(535)
(339)
(364)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأشربة، باب الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ.
فجر الخميس 8 ربيع الثاني 1444هـ.
باب الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ
2463 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلاَنٍ رِيحَ شَرَابٍ، فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابُ الطِّلاَءِ، وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ. فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ تَامًّا.
2464 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ: نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى. أَوْ كَمَا قَالَ، فَجَلَدَ عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ.
2465 - وَحَدَّثَنِي عَنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ، فَقَالَ: بَلَغَنِى أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ،وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَدْ جَلَدُوا عَبِيدَهُمْ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ.
2466 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مَا مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا.
2467 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ شَرَاباً مُسْكِراً فَسَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغرّا ومبيّنها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، اللهم صلّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المصطفى الذي بيّنتَ لنا به الحقائق، وجعلتنا به خير أمةٍ إذ جعلتَه أكرم الخلائق، وصلّ معه على آله وأصحابه وأهل متابعته من كل مقتدٍ به فيما هو فاعلٌ وقاصدٌ وناطق، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أئمة أهل الهدى والطرائق، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويذكر سيدنا الإمام مالك ما يتعلق بالأشربة، وابتدأ بذكر ما حرّم الله -تبارك وتعالى- في الشراب من المُسكِرات.
وذلك أن الشريعةَ جاءت بالمحافظة على العقل، كالمحافظة على النفس والبدن، وعلى الدين الذي هو أعلى وأغلى ما يَتَحصّلُ عليه إنسان، فحَمَت وحرَست الشريعةُ المطهرة:
وحرّمت أن يُتناوَل كلُّ ما يُزيل هذا العقل، وهذه النعمة في الإحساس والوعي، الذي آتاه الله تبارك وتعالى الإنسان. وتناولُه لكل شيءٍ يُزيل عنه هذا العقل، من غرائب عبَثِ ابن آدم ولعبه واستخفافه بالمِنن والنّعم المؤتاة له، من قِبل المُنعم المنّان -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- فإنما العقلُ ميزةُ هذا الإنسان، وآلتُه القوية للفهم وللوعي وللإدراك، وما يميِّزه عن الحيوان وعن النبات والجماد، فإذا سعى في إزالته وإزاحته، فمِن أغرب الغرائب أن يكونَ منه ذلك، وأن يَصدُر منه ذلك، نكرانًا وكفرانًا بالنعمة، وتحديَّا لمُعطي هذا الفضل والإحسان.
وبذلك حرّم الحقُّ -تبارك وتعالى- علينا كلَّ ما أسكر وأذهب العقول، وجعل ذلك هو السببُ القوي لتسلُّطِ الشيطان على ابن آدم، حتى سُمّيت الخمر بأمّ الخبائث، وذلك أنه يحصل له كما أشار إليه -عليه رضوان الله- فيما أورد أنه يهذي، ويقول ما لا يَعقل، حتى يكون في الكفر، وفي أنواع المحذورات والبلايا، بسبب ما فقد من عقله ولُبّه، وهكذا عَلِمَ عدوُ الله إبليس سقوطَ الإنسان باتصاله بهذه المسكرات، فاعتنى بنشرِها، وجَعَلها الوسيلةَ القوية في الإغواء والإضلال، والصدِّ عن سبيل الله، كما قال تبارك وتعالى في تحريم هذا الخمر، لمّا نزل تحريمُه بالمدينة المنورة: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:90-91]. ولمّا تلا ﷺ الآية، سمعه سيدُنا عمر قال: بلى يا ربّي انتهينا انتهينا.
وذلك أنه من المسائل التي اهتمَّ بها سيدـنا عمر، ورأى ما يحصلُ من آثارها في الواقع، فطلبَ البيان: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، ونزلت آية التحريم، فهو محرّمٌ بالكتاب والسنة والإجماع، قال ﷺ: "كلُّ مسكرٍ خمر، وكلُّ خمرٍ حرام".
