شرح الموطأ -453 - كتاب العقول: باب ذِكْر العُقُول

شرح الموطأ -453 - كتاب العقول: باب ذِكْرِ الْعُقُولِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول، باب ذِكْرِ الْعُقُولِ.

فجر الأربعاء 13 ربيع الثاني 1444هـ.

 باب ذِكْرِ الْعُقُولِ

2480 - حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْعُقُولِ: أَنَّ فِي النَّفْسِ مِئَةً مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِىَ جَدْعاً مِئَةٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ مِثْلُهَا، وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بالشريعة وبيانها على لسان عبده وحبيبه محمدٍ صاحب المراتب الرفيعة والجاهات الوسيعة، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن غدا مواليًا له وتبيعه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من جعلهم الله للخلائق حصونًا منيعة من الأسواء والشرور والضلال والقطيعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وابتدأ سيدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله- في الموطأ يذكر ما يتعلّق بالعقول لما يحصل من: الاعتداء، والجرح، وقطع العضو من الآخر، وما إلى ذلك.. وما يترتب عليه، قال: كتاب العقول؛ جمع عقل: 

  • يُقال عقلتُ القتيل عقلًا: يعني أدّيت عنه ما يتعلق بواجب الأرش والدِية مما يصير على العاقلة فيُعقل ويُؤدّى عن الجاني. 
  • والأصل في العقل: هو الإمساك والاستمساك والمنع كما يقولون في عقل البعير. 
  • وسُمّي العقل عقلًا: لأنه يمنع صاحبه عن ارتكاب القبيح، وكل من صَحَّ عقله، فعقله حاجز له ومانع عن أن يرتكب قبيحًا، قولًا أو فعلًا، أو نظرًا أو سمعًا، أو حركة أو سكونًا.

يقول سيدنا مالك: "أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؛ وفيه بيان العقول "لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ" من الأنصار -نجَّاري- كان عامل النبي ﷺ على نجران، فكتب النبي ﷺ له ما يتعلق بهذه العقول كتاب جليل فيه أنواع كثيرة من الفقه: في الزكاة، وفي الديّات، وفي الأحكام، وذكر الكبائر، وذكر الطلاق، وذكر العتاق، وفي أحكام الصلاة في الثوب الواحد وغيرها، ومس المصحف "لا يمسّ القرآن إلا طاهر"، وغيرها من الأحكام كانت في كتاب النبي ﷺ الذي كتبه إلى عمرو بن حزم، وبعث به مع عمرو بن حزم وكان قد قَدِمَ به إلى اليمن، فيه: 

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي إلى شُرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال، قيل ذي رُعين ومعافر وهمدان، وأما بعد… فسَرَد عليهم كثيرًا من الأحكام، أحد الكتابين اللذين كتبهما ﷺ إلى بني كلال كان مع عمرو بن حزم، وبعثه إليهم بعد أن وَلِيَ وفدهم عمرو بن حزم الأنصاري ليُفقّههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم، وفي الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيان من الله ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1]؛ عقدٌ من محمد النبي لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله" وإلى آخر ما في الكتاب، وفيه: "ولا يمسّ أحد القرآن إلا وهو طاهر"، وأرسله يعلّم الناس ويدلّهم على الهدى ويشرح لهم الأحكام. 

جاء في رواية النسائي عن هذا الكتاب يقول: هذا بيان من الله ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]؛ تلى آيات من سورة المائدة، ثم قال: "أَنَّ فِي النَّفْسِ مِئَةً مِنَ الإِبِلِ"؛ وهكذا إلى آخر ما جاء في الكتاب.

