(339)
(535)
(364)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود، باب ما لا قَطْعَ فِيهِ.
فجر الأربعاء 7 ربيع الثاني 1444هـ.
باب مَا لاَ قَطْعَ فِيهِ.
2454- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ: أَنَّ عَبْداً سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ حَائِطِ رَجُلٍ، فَغَرَسَهُ فِي حَائِطِ سَيِّدِهِ، فَخَرَجَ صَاحِبُ الْوَدِيِّ يَلْتَمِسُ وَدِيَّهُ، فَوَجَدَهُ فَاسْتَعْدَى عَلَى الْعَبْدِ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَسَجَنَ مَرْوَانُ الْعَبْدَ وَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ، فَانْطَلَقَ سَيِّدُ الْعَبْدِ إِلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ". وَالْكَثَرُ: الْجُمَّارُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخَذَ غُلاَمًا لِي وَهُوَ يُرِيدُ قَطْعَهُ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَمْشِيَ مَعِي إِلَيْهِ فَتُخْبِرَهُ بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَمَشَى مَعَهُ رَافِعٌ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ, فَقَالَ: أَخَذْتَ غُلاَماً لِهَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ بِهِ؟ قَالَ: أَرَدْتُ قَطْعَ يَدِهِ. فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ". فَأَمَرَ مَرْوَانُ بِالْعَبْدِ فَأُرْسِلَ.
2455- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ جَاءَ بِغُلاَمٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لَهُ اقْطَعْ يَدَ غُلاَمِي هَذَا، فَإِنَّهُ سَرَقَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَاذَا سَرَقَ؟ فَقَالَ: سَرَقَ مِرْآةً لاِمْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَماً. فَقَالَ عُمَرُ: أَرْسِلْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ.
2456- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أُتِيَ بِإِنْسَانٍ قَدِ اخْتَلَسَ مَتَاعاً، فَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لَيْسَ فِي الْخُلْسَةِ قَطْعٌ.
2457- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ أَخَذَ نَبَطِيًّا قَدْ سَرَقَ خَوَاتِمَ مِنْ حَدِيدٍ فَحَبَسَهُ لِيَقْطَعَ يَدَهُ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلاَةً لَهَا يَقُالُ لَهَا أُمَيَّةُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَتْنِي وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ فَقَالَتْ: تَقُولُ لَكَ خَالَتُكَ عَمْرَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي أَخَذْتَ نَبَطِيًّا فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ ذُكِرَ لِي، فَأَرَدْتَ قَطْعَ يَدِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَإِنَّ عَمْرَةَ تَقُولُ لَكَ: لاَ قَطْعَ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَرْسَلْتُ النَّبَطِيَّ.
2458- قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي اعْتِرَافِ الْعَبِيدِ: أَنَّهُ مَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ يَقَعُ الْحَدُّ وَالْعُقُوبَةُ فِيهِ فِي جَسَدِهِ، فَإِنَّ اعْتِرَافَهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَلاَ يُتَّهَمُ أَنْ يُوقِعَ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا. قَالَ مَالِكٌ: وَأَمَّا مَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِأَمْرٍ يَكُونُ غُرْماً عَلَى سَيِّدِهِ، فَإِنَّ اعْتِرَافَهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى سَيِّدِهِ.
2459- قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى الأَجِيرِ، وَلاَ عَلَى الرَّجُلِ يَكُونَانِ مَعَ الْقَوْمِ يَخْدُمَانِهِمْ إِنْ سَرَقَاهُمْ قَطْعٌ، لأَنَّ حَالَهُمَا لَيْسَتْ بِحَالِ السَّارِقِ، وَإِنَّمَا حَالُهُمَا حَالُ الْخَائِنِ، وَلَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ قَطْعٌ.
2460- قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ فَيَجْحَدُهَا: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا جَحَدَهُ قَطْعٌ.
