَّغِيرِ نِصْفُ الدِّيَةِ"؛ لأنه لا قَوَد على الصغير بالإجماع، فيلزمه نصفُ الدية. فإذا لم يحصل القتل إلا بمعاونة الصبي غير البالغ للكبير، فبفعلهما جميعاً قُتِل، فإذا قتلاه خطأ، فعلى العاقلة، عاقلة كل واحد منهما، إخراج الدية. فإن قتلاه عمداً فالكبير يُقتل، وعلى الصغير نصف الدية.
وقال غير الإمام مالك: أنه ما دام لم يحصل القتل إلا بمَن لا ديةَ عليه -بمن لا قود عليه-، فيسقط القَوَد عن الثاني، لأنه بفعله وحده ما بيحصل القتل، وإنما حصل بفعل الثاني معه، والثاني لا قود عليه، فإذًا عندهم ما يُقتل الكبير.
فإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ، فما الحكم؟
الحكم عند الشافعية والحنابلة: أن عاقلة كل واحد منهم عليها ثلث الدية، رجع كله خطأ، فعلى العاقلة ثلث الدية، وفي مال هذا البالغ. وكل واحد من الصبي والمجنون، ثلث الدية من العاقلة، البالغ يلزمهم ثلث الدية في ماله، والمجنون والصبي ثلث الدية في مال العاقلة.
وفي رواية عن الإمام أحمد مثل الإمام مالك: أن الكبير هذا يُقتص منه، فيجب القود على البالغ العاقل، وهو أيضًا قولٌ عند الشافعية.
"قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ يَقْتُلاَن الْعَبْدَ" الرقيق ، إذا اشترك الكبير والصغير في الحر والعبد، يقتلان جميعا يقتلان العبد "فَيُقْتَلُ الْعَبْدُ وَيَكُونُ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَتِهِ". يقول: "وَكَذَلِكَ"؛ أي: مثل اشتراك الكبير والصغير، "الْحُرُّ وَالْعَبْدُ،" حرٌ وعبد، وقتلوا مملوك رقيق، فيُقتل العبدُ القاتل قصاصًا؟ لأنه مساوى به، الحر بالحر والعبد بالعبد، ويكون على الحر القاتل، نصفُ قيمته، ولو زادت على الدية. وإنما انتفى القصاص لعدم المساواة، لأن مذهب الإمام مالك أن الحر لا يُقتل بالعبد، ويُقتل العبدُ بالحر، كذلك يقول الشافعية.
- وقال أبو حنيفة: يُقتل بعبدٍ غيره، يعني الحر
- والجمهور: أنه لا يُقتل الحُر بالعبد.
أما الإثم، واستحقاق النار على القتل، فسواءً كان مملوكً أو حر، ليس من فرق في الإثم والتعرض لدخول النار، والعذاب الشديد، لا فرق بينهم، ولكن من جهة القَوَد والقصاص، فيه هذا الخلاف؛ الجمهور يرون أنه لا يُقتل الحرُّ بالمملوك، يقول تعالى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَى) [البقرة:179].
ويتكلم بعد ذلك على دية الخطأ في القتل.
رزقنا الله الاستقامة وعصم دماءنا والمسلمين، وأموالنا والمسلمين وأعراضنا والمسلمين، وأصلح شؤون الأمة بما أصلح به شؤون الصالحين، في عافية بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
22 ربيع الثاني 1444