(374)
(607)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأشربة، باب تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، و باب جَامِعِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
فجر الثلاثاء 13 ربيع الثاني 1444هـ.
باب تَحْرِيمِ الْخَمْرِ
2473- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَت: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبِتْعِ؟ فَقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ".
2474- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنِ الْغُبَيْرَاءِ؟ فَقَالَ: "لاَ خَيْرَ فِيهَا". وَنَهَى عَنْهَا.
قَالَ مَالِكٌ: فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ مَا الْغُبَيْرَاءُ؟ فَقَالَ هِيَ الأُسْكَرْكَةُ.
2475- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ".
باب جَامِعِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ
2476- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟". قَالَ: لاَ. فَسَارَّهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟". فَقَالَ : أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا". فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَزَادَتَيْنِ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا.
2477- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَاباً مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ، قَالَ: فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا. قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ.
2478- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الأَنْصَاري: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ شَكَا إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وَبَاءَ الأَرْضِ وَثِقَلَهَا، وَقَالُوا: لاَ يُصْلِحُنَا إِلاَّ هَذَا الشَّرَابُ. فَقَالَ: عُمَرُ اشْرَبُوا هَذَا الْعَسَلَ. قَالُوا: لاَ يُصْلِحُنَا الْعَسَلُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ: هَلْ لَكَ أَنْ نَجْعَلَ لَكَ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ شَيْئاً لاَ يُسْكِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَطَبَخُوهُ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَبَقِىَ الثُّلُثُ، فَأَتَوْا بِهِ عُمَرَ فَأَدْخَلَ فِيهِ عُمَرُ إِصْبَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ فَتَبِعَهَا يَتَمَطَّطُ، فَقَالَ: هَذَا الطِّلاَءُ، هَذَا مِثْلُ طِلاَءِ الإِبِلِ. فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يَشْرَبُوهُ، فَقَالَ لَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: أَحْلَلْتَهَا وَاللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: كَلاَّ وَاللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي لاَ أُحِلُّ لَهُمْ شَيْئاً حَرَّمْتَهُ عَلَيْهِمْ، وَلاَ أُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ شَيْئاً أَحْلَلْتَهُ لَهُمْ.
2479- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نَبْتَاعُ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ فَنَعْصِرُهُ خَمْراً فَنَبِيعُهَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتَهُ وَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، إنِّي لاَ آمُرُكُمْ أَنْ تَبِيعُوهَا، وَلاَ تَبْتَاعُوهَا، وَلاَ تَعْصِرُوهَا، وَلاَ تَشْرَبُوهَا، وَلاَ تَسْقُوهَا، فَإِنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته، عبده وحبيبه وصفوته سيِّدنا مُحمَّد بن عبد الله صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومُتابعته وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين محل نظر الله في خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرَّبين وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم فيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويذكر سيِّدنا الإمام مالك ما يتعلَّق بالتحريم للخمر الذي أُجمِع على تحريمها، وصار من المعلوم من الدِّين بالضرورة تحريم شرب الخمر، وأن مُستحلّ ذلك يكفر وأنه يشترك في اللعنة:
كلُّهم يدخلون في اللعنة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وهي الطرد من رحمة الله، فلا يجوز المعاونة على شرب الخمر، لا بمناولة ولا بحمل ولا بغير ذلك، فمَن فعل ذلك؛ دخل في دائرة اللعن -أعاذنا الله والمسلمين-.
قال: باب تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فهو في حقيقته الشَّرعية كل ما أسكر، وهل في الحقيقة اللغوية كذلك؟ أو أنه مُختص بما يُتخذ من عصير العنب. ويُقال لغيره: نبيذ أو يسمى خمرًا مجازًا لكنه حقيقة في الشَّرع جميع ما أسكر؛ فهو خمرٌ شرعًا وهو حرام.
"باب تَحْرِيمِ الْخَمْرِ"، فيقع اسم الخمر على كل شرابٍ مُسكر من عنب أو غيره. قد تقدَّم معنا أن التسمية خصّصها أبو حنيفة فيما يُتخذ من عصير العنب، ما لم يطبخ وإلا فالكل بعد ذلك نبيذ ولكن الحكم واحد؛ في أن كل مُسكر حرام. وذكر لنا حديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها، أم المؤمنين- "قَالَت: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" كما جاء في رواية أن السَّائل سيِّدنا أبو موسى الأشعري، عن أشربة تُصنع باليمن، قال: ما هي؟ قال: البِتع. يقال له: بَتع وبِتع، البِتع، وقد يقال له البِتَعُ وهو شراب العسل، البِتع، وكان مشتهرًا بين أهل اليمن. وفي أحد تراجم صحيح البُخاري: باب الخمر من العسل وهو البِتْع.
"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبِتْعِ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ". في رواية قال له: ما هي؟ قال: البـتع والمزر، قال: "كل مُسكرٍ حرام"؛ كل شرابٍ أسكر فهو حرام بأيّ اسمٍ سُمّي، فيحرُم قليله وكثيره. وهكذا عند الحنفية أن المُتخَذ من غير عصير العنب؛ لا يحرُم إلا ما أسكر منه، وما لم يُسكر؛ فلا. قال الجمهور: ما يُسكر كثيره فقليله حرام. لا يجوز تناول شيء منه، كما تدل عليه أحاديث أوردها الإمام -عليه رحمة الله تعالى- في الموطأ، ووردت في غيره.
يقول في الحديث الآخر: "عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنِ الْغُبَيْرَاءِ؟"؛ نبيذ الأرز أو الذرة، يقال له غبيراء. "سُئِلَ عَنِ الْغُبَيْرَاءِ؟ فَقَالَ: "لاَ خَيْرَ فِيهَا". وَنَهَى عَنْهَا." وجاء في الحديث: إياكم والغُبيراء فإنها خمر الأعاجم. وهكذا جاءنا ضرب من الشراب، نوع من الشراب يتخذه الحبشة من الذُّرة، فقد يُسكر يقال له: سُكركة. قال:"لاَ خَيْرَ فِيهَا"؛ أي لأنها مُسكرة، "وَنَهَى عَنْهَا"؛ أي: نهي تحريم. "قَالَ مَالِكٌ: فَسَأَلْتُ" شيخي؛ يعني: "زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ -الراوي- مَا الْغُبَيْرَاءُ؟ فَقَالَ هِيَ الأُسْكَرْكَةُ". هذا الذين يتخذونها من الذُّرة في الحبشة وتؤدي إلى حد الإسكار، فهي نوع من الخمور يُتخذ من الذُّرة.
وذكر لنا حديث: "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ"؛ بمعنى: أنه إذا مات على الإيمان، وكان شَرِبَ الخمر ولو مرة، ولم يَتُب منها؛ فعُذّب على ما لم يُعفَ عنه من الذنوب ثم دخل الجنَّة. فجميع منازله في الجنَّة، لا يُجرى فيها نهر الخمر قط، ولا يطعمُها لأنه استعجل على نفسه فشربها في الدُّنيا؛ فلا يشرب. وخمر الدُّنيا، لا لذة فيها، وفيها الإنزاف وفيها المرض ولكن خمر الجنَّة (لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) [الواقعة:19]، و(لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ) [محمد:15] فيُحرم تلك بهذه إذا شربها وما لم يتب منها. "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ"؛ أي: ولو كان مات على الإيمان ثم دخل الجنَّة فلا نصيب له في خمر الجنَّة؛ لمكان عجلته واستعجاله وشربها في الدُّنيا -والعياذ الله تعالى-.
والحديث أيضًا عند الإمام مُسلم، وجاء عنده في رواية عن مالك: لم يُسقها في الآخرة. وفي لفظ: "فمات وهو مُدمنها،.. لم يشربها في الآخرة". فإما أن لا يدخل الجنَّة أصلًا، إذا زاغ قلبه عند الموت، فمات على الكفر -والعياذ بالله-. وإما أنه وإن مات، وفيه شيء من الإيمان، فإنه يُمنع منها في الجنَّة.
وهكذا فجميع المُسكرات داخلة في الخمر شرعًا، وهكذا قال الجمهور: وقد ثبت التحريم بالكتاب والسُّنّة والإجماع. (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:90-91]، فصدّر الجملة بقوله: (إِنَّمَا) للتأكيد وأنه سبحانه وتعالى قَرَن (الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) قرنهما بعبادة الأصنام (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وأنه جعلهما رجسًا ومن عمل الشَّيطان، وأمر بالاجتناب (فَاجْتَنِبُوهُ) وجعل الاجتناب من الفلاح (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فإذا كان الاجتناب فلاح، فالارتكاب خيبة وممحقة.. وذكر ما ينتج عنهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) والصدّ عن ذكر الله تعالى، وعن مراعاة أوقات الصَّلوات، وأكدها بأبلغ ما ينهى عنه قال: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؛ يعني: تُلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه؟!
وهكذا جاءتنا السُّنّة المُطهرة بعد القرآن الكريم:
فهكذا توالت الأحاديث عنه ﷺ.