 وهناك كتابٌ آخر أرسله ﷺ إليهم، ليس مع سيدنا عمرو بن حزم، لمّا قَدِم عليه ﷺ كتاب ملوك حِمْيَر وذلك عند رجوعه ﷺ من تبوك في سنة تسع، وكتب لهذا الحارث بن عبد الكلال ونعيم بن عبد الكلال ونعمان، قيل ذي رعين وهمدان ومعافر، ويقول: 

 "أَنَّ فِي النَّفْسِ"؛ أي: في قتل النفس خطأ، "مِئَةً مِنَ الإِبِلِ"؛ فالإبل أصلٌ في الدية، ودية الحر المسلم مئة من الإبل، ودلّت عليه أحاديث متعددة منها هذا حديث عمرو بن حزم، كذلك حديث عبد الله بن عمر في دية خطأ العمد، وحديث ابن مسعود في دية الخطأ، فإذا قتل خطأ فهو كما جاء النص في القرآن: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا) [النساء: 92]؛ فــ لورثة المقتول أن يتصدقوا بالدية كلها فيسامحوا فيها أو ببعضها، أو يسمح بعضهم دون بعض فيؤخذ من قسط الذي سامح.

يقول: "وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِىَ"؛ يعني: استُوعِبَ وأخذ الأنف كله، "أُوعِىَ جَدْعاً"؛ أي: قطعًا للأنف، يقول: أوعبه أو أوعاه إذا أخذه بأجمعه، فـ وعى واستوعى لغةً في الاستيعاب؛ أي: في الأنف الدية إذا كان قُطع مارِنه بإجماع أهل العلم، "وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعاً الدية"، وفي رواية مالك: "إِذَا أُوعِىَ جَدْعاً"؛ بمعنى: استُوعب، فهكذا يلزم من قَطَع أنف الغير دية كاملة: "مِئَةٌ مِنَ الإِبِلِ".

يقولون: وَدَى القاتل القتيل، أو يَدِيه ديةً؛ إذا أعطى وليّه المال الذي هو بدل النفس أو بدل قطع العضو، فالمال الذي بدل النفس وبدل قطع العضو يُقال له: دية، ويقال: هي مال يجب بقتل آدمي حرٍّ عِوضًا عن دمه، وكذلك فيما يتعلق بالأعضاء، في مثل ما وجب في قطع اليد أيضًا يُقال له: دية، فإذًا؛ 

  • الدية كما يعبّر الشافعية والحنابلة: المال الواجب بالجناية على الحُرِّ في نفسٍ أو فيما دونها. 
  • يقولون: المال المُؤدّى إلى مجنيٍّ عليه أو وليّه أو وارثه بسبب جناية؛ هكذا يقول الشافعية ويقول الحنابلة. 
  • وهذه الدية أيضًا تسمى عقلًا؛ لأنها تعقل الدماء أن تراق ولأن الدية إذا وجبت وأُخذت من الإبل تُجمع فـتُعقـل ثم تُساق إلى ولي الدم فيسمى عقلًا.

جاء في الكتاب العزيز: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا) [النساء: 92]؛ وهكذا في جملة الكتاب الذي كتبه ﷺ يقول: "إنَّ من اعتَبط مؤمنًا قتلًا عن بيِّنةٍ فإنه قَوَدٌ إلا أن يَرضى أولياءُ المقتولِ، وإنَّ في النفسِ الدِّيةُ مئةٌ من الإبلِ، وفي الأنفِ إذا أوعب جدعه الديةُ، وفي اللسانِ الدِّيةُ، وفي الشّفتينِ الدّية، وفي البيضتَينِ الدِّيةُ، وفي الذَّكَرِ الدِّيةُ، وفي الصُّلبِ الديةُ، وفي العينَين الدِّيةُ، وفي الرجلِ الواحدةِ نصفُ الدِّيةِ، وفي المأمومةِ ثلثُ الدِّية، وفي الجائفةِ ثُلثُ الديةِ -لا إله إلا الله-، وفي المُنقِّلةِ خمسَ عشرةً من الإبلِ، وفي كلِّ إصبع من أصابعِ اليدِ والرجلِ عشر من الإبلِ، وفي السنِّ خمسٌ من الإبلِ، وفي المُوضِحَةِ خمسٌ من الإبلِ، وأنَّ الرجلَ يُقتَلُ بالمرأةِ، وعلى أهل الذَّهبِ ألفُ دينارٍ"، وفي رواية: "وفي اليدّ الواحِدة نِصفُ الدِّيةِ"؛ هكذا جاء في رواية الإمام النسائي، ووجوب الدِّيةِ على الجملة مُجمعٌ عليه.