ولذا تجد أن من أعظم الوسائل لأعداء الله، من يهود وغيرهم، إذا أرادوا التسلُّط على شعبٍ أوعلى بقعةٍ، نشروا فيها هذا بما استطاعوا، وتفننوا في تعديد المُسكرات أو المخدرات التي تُذهب العقول، وعلَّقوا بها الذي يَقبلُ الإنحرافَ والزيغ من الشباب، ومن تنطوي عليه الحيلة، ويدسُّون في ذلك ما من شأنه أن يَحْمل عددًا من الأضرار، من أهمها عندهم: تولُّعُ وتعلّقُ قلبه ورغبتُه وطلبه في ذلك، ليكون كما يسمّوه مدمناً، يستولي عليه هذا السوء والشر، وعندها يَسْلُسُ قِياده، ويُمكن اقتيادُه لأنواع الفساد والشرور والآفات، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
صرفَ الله شرهم عنّا، وعن أمة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم أجمعين، وأيقظَ قلوب وعقول المسلمين، حتى يفقهوا كيف يتصرفون، فإنّ الله تعالى أحل لنا الطيباتِ من المطعومات والمشروبات، وحرَّم علينا الخبائثَ بأصنافها، وسُمّيت الخمر أمُّ الخبائث؛
وذكر صلى الله عليه وسلم عن من يَظهر في الأمّة في وقتٍ من الأوقات، وفي جهاتٍ من الجهات قال: يُسمُّون الخمر بغير اسمها، يشربونها جهارًا! والعياذ بالله تبارك وتعالى، أحدثوا عددًا من الأسماء لها ونشروها، وهكذا حتى انتهَوا إلى تسميتِها بالشراب الروحي، والعياذ بالله تبارك وتعالى، وما هو إلا الشراب الهابطُ الساقط الخبيث، ما له لغذاء الروح من سبيل، ولا مجالَ للصلة بطهر هذه الروح المؤتاةِ من قِبل الله تعالى، ولا بعلو شأنها، (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]. وما شرابُ الأرواح إلا كؤوسُ المعرفة بالحق الفتاح جل جلاله، والفهمُ عنه، والوعي لما أوحاه، والمحبة له بالمحبة منه سبحانه وتعالى، ذاكم ما تشربُه الروح وتنتعش به، وتزدادُ حياةً وبهاءً. وأما هذه بأصنافها، فكلُّها المَدعاة للمرض الجسداني والمرض الروحاني القلبي، وللعذابِ في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله تبارك وتعالى. "ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة".
وبيّنَ لنا عليه الرضوانُ هذا الحكم، وإن اختلفوا في تسميتها من جهة الاصطلاح، أهو مخصوصٌ بما يُتخَذ من عصير العنب فقط،؟ وهل يُشترَط فيه الزّبَد كما هو قول أبو حنيفة؟ هذا من جهة تسميته الاصطلاحية.
أما من جهة الحكم: فكلُّ ما أسكر فهو خمرٌ، كما صحّ في الحديث الذي رواه الإمامُ مسلم وغيره: "كل مُسكرٍ خمر، وكل خمرٍ حرام"، "وما أسكرّ كثيرُه فقليله حرام"، وهكذا قال الجماهير.
فالتسمية سواءً سُمّي خمرًا، أو نبيذًا، أو غير ذلك، كلُ ما أدّى إلى زوال العقل فهو خمرٌ، أي في حكم الشرع، وتناوُلـُه حرام، وما أكثرَ ما أباح الله لنا من الشراب الطيب، وما أكثر ما أباح لنا من الطعام الطيب، فتُترَكُ الطيبات وتُقصَد الخبائث -والعياذ بالله- عند من خَبُث طبعُه ووجهته وتفكيره! فمِن أي شيءٍ اتُخِذَ ما يزيل العقل من عنبٍ أو تمرٍ أو عسلٍ أو حنطةٍ أو شعيرٍ، أو غيرِ ذلك من جميع المواد، فكلُّه كذلك.
وكان من أعظم ما اجتهد فيه أعداءُ الله في الوقت الأخير، ما نشروه بين فئات المسلمين، وحاولوا إيصالَه إلى البلدان، وخاصّةً إذا رأوا أن شيئًا من بلدان المسلمين، بقي فيها أثرٌ من آثار الدين، وآثار الالتزام به، فيُسارعون إلى نشر ذلك، وأحدثوا هذا النوع الذي اشتهِر في بعض البلاد الإسلامية باسم الشبو، وهو نوعٌ خبيثٌ من أخبث أنواع ما تتعلق به النفس إذا ذاقه الإنسان وتناولَه، حتى يبذلَ في تحصيله سرقةَ أمّه وأبيه، وسرقةِ حاله وماله ودينه وكله، لأجل أن يتحصَّل على مثل ذلك، فيزدادُ بُعدًا وطغيانًا ومرضًا، وآفاتٍ كثيرة. دفع الله شرّه وشرور أهله عن أهل لا إله إلا الله، وعن المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.
وأوجدوا عصاباتٍ لذلك في مختلف الأماكن، لتجتهدَ أن تُـحوِّل شباب هذا البلد، في خلال سنتين أو ثلاثة أو أقل أو أكثر، أن تحول رُبُعَهم أو نصفَهم أو ثلاثة أرباعهم، إلى مدمنين في خلال هذا، ويتقسّمون هذه الخطط والمشاريع والخطوات الخبيثة، التي يوظفهم فيها عدوُ الله وعدو الإنسان، إبليس المرجوم، فبئس ما جاء به، وبئس ما يجيء به من تَبِعه، والعياذ بالله. (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [البقرة:208]، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ*وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [يس:60-61].
وبعد ذلك مع اتفاقهم على حُرمتها، ووجوبِ إقامة الحد على متناوِلِها متعمدًا عالمًا بها، اختلفوا في نجاسة عينها، هل تُعدّ من النجاسات أم لا؟
وعدّ الإمام الشافعي جميعَ ما أسكر من المائعات، فجعله من النجاسات، فالمُسكِر من كل شرابٍ يُعدُّ نجِسًا من النجاسات، وبعد ذلك لا يُعَدّ لها ثمنٌ وقيمةٌ في حق المسلم، فمُتلفُها لا يضمن شيئًا، لأنه يَحرُم الانتفاعُ بها.
إنما فرّقوا بين ما يُراد منه الخل، فيتخمّرُ أولاً ثم يتخلل، وسمُّوها الخمر المحترمة، وهي التي تُعصَر بقصد الخِلّية، أي: بقصد أن يستعملوه خَلّاً، والخل مباحٌ بالاتفاق كذلك، ولا يصير خلّاً إلا بعد أن يمرَّ بمرحلة الخمرية، ولكن إذا تخلّل بنفسه، صار خلّاً من دون واسطةِ وضع شيءٍ فيه، صار طاهرًا، وعُفيَ عن الموضع الذي فارَ فيه من الإناء، فارَ فيه -أي: وقت خمريّته-، ثم ينخفضُ إلى مقداره من الإناء الذي يُوضَع فيه، فيُعفى عن ذلك.
يقول: "بابُ الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ"، فهو واجبٌ على من شرب قليلاً من المُسكر أو كثيرًا، لا خلاف فيه بين الأئمة، وجُعلَ له حدٌ من أجل الزجر والنهي، وحرص الشريعة على تطهير مجتمع المسلمين، أن يكون فيه هذه المفاسد.
ولم يقل بذلك الجمهور، بل إذا كان من طبيعته أن يُسكِر، فتناوله، وجَبَ عليه إقامةُ الحد، قال ﷺ: "من شرِبَ الخمرَ فاجلدوه".
وأكثر ما كان يُستعمَل، من العنب أو من التمر في ذاك الوقت، ولكن الحكم واحد؛ من أي شيءٍ كان اُستعمل، العلّة فيه: إذهابُ عقل الإنسان، بأي وسيلةٍ كان وبأي سببٍ كان.
والحدّ فيه: أربعون، ويجوز الزيادة.
وبذلك جعل الإمامُ الشافعي كما هو روايةً للإمام أحمد: أن الأصل في الجلد بسبب الخمر هو الأربعون، وأما زيادةُ سيدنا عمر وغيره، فعدُّـوها من باب التعزير فوق الحد، لأنها تجاوزت الحد، بخلاف الرواية الثانية للإمام أحمد، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك: أنه ثمانون، أنه يُحدُّ شاربُ الخمر ثمانين جلدةً، بما يكون زجرًا له، بأن يكون أمام الناس، في مشهدٍ يُهان فيه ويُذَلّ، لينزجرَ عن مثل ذلك.
وجاء عن سيدنا أنس قال: أُتيَ رسولُ الله ﷺ برجلٍ قد شرب الخمر، فضَربَه بالنعال نحوًا من أربعين، ثم أُتيَ به أبا بكرٍ، فصنع مثل ذلك، ثم أُتي به عمر، فاستشار الناس، فقال ابن عوف: أقلُّ الحدود ثمانون، فضربه عمر رضي الله عنه، أي ثمانين، هكذا جاء في الصحيحين وغيرهما.
وعلى كل حالٍ فهذا اجتهاد الأئمة فيما ذكرناه وحرّرناه. ويُقام الضربُ بالأيدي أو بالنعال وأطراف الثياب، وما إلى ذلك، والقصدُ هو الزجرُ والنهي عن التفكير للعَودِ لمثل ذلك. وذكر لنا: "عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ" جاء في لفظ عبد الرزاق: شهِدتُ عُمَرًا صلى على جنازةٍ، ثم أقبل علينا فقال: إنِّي وَجَدْتُ من عُبيد الله بن عمر -يعني ابنه- رِيحَ شَرَابٍ، وإني سألته عنه فَزَعَمَ أَنَّهُ الطِّلاَءِ،وَأَنَا سَائِلٌ عن الشراب الذي شرب، فإن كان مُسكراً جلدته. قال: فشهدته بعد ذلك يجلده.