ويروي لنا: "عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ؟"؛ أي: الخمر، سأله عمّا يُعصر؛ أي يسأل عن جميع أنواع العصير من حين يُعصر لأن ينتهي في آخر أحواله لأن له أحوال:
إذًا له أحوال.
"فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَاوِيَةَ خَمْرٍ"؛ يعني: قربة، "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟". قَالَ: لاَ". ما بلغه التحريم بعد، "فَسَارَّهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ"؛ كلّمه في أُذنه. "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟". فَقَالَ : أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا". فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَزَادَتَيْنِ"؛ فكها وأراقها في الأرض لمّا سمع كلام النَّبي ﷺ "حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا"، وهذا تأخّر عنه علمه بتحريم الخمر.
جاء في رواية الإمام أحمد في مُسنده: أن رجل أقبل من الشَّام ومعه خمر في زقاق، يريد بها التجارة، فأتى به النَّبي ﷺ، قال: يا رسول الله إني جئتك بشرابٍ جيد. قال رسول الله: "يا كيسان، إنها قد حُرّمت بعدك". أنت بعد ما سافرت قد جاء التحريم، أين كنت؟! قال: أفأبيعها يا رسول الله؟ قال: "إنها قد حرّمت وحُرّم ثمنها". لعن آكل ثمنها، ملعون -والعياذ بالله تعالى-. فانطلق كيسان إلى الزُقاق فأخذ بأرجلها ثم أراقها، كلها خلاص امتثالًا لأمر الله ورسوله ﷺ. وجاء أيضًا في رواية عند الإمام أحمد، يقول ابن عباس: كان لرسول الله ﷺ صديق من ثقيف ودوس، فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، قال: يا فلان، أما علمت أن الله قد حرّمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: بِعها، فقال: إن الذي حرّم شربها، حرّم بيعها، وكذلك جاء عند الإمام مُسلم في رواية.
وجاء في رواية أيضًا عند الإمام أحمد، وعند أبي يعلى من حديث الإمام الداري، أن رجل كان يهدي لرسول الله ﷺ، كل عام راوية خمر، فلمَّا كان عام حُرّمت جاء براوية، وقال: أشعرت أنها حرّمت بعدك؟ قال: أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فنهاه. فلا يجوز بيعها ولا أكل ثمنها. (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:90] قال: فسارّه رجل إلى جنبه، فسارّه إنسان، فقال ﷺ: "بِمَ ساررته؟"؛ أي ماذا قلت له خُفية؟ فكأنه لمّا أخبره النَّبي ﷺ بتحريمها، وكان لا يعلم، ما بلغه الحكم بتحريمها، فسارّه هذا الإنسان بجانبه بما يظن أنه يرشده به إلى منفعته، فلما رأى النَّبي هذه المُسارّة ولم يثق بعِلم هذا الذي سارره، توقع أن يأمره بشيء بمثل ما ظهر، قال له: "بِمَ ساررته؟" فلمّا أخبره بالأمر بيّن لهم الحكم أنه لا يجوز بيعها. قال: أمرته بأن يبيعها، فقال ﷺ: "إن الله -تبارك وتعالى- الذي حرّم شربها، حرّم بيعها"، (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة:90]، فتح الرجل المزادتين، تثنية مزادة؛ والمزادة: قربة يتزوّد فيها الماء حتى ذهب ما فيهما؛ يعني سال على الأرض.
وذكر لنا حديث أَنَسِ بن مَالِكٍ: "أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ" في نفر من الصَّحابة نحو أحد عشر منهم، كما في جاء في رواية عبد الرزاق قبل تحريم الخمر "شَرَاباً مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ"، شرابًا من فضيخٍ يقال له: مفضوخ، فضيخ، ومشدوخ وهو من البُسر، يعجنه بالماء، وتمر. "قَالَ: فَجَاءَهُمْ"؛ يعني النفر الذين يسقيهم آتٍ واصل وصل إليهم. "فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ." وقد أمر ﷺ مناديًا ينادي، فإذا منادٍ ينادي أن الخمر قد حُرّمت. "فَقَالَ:" اخرج فانظر ما هذا الصوت، إذ جاء رجل قال: هل بلَغَكم الخبر؟ قالوا: ما ذاك؟ قال: حُرّمت الخمر. فقال: إنّ الخمر قد حُرّمت بنزول الآية الكريمة سنة ست من الهجرة، وقيل: سنة ثمان. "فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ" -جمع جرّة، الإناء التي من الفخار- هذا "فَاكْسِرْهَا. قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا" وهو حجر مستطيل يُنقر، يُدق فيه ويُتوضأ منه، واستعار أيضًا المهراس للخشبة التي يُدق فيها الحب، "فَضَرَبْتُهَا"؛ يعني: الجرار "بِأَسْفَلِهِ"؛ أي: بأسفل المهراس "حَتَّى تَكَسَّرَتْ" الجِرار، وما عاد أرادوا حتى الجِرار التي كانوا ينبذون فيها. وقال كسّرها كلها، لا يريق الذي فيها ويخلّيها ينتفع بها. قال: كسّرها خلاص، خلها تروح، ما لنا حاجة بها. فبمجرد ما بلغهم تحريم الحق ورسوله لها؛ انصاعوا، وما قالوا: متى وكيف؟! وهذا من أول قد صنعناه وممكن يبقى ولا لا؟ هل نروح ونسأل!... ما شيء من هذا الكلام، الله ورسوله حرّم، حرّم خلاص انتهى -رضي الله عنهم-.
وذكر لنا عن "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ" في خلافته، كان قدومه في الشَّام في السَّنة الثامنة عشر من الهجرة، قال: "شَكَا إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وَبَاءَ الأَرْضِ"؛ يعني: مرض أرضهم العام، "وَثِقَلَهَا"؛ أي: ثقل مائها، "وَقَالُوا: لاَ يُصْلِحُنَا إِلاَّ هَذَا الشَّرَابُ"؛ يعني: يُبعد عنّا شرّ هذا تعب الوخم وثقل الماء، "فَقَالَ: عُمَرُ اشْرَبُوا هَذَا الْعَسَلَ". خلوا حقكم هذا الشراب اشربوا عسل يداويكم الله به (فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ) [النحل:69]. "قَالُوا: لاَ يُصْلِحُنَا الْعَسَلُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ"؛ أي: من أهل أرض الشَّام لمَّا توقف عن إجابتهم سيِّدنا عُمَر: "هَلْ لَكَ أَنْ نَجْعَلَ لَكَ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ شَيْئاً لاَ يُسْكِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ." هاتوه أيش هذا الذي ما يُسكر؟ يعني أراد يختبر ادعاؤهم وصحة ادّخارهم العصير دون أن يُسكر. "فَطَبَخُوهُ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ" بالطبخ "الثُّلُثَانِ وَبَقِىَ الثُّلُثُ"، ذهبت منه المائية التي تحدث إفساده ويسرع تغييره بسببها؛ بقيت فقط عُسيلته خالصة، هذا قد ذهب ثلثاه، "فَأَتَوْا بِهِ" إلى عند سيِّدنا عُمَرَ -رضي الله عنه- ليعرضوه عليه "فَأَدْخَلَ فِيهِ عُمَرُ إِصْبَعَهُ" ليختبر رقّـته، "ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ"؛ أي إصبعه "فَتَبِعَهَا يَتَمَطَّطُ"؛ أي: يتمدد، فَقَالَ سيِّدنا عُمَر: "هَذَا الطِّلاَءُ"، تشبيه به؛ أي "هَذَا مِثْلُ" الطلاء "طِلاَءِ الإِبِلِ"؛ القطران الذي يُطلى به البعير لإزالة الجرب. "فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ أَنْ يَشْرَبُوهُ"؛ يعني: إذا ذهب عنه أثر الخمرية وأثر الإسكار، فلا يُسكر كثيره ولا قليله. "فَقَالَ لَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: أَحْلَلْتَهَا وَاللَّهِ". تُحلّ الخمر؟ "فَقَالَ عُمَرُ: كَلاَّ وَاللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي لاَ أُحِلُّ لَهُمْ شَيْئاً حَرَّمْتَهُ عَلَيْهِمْ، وَلاَ أُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ شَيْئاً أَحْلَلْتَهُ لَهُمْ". ثم إن سيِّدنا عُمَر رجع عن ذلك، فتغيّر اجتهاده فضرب ولده على الطلاء كما تقدّم معنا؛ فجعله كلُّه حرام.
وذكر: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نَبْتَاعُ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ فَنَعْصِرُهُ خَمْراً فَنَبِيعُهَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتَهُ وَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، إنِّي لاَ آمُرُكُمْ أَنْ تَبِيعُوهَا، وَلاَ تَبْتَاعُوهَا، وَلاَ تَعْصِرُوهَا، وَلاَ تَشْرَبُوهَا، وَلاَ تَسْقُوهَا، فَإِنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ."، وكأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام هؤلاء؛ وتكلموا عند ابن عُمَر، فأقام الشَّهادة عليهم لجميع خلق الله أنه ينهاهم عن ذلك، وأن ذلك حرام عليهم.
رزقنا الله التقوى والاستقامة وأتحفنا بالكرامة، وأعاذنا من موجبات النَّدامة في الدَّارين، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
14 ربيع الثاني 1444