يقول: "وَفِي الْمَأْمُومَةِ"؛ أي: الشجّة التي تصل إلى أم الدماغ في الرأس، الجلدة التي فيها الدماغ: مأمومة؛ لأن فيها معنى المفعولية في الأصل، وتجمع على مأمومات، وهي أشد الشجاج هذه، يُقال: إن صاحبها يصعق لصوت الرعد ولرغاء الإبل ولا يطيق البروز في الشمس، فيقال لها: مأمومة، ويقال لها: آمّـة، وتُجمع على أوام.

يقول: وأَرْشُها ثلث الدية: "وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ"؛ وعليه عامة أهل العلم، فإذا جَرح الرأس حتى وصل إلى الدماغ أو أم الدماغ فعليه ثلث الدية -ثلث المئة-. 

"وَفِي الْجَائِفَةِ"؛ اسم فاعل من جَافَتُهُ تَجُوفُهُ إذا وصلت لِجَوفِهِ، أي: الشجّة التي تبلغ الجوف، "مِثْلُهَا"؛ يعني: ثلث الدية، وكذلك عليه عامة أهل العلم.

يقول: "وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ"؛ إذا اعتدى على عينه فأفقده عينه: ففي العين الواحدة خمسون، وفي العينين: الدية كاملة، فالعينان إذا أصيبتا خطأً وجبت الدية بإجماع الفقهاء، ففي العين الواحدة نصفها؛ نصف الدية، "وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ"؛ يعني: من الإبل.

"وَفِي الْيَدِ"؛ الواحدة، "خَمْسُونَ"؛ فإذا قطع اليدين: وجب عليه مئة. 

يقول: "وَفِي الرِّجْلِ"؛ يعني: الواحدة، "خَمْسُونَ"؛ من الإبل، والرِّجْلَين: مئة، دية كاملة. 

"وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ"؛ يعني: من أصابع اليد والرِّجل، "عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ"؛ فإذا قطع العشر الأصابع وجبت مائة من الإبل -دية كاملة-، "وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ"؛ سواءً كان من اليدين أو من الرجلين إذا قطعه واعتدى عليه: "عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ"، عليه عامة أهل العلم.

قال: "وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ"؛ من الإبل، سواء كان من الضرس أو الثَنِي أو الرباعي، أي سن من الأسنان قَـلَعَه أو كسره؛ فعليه فيه خمسٌ من الإبل.

"وَفِي الْمُوضِحَةِ"؛ الشجّة التي تبيّن وتوضح العظم وتكشفه هذه يقال لها: مُوضِحَة، أيضًا "خَمْسٌ"؛ من الإبل،. 

  • فإن كانت هذه الجراحة والموضِحة في الرأس أو الوجه: فــ بالاتفاق. 
  • وإن كانت في غير ذلك من الأعضاء: ففيها حكومة عدل عند الإمام مالك وعند الشافعي. 

يقول: هذا ما يتعلق بعموم العقل، ويواصل الأبواب في التفريع عن ذلك ويقول: باب العمل في الدية.

الله يرزقنا الاستقامة ويُتحفنا بالكرامة، ويدفع عنا الأسواء ويُحقـقـنا بالتقوى، ويغمرنا بفيوضات الجود ويُسعدنا بأعلى السعود ويجمعنا بزين الوجود، ويصلح الغيب والشهود لنا وللأمة أجمعين، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

21 ربيع الثاني 1444

تاريخ النشر الميلادي

15 نوفمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام