شرح الموطأ -454 - كتاب العقول: باب العَمَلِ في الدِّيَة
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول، باب الْعَمَلِ فِي الدِّيَةِ.
فجر الأربعاء 14 ربيع الثاني 1444هـ.
باب الْعَمَلِ فِي الدِّيَةِ
2481 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
قَالَ مَالِكٌ: فَأَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ، وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ.
2482 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْطَعُ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَالثَّلاَثُ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَىَّ فِي ذَلِكَ.
2483 - قَالَ مَالِك: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فِي الدِّيَةِ الإِبِلُ، وَلاَ مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ الذَّهَبُ وَلاَ الْوَرِقُ، وَلاَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ الْوَرِقُ, وَلاَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ الذَّهَبُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه الكُبراء، وعلى من والاهم في الله وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين في المجد أعلى الذُرى، على آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مَالِكْ ذكر المسائل المتعلقة بالدِّيَةِ، ويقول: "الْعَمَلِ فِي الدِّيَةِ"، يعني: كيف يُعطي الدِّيَةِ، مأخوذة من الودَى، بمعنى الهلاك لأنها مسبَّبة عنه فسُميت باسمه، لأنه إذا تسبب في القتل وجبَت عليه الدِّيَة، لأنه ودى ذلك المقتول الذي مات بسببه.
وذكر لنا -رضي الله تعالى- عنه ما بلغ "مَالِكْ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ"، الذين ينتشر بينهم التعامل بالذهب وتكون عملتهم الأساسية الذهب، كمثل أهل الشام ومصر، قال: "أَلْفَ دِينَارٍ"، يعني: مقدار الدِّيَة، "وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ"
"فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ" من الفضة، وهو في ذاك الوقت صرف الألف الدينار اثنا عشر ألف، فالدينار باثنا عشر درهم.
"قَالَ مَالِكٌ: فَأَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ، وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ". فهذه الحواضر كان هذا منتشر فيها التعامل بالذهب، وفي هذه التعامل بالفضة، فبقي البوادي بعد ذلك، وهذا يُذكّر بحكم المسألة أن ما هو الأصل في تسليم الدِّيَةِ؟ فأمّا ما كان من الإبل فمتفقٌ عليه، فإذا أُدّيت من الإبل تُقبل عند جميع الفقهاء لا خلاف بينهم في ذلك؛ ولكن غير الإبل ماذا يكون؟
فعند المَالِكْية وأبي حَنِيفَة كذلك، يقول: أصول الدِّيَة ترجع إلى ثلاث أجناس:
- الإبل وهو الأصل المتفق عليه.
- والذهب.
- والفضة.
لأهل الذهب ألف دينار، ولأهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، أو عشر آلاف على اختلاف.
إذًا؛ فالدِّيَة:
- على أهل الإبل: مائة من الإبل عندهم.
- وعلى أهل الذهب: ألف دينار.
- وعلى أهل الورِق: اثنا عشر ألف درهم.
يقول عند المَالِكْية والحَنَابِلَة، لما جاء على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم، ولما جاء أيضًا عن أبن عباس: أن رجلاً قُـتـل، أي في عهده ﷺ، فجعل النَّبي صلَّى ديَّته اثني عشر ألفاً، أي درهمًا. فصارت عندهم ثلاثًا.
قال الحَنَفِية: أن الدِّيَة من الورق عشرة آلاف درهم، لما جاء من قول أيضًا سيدنا عمر: الدِّيَة عشرة آلاف درهم، وبعضهم جمع بين ذلك، أن ما كان على وزن خمسة من الدراهم فيجيء اثنا عشر ألف، وما كان على وزن ستة فيجيء عشرة آلاف، وهو نفسه المقدار ما بين العشرة الآلاف، والاثني عشر ألف من الدراهم.
وهكذا يقول الإمام أحمَدْ بن حَنبَل وصاحبا أبي حَنِيفَة أصول الدِّيَة:
- الإبل وهو المتفق عليه.
- والذهب.
- والورق.
- والبقر.
- والغنم.
وعاده زاد أبو يوسف من أصحاب الإمام أبي حَنِيفَة: الحُلل، وقال: أنه مائتي حُلّة عند أهل الحُلل.
وجاء أن سيدنا عُمَر بن الخطاب قام خطيبًا فقال: ألا إنَّ الإبِلَ قد غَلَتْ، ففَرضها على أهْلِ الذَّهَبِ ألْفَ دينارٍ، وعلى أهْلِ الوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا، وعلى أهْلِ البَقَرِ مِئَتَيْ بَقَرةٍ، وعلى أهْلِ الشاءِ أَلْفَيْ شاةٍ، وعلى أهْلِ الحُلَلِ مِئَتَيْ حُلَّةٍ" فأخذوا بذلك. فجعلوها أصول فصارت ستة:
- الإبل.
- والبقر.
- والغنم.
- والذهب.
- والفضة.
- والحُلل.
فهذه المذاهب التي تقول هكذا، أي شيء أحضره الجاني من أنواع هذه الدِّيَة أو عاقلتهم من هذه الأصول يُقبل.
- لكن قال الإمام الشَّافعي كما هو رواية عن الإمام أحمَدْ بن حنبل: لا أصل في الدِّيات إلا الإبل فقط، وعند تعذُرها أو امتناعها فقيمتُها. وذلك أن النَّبي ﷺ فرّق بين ديَّة العمد وديَّة الخطأ في أنواع الإبل وقدره، وهذا ما يتأتى في بقية الأشياء إلا في الإبل.