وهكذا جاء في رواية سعيد ابن منصورٍ يقول: أن سيدَنا عمر قام على المنبر فقال: ذُكِر لي أن عُبيدَ الله بن عمر وأصحابَه، شربوا شراباً، وَأَنَا سَائِلٌ عنه، فإن كان يُسكر حددتهم.
وفي رواية مالكٍ: "فَقَالَ: إنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلاَنٍ"؛ يعني ابنه: عبيد الله، جاء في صحيح البخاري: إني وجدت من عُبيد الله "رِيحَ شَرَابٍ، وَأَنَا سَائِلٌ عنه، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ" وقيل: أنه ابنه عبد الرحمن الأوسط، وكان له ثلاثةً من البنين يُدعون بعبد الرحمن، وأن هذا هو الأوسط، وقيل أنه أبو شحمة، هذا المجلود في الخمر.
"رِيحَ شَرَابٍ"، إذا أطلقوا يُريدون به ما أسكرَ، وقد اختلف الفقهاء في وجوب الحد بالرائحة:
"فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابُ الطِّلاَءِ"، يعني: ما طُبخ من العصير حتى يَغلب، يُشَبّه بطلاء الإبل، فهذا الشراب المطبوخ من عصير العنب، يُقال له: طلاء. قال: "وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ" إن كان الذي شرب يُسكر، "جَلَدْتُهُ" الحد، "فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ تَامًّا."؛ أي: ثمانين جلدة، فهو عند الشافعية حدٌّ وتعزير، كما هو روايةٍ عند أحمد، وعند غيرِهم الثمانون كلُها حدٌّ.
وذكر أَنَّ "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَشَارَ" الصحابةَ في زمن خلافته "فِي الْخَمْرِ"؛ أي: مقدار حدِّه "يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ: نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ" المسكر "سَكِرَ"، أي: زال عقله، "وَإِذَا سَكِرَ هَذَى"، أي: تكلم بما لا ينبغي، "وَإِذَا هَذَى افْتَرَى"، قذف وهتك الأعراض، أو كما قال رضي الله تعالى عنه.
وتقدم معنا في رواية سيدنا عليٍ، أنه إذاً في عهده رجع إلى الجلد أربعين، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جَلَدَ أربعين، وأبي بكر جَلَد أربعين، وأن عمرَ جلَدَ ثمانين، وهذا أحبُّ إلي.
يذكر لنا بعد ذلك عن المملوك؛ "أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَدْ جَلَدُوا عَبِيدَهُمْ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ فِي الْخَمْرِ".
فالقول أنه أربعين، فيكون عشرين، والقول بأنه ثمانين، ترجع أربعين. وقالوا: ما كان أيضاً من التعزير، لا يُبلَغُ به أقلَ الحدود من الضرب، أو كان للتاديب كما يؤدَب الصبي أو غيره، ما يمكن يبلَغ به أقلَ الحدود، وهو عشرون ضربة.
ولا يبلغُ به أقل الحدود وهو عشرون، بالنسبة إذا كان الشارب مملوكًا رقيقًا، فإنه يُجلدُ عشرين عند الشافعية.
يقول: "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ" التابعي المشهور "يَقُولُ مَا مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا." فلا يُحب العفوَ عن الحد إذا بلغَ الإمام، بل يجبُ أن يقيم الحد.
"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ شَرَاباً مُسْكِراً فَسَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ."؛ فإنه قد يمتنع السُّكرُ لسببٍ، إما في طبيعة هذا الإنسان، أو لكونِه اعتاد مثل هذا فلم يعد يُسكره، لكن ما دام من شأنه أن يُسكِر، فشُربُه يوجبُ إقامةَ الحد، الذي ذكره المصنّف، وأشار إليه الحديث، وعمِلَ به ﷺ.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالسُّنَّةُ" المعروفة "عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ شَرَاباً مُسْكِراً"؛ أي: نوعٍ كان من الأشربة المسكرة، "فَسَكِرَ"منه "أَوْ لَمْ يَسْكَرْ"، إمّا لِقلّة ما شرِِب، أو لاعتياده الشرب، أو غير ذلك من الأسباب "فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ". وهو كذلك عند الأئمة الثلاثة.
رزقنا الله الاستقامة، وحفظ علينا إيماننا وديننا وعقولنا، وتولّانا بما تولّى به الصالحين من عباده ظاهرًا وباطنًا، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
14 ربيع الثاني 1444