إذًا فالأصل في الدِّيَة هو الإبل فقط عند الشَّافعية كما هي رواية عن الإمام أحمَدْ بن حَنبَل، ولا اعتبار للأصول الأخرى إلا ما كان من قيمة الإبل، فقيمة الإبل سواءً كانت دراهم أو دنانير، أو مقابل ذلك من بقرٍ أو غنم أو غير ذلك، المهم الأصل هو الإبل، وإنّما هذا قيمتها، وليس عددًا معينًا في بقية النَعم، ولا عددًا معين من الدنانير ولا الدراهم؛ إنما كم تبلغ قيمة المائة من الإبل المعيّنة في قتل العمد أو في قتل الخطأ فهي هي بلغت ما بلغت، إن قصرت أو كثرت قيمتها، فهذا هو الأصل عند الشَّافعية، والرواية أيضًا عن الإمام أحمَدْ كالشَّافعية أن الأصل هو الإبل فقط، ويدل عليه الحديث والتفريق بين ديَّة العمد وديَّة الخطأ وهذا ما يكون إلا في الإبل.
يقول: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ".
إذًا؛ فهي أصول ثلاثة، كما هي مذهب المَالِكْية والحَنَفِية، ويقول المَالِكْية: أهل البوادي من كل إقليم من أهل الإبل، فإن لم يوجد عندهم إلا الخيل أو البقر فلا نص، والظاهر تكليفهم بما يلزم حاضرتهم، يعني الحاضرة التي تليهم، من ذهبٍ أو فضة، فجعلوها أصول ثلاثة، وعند الحَنَابِلَة خمسة، وعرفنا أن أبو يوسف مِنْ أصحاب أبي حَنِيفَة زاد الحُلل، فصارت ستة، أصول الدِّيَة.
يقول: "قَالَ مَالِكٌ: فَأَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ، وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ". أي فهذا الذي كان مُنتشر ومُشتهر بينهم، وكذلك ما كان في مكة والمدينة فإنهم يستعملون الذهب.
وذكر: "أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْطَعُ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ"، "قَالَ مَالِكٌ: وَالثَّلاَثُ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَىَّ فِي ذَلِكَ". وعليه الأئمة أن ديَّة الخطأ تُؤخذ مؤجلةً ثلاث سنوات يُدفع في كل سنةٍ ثلثٌ منها، فتكون مؤجلة إلى ثلاث سنين، فتُنجّم على ثلاث سنين، فهو أيضًا مذهب الأئمة الأربعة كلهم: أنه يمتد الأجل في قتل الخطأ إلى ثلاث سنين فهذا على اتفاق الفقهاء، وفي الحديث: "اقْتَتَلَتِ امْرَأَتانِ مِن هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إحْداهُما الأُخْرى بحَجَرٍ فَقَتَلَتْها وما في بَطْنِها.." فقدّر رسول الله ﷺ بدِيَةَ المَرْأَةِ على عاقِلتِها، وأجمعوا الصَّحابة على التأجيل إلى ثلاث سنين فعُلمَ أنهم علموه عن رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
كذلك في شبه العمد أيضًا تؤدى من قبل العاقلة في ثلاث سنين.
أما قتل العمد فهو عند جمهور الفقهاء لا يؤجل بل تكون معجّلة وتُسلّم مباشرة، لأن الأصل وجوب الديَّة حالّة بسبب القتل والتأجيل، إنما هو في الخطأ معدولًا به عن الأصل لإجماع الصَّحابة عليه، وللتخفيف على غير المتعمد؛ ولكن تجب الدِّيَة في القتل العمد حالّة، إلا عند الحَنَفِية، فالحَنَفِية عندهم أيضًا مؤجلة ثلاث سنين، وإلا قال الأئمة الثلاثة: لا تأجيل في قتل العمد، بل يجب أن يُسلّم الدِّيَة حالًا.
فالتَغليظ عند الحَنَفِية مخصوص فقط من ناحية أسنان الإبل، ومن ناحية أنها في مال الجاني لا على العاقِلة.
وأما التأجيل فهي مثل ديِّة الخطأ عند الحَنَفِية.
قال غيرهم بل تُخفف من الثلاث النواحي: من جهة أسنانها، ومن جهة أنها تكون مُغلظة، تكون مُغلظة من الجهات الثلاث:
- من جهة سنها مغلظة ديِّة العمد.
- ومن جهة كونها على الجاني وحده لا على العاقِلة.
- والتغليظ الثالث أنها حالّة غير مؤجلة.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالثَّلاَثُ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَىَّ فِي ذَلِكَ. وقال: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فِي الدِّيَةِ الإِبِلُ" هم الذين لا يكونون من أهل العمود، وأهل البادية، الإبل في الدِّيَة، "وَلاَ مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ" والبادية "الذَّهَبُ وَلاَ الْوَرِقُ"، أن الواجب عليهم الإبل خاصّة، "وَلاَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ الْوَرِقُ، وَلاَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ الذَّهَبُ". يُقبل من كل واحدٍ ما وجَبَ عليه، فيؤخذ من أهل كل بلدٍ في الدِّيَة ما ثبت في حقهم.
وعلمنا الذي عليه الجمهور أن الإبل متفقٌ عليها.
ثُمَّ انتقل إلى ذكر ما جاء في دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ وَجِنَايَةِ الْمُجْنُونِ، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، وعصم دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ودفع عن الأمة البلايا والرزايا، ولطف بنا وبالأمّة فيما تجري به المقادير، ودفع عنا كل سوء أحاط به علمه، وألهمنا رشدنا في كل حركة وسكون، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمد ﷺ.
22 ربيع الثاني 1444