2461- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي السَّارِقِ يُوجَدُ فِي الْبَيْتِ قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَمْراً لِيَشْرَبَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ رَجُلٌ جَلَسَ مِنِ امْرَأَةٍ مَجْلِساً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهَا حَرَاماً فَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَيْضاً فِي ذَلِكَ حَدٌّ.
2462- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخُلْسَةِ قَطْعٌ بَلَغَ ثَمَنُهَا مَا يُقْطَعُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وأحكامها وبيانها على لسان سيِّدنا مُحمَّد مزيل قتام الجاهلية وظلامها، اللَّهم صلّ وسلِّم وبارك وكرِّم عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سار في دربه، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين صفوة ربه، وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
يذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في هذا الباب ما يندفع به حد قطع اليد للسارق، ولا يجوز فيه للحاكم أن يقطع اليد.
وأورد لنا حديث: "مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ: أَنَّ عَبْداً سَرَقَ وَدِيًّا"؛ يعني: غرس صغير لنخلة لتكبر، وفي صغر أيامه يغرس يقال له ودي. "سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ حَائِطِ رَجُلٍ، فَغَرَسَهُ فِي حَائِطِ سَيِّدِهِ"، شَلّه -اقتلعه- من الأرض هذه الذي كان صاحبها يغرسه فيها، ويربيه، اقتلعه وغرسه في الأرض. "فَخَرَجَ صَاحِبُ الْوَدِيِّ"؛ يعني: مالكه "يَلْتَمِسُ وَدِيَّهُ، فَوَجَدَهُ" في حائط جاره اسمه آسف "فَاسْتَعْدَى"؛ أي استغاث "عَلَى الْعَبْدِ" المذكور "مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ"، الذي كان أمير المدينة ذاك الوقت، "فَسَجَنَ مَرْوَانُ" بن الحكم هذا "الْعَبْدَ" الذي سرق الودي "وَأَرَادَ"؛ عزم على "قَطْعَ يَدِهِ"؛ يعني: اعتقد ذلك إذا تمت الشهادة عليه، وأنه رأى أنه تُقطع يده لكن سجنه إلى أن يشاور أهل العلم، ويعلم موافقتهم أو مخالفتهم.
"فَانْطَلَقَ سَيِّدُ الْعَبْدِ" الواسع بن حبان "إِلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ" أنصاري، أوسي، مشهور من الصّحابة الكرام "فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ"، ليعلم ما يجب في ذلك؛ يعني: إذا وجب القطع، استسلم لأمر الله تعالى، وإذا لم يجب رفعه عن أبده بإظهار الحكم للأمير مروان. "فَأَخْبَرَهُ" رافع "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ"؛ يعني: مُعلَّق على الشجر، "وَلاَ كَثَرٍ. وَالْكَثَرُ: الْجُمَّارُ"؛ يعني: جُمّار النخل، شحمه الذي يكون في عمقه أو نهايته، يؤكل ويكون أبيض، يقال له: جُمّار؛ يسمونه أهل حضرموت الكُرزام. جُمّار النخل؛ شحم النخل؛ قلب النخلة، معروف يأتي وسطه من أجزاء النخلة أبيض يؤكل.
"فَقَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخَذَ غُلاَمًا لِي وَهُوَ يُرِيدُ قَطْعَهُ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَمْشِيَ مَعِي إِلَيْهِ فَتُخْبِرَهُ بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ". وذلكم هو المرجع عند المؤمنين حاكمهم ومُحكومهم ما ورد عن الله ورسوله ﷺ، فإليه المرجع والمنتهى. وهكذا حقيقة الإيمان، وواجب كل مؤمن في كل زمان في كل مكان أن يكون المرجع إليه في كل حكم في كل مسألة في كل شيء نحصل عليه، كلام الله وكلام رسوله ﷺ، الذي يعاديه إبليس وجنده من شياطين الإنس والجن، فيفرضون من الأنظمة والقوانين من صُنع فكرهم ونتائجهم ما يُضادّون به منهج الله ومنهج رسوله، ولا يجوز لمسلم كان أن يحتكم إلى تلك الأنظمة والقوانين في كل ما خالف شرع الله -جل جلاله وتعالى- في عُلاه.
فقام "فَمَشَى مَعَهُ رَافِعٌ" بن خديج "إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ"، يقول لأمير المدينة هذا المروان، "فَقَالَ: أَخَذْتَ غُلاَماً لِهَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ بِهِ؟" ماذا تريد أن تفعل به؟ "قَالَ: أَرَدْتُ قَطْعَ يَدِهِ"؛ يعني: لسرقته، "فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ" بن خديج لمروان، قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ". جاء في رواية التِّرمذي: "إلا ما آواه الجرين"؛ يعني: إذا قد أُدخل الحرز، أما ما دام عاده ملقى في البستان أو في الحائط لا، وهذا ما أخذ الثمر لكنه أخذ الودي هذا الذي يغرسه فكأنه رآه كالثمر كذلك. "فَأَمَرَ مَرْوَانُ بِالْعَبْدِ فَأُرْسِلَ"، خلاص جاء الخبر وحكم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، وانتهى الأمر في ذلك، فأرسله مروان. فسيده هذا باعه أو نفاه؛ أخرجه من المدينة المُنوَّرة، غير راضٍ بما صنع من أخذ ذلك الودي. ومن المعلوم أن الودي هذا ردّه صاحب الأرض؛ سيد هذا العبد الذي سرق، ردّه إلى صاحبه ولكن أيضًا بعّد العبد من المدينة ببيع أو نفي عنها أدبًا له، ولئلا يبقى في المدينة عناصر سوء. فإن "من أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والنَّاس أجمعين".
وأورد حديث: "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ جَاءَ بِغُلاَمٍ لَهُ" -هذا عبد الله بن عمرو، اسمه عبد الله بن عمرو، وهذا ابن أخيه العلاء بن الحضرمي-، قُتل أبوه في السنة الأولى من الهجرة على الكفر -والعياذ بالله تعالى-. "جَاءَ بِغُلاَمٍ لَهُ إِلَى" سيِّدنا "عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- فَقَالَ: لَهُ"؛ أي: لعُمَر "اقْطَعْ يَدَ غُلاَمِي هَذَا"، اعتقد أنه لا يجوز له أن يتصرّف بقطع اليد ويرجع إلى الإمام والحاكم، فجاء إليه. وهكذا تقدَّم الخلاف في هل يجوز للسيد أن يُقيم الحد على عبده؟ وأي الحدود يُقام؟ وأيُّها لا يقام إلا بالرجوع إلى الإمام؟..
يقول: "فَإِنَّهُ سَرَقَ. فَقَالَ لَهُ سيِّدنا عُمَرُ: مَاذَا سَرَقَ؟" يستبين الأمر ويعلم أهو من المواضع التي فرض الله فيها قطع اليد أو فيه ما يدرأ الحد عن صاحبه؟ "فَقَالَ: سَرَقَ مِرْآةً" التي يُنظَر فيها، "لاِمْرَأَتِي"؛ زوجتي، "ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَماً"؛ يعني: أنه زائد على مقدار نصاب السرقة. "فَقَالَ سيِّدنا عُمَرُ: أَرْسِلْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ" في هذه السرقة، مملوككم.. "خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ". كما قال له ذاك: مالك سرق مالك! مال حقك سرق المال حقك أيش نصلح فيك؟ رُح أدّب غلامك، ولا قطع عليه.
ذكر مواضع تُدرأ فيها الحدود، ومنها: ما يتعلّق بالثمر في البستان قبل أن يُحرز،
لكن جماهير العلماء، لا قطع عندهم، ولابُد من اشتراط كون المسروق محرزًا من أجل إقامة الحد؛ فلا يُقام إذا أخذ السارق النّصاب من غير حرزه؛ لأن غير المحرز ضائع بإهمال صاحبه هو مضيع حقه، يضع ماله في الشارع ويأتي بعد ذلك يقول: سرقوه عليّ أنت فعلت ذلك لماذا؟! ضع كل شيء في حرز مثله. وهكذا يقولون العامة عندنا: اقلد دارك ولا تتهم جارك! يحصل نقص في شيء وبعد ذلك تتهم به الجار، قد يكون بريء منه وأخذه غيره ولكن تأتيك الشكوك والأوهام تقول يمكن هذا أخذ، وهذا يمكن أخذ هذا وسرقه… قفّل على حاجتك وأحرزها ولا عاد تظل تتهم أحد، ولا تظن في أحد سوء.
وهكذا جاء الرجل من مزينة سأل رسول الله ﷺ عن الحريسة، حريسة الجبل؛ الشاه يدركها اللَّيل قبل رجوعها إلى مأواها فتُسرق من الجبل التي توجد في مراتعها، قال فيها: ثمنها مرتين وضرب نكال، وما أخذ من عَطَنه؛ المحل يقفلون عليه، ففيه القطع. إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن، قال يا رسول الله: فالثمار وما أخذ من أكمامها؟ قال: مَن أخذ بفمه ولم يتخذ خبنةً؛ فليس عليه شيء. ومَن احتمل؛ فعليه ثمنه مرتين، لا قطع أيضًا، وضرب نكال؛ يعني تعزير وما أخذ من أجرانه ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجِنّ، هكذا جاء عند الإمام أحمد ورواه أصحاب السُّنن.
إذًا؛ فعموم قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة:38] خصّصه الحديث وخصصته السُّنة بأمور منها أن يكون من حرز مثله.
يقول -عليه رحمة الله-: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أُتِيَ بِإِنْسَانٍ قَدِ اخْتَلَسَ مَتَاعاً"؛ يعني: اختطفه بسرعة على غفلة، اختلس شيء، أخذ شيء مجاهرًا بسرعة، "فَأَرَادَ" مروان "قَطْعَ يَدِهِ"؛ لأنه يشبه السرقة، "فَأَرْسَلَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ" الصّحابي المشهور -رضي الله عنه- أحد فقهاء الصحابة "يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ"، يستظهره في المسألة ويحقق فيها، "فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لَيْسَ فِي الْخُلْسَةِ قَطْعٌ" أو في الخُلسة؛ ما يخلس، ويؤخذ بسرعة، يبادَر بأخذه لا على وجه الاستسرار والاختفاء كالسرقة ولكن اختلاس يختلسه.
"ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلسٍ، قطع"، هكذا جاء في رواية أبي داود والتِّرمذي والنّسائي وابن ماجه. فالاختلاس، والانتهاب، والغصب وغيرها وإن كان تشبه السرقة؛ فلا يدخل في حكم الحد في السرقة. وهكذا قال: إذا اختطف أو اختلس لم يكن سارقًا، ولا قطع عليه عند الأئمة -رضي الله تعالى عنهم-.
وأورد بعد ذلك حديث "أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ أَخَذَ نَبَطِيًّا"؛ نسبة إلى قوم من العجم يقال لهم النبط، ينزلون بجانب في العراق وسواد العراق، يستنبطون الماء من الأرض، ويسمون نبط؛ يعني شغلهم حفر الآبار واستخراج الماء. "قَدْ سَرَقَ خَوَاتِمَ مِنْ حَدِيدٍ فَحَبَسَهُ"؛ يعني: حبس أبو بكر بن مُحمَّد هذا النبطي الذي سرق الخواتم "لِيَقْطَعَ يَدَهُ"؛ يعني: أراد قطع يده بسبب هذه السرقة، فأخّره في الحبس من أجل أن يتفرغ لسؤال العلماء. "فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ"؛ يعني: إلى أبو بكر هذا بن مُحمَّد من عُمَر بن حزم، "عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ" الأنصارية، وهي فقيهة من فقهاء الأنصار، وروت الرّوايات عنه ﷺ في مقدار السرقة الموجبة للقطع وغيره، "مَوْلاَةً لَهَا يَقُالُ لَهَا أُمَيَّةُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَتْنِي وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ"؛ يعني: في حلقة من الناس بين جماعة. "فَقَالَتْ: تَقُولُ لَكَ خَالَتُكَ عَمْرَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي أَخَذْتَ نَبَطِيًّا فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ ذُكِرَ لِي"؛ يعني: قليل الثمن، "فَأَرَدْتَ قَطْعَ يَدِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَإِنَّ عَمْرَةَ تَقُولُ لَكَ: لاَ قَطْعَ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً"؛ ربع دينار ذهب وهو الذي عليه الجمهور. "قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَرْسَلْتُ النَّبَطِيَّ"؛ يعني: أطلقته من الحبس.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا"؛ يعني: لا اختلاف فيه في بلدنا المدينة "فِي اعْتِرَافِ الْعَبِيدِ"؛ يعني: إقرارهم بشيء من السرقة: "أَنَّهُ مَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ يَقَعُ" فيه "الْحَدُّ وَالْعُقُوبَةُ فِيهِ فِي جَسَدِهِ، فَإِنَّ اعْتِرَافَهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَلاَ يُتَّهَمُ أَنْ يُوقِعَ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا"؛ يعني: ضرب أو قطع أو سرقة في غير فعل ارتكبه. "قَالَ مَالِكٌ: وَأَمَّا مَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ"؛ يعني: من العبيد "بِأَمْرٍ يَكُونُ غُرْماً عَلَى سَيِّدِهِ"؛ يعني: غرمه على السيِّد، يعني يُرَدّ غُرمه على السيد "فَإِنَّ اعْتِرَافَهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى سَيِّدِهِ". يحتاج له بيّنة، غير مُعتبر على سيّده
"قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى الأَجِيرِ، وَلاَ عَلَى الرَّجُلِ"؛ يعني الذي يخدم بدون أجرة، الأجير الذي يخدم بأجرة، والرجل الذي يخدم بلا أجرة، "يَكُونَانِ مَعَ الْقَوْمِ يَخْدُمَانِهِمْ إِنْ سَرَقَاهُمْ"؛ أي: سرقا شيء "قَطْعٌ، لأَنَّ حَالَهُمَا لَيْسَتْ بِحَالِ السَّارِقِ"، يكونان مأذونين في الدخول عادة، إذًا فليس ما أخذاه في حرز لأنهم مسموح لهم يدخلون، ما عاد صار حرز المال هذا الذي يأخذونه "وَإِنَّمَا حَالُهُمَا" مشابه "حَالُ الْخَائِنِ"، فما جعل أمين عليه فخان به، ما يقطع يده لكن يأثم، ويرد حق النَّاس "وَلَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ قَطْعٌ".
"قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ فَيَجْحَدُهَا: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ"، ما هو بسارق "وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا جَحَدَهُ قَطْعٌ" يد سرقة، وعليه الإثم والمخاطبة في الآخرة، نعم وهي شديدة، ولكن قطع اليد تنفى عنه في الدنيا. إذًا؛ فلا قطع عليه في جحد العارية ولكن خلاف لأحمد بن حنبل يقول: عليه القطع، إذا ثبت أخذه للعارية. وفيه اختلاف الرواية عن الإمام أحمد في مَن جحد العارية، في قول عنده ورواية أنه فيه القطع، أنه غير ما قال الجمهور. وقول الثاني: أنه لا قطع فيه.
جاء أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النَّبي بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة فكلموه، يقول: والمرأة التي كانت تستعير المتاع قطعت لسرقتها لا لجحدها؛ لأنها مع عادتها هذه حدثت منها سرقة، سرقت قطيفة أو نحوها، وهكذا جاء لمَّا سرقت المرأة تلك القطيفة من بيته ﷺ أعظمنا ذلك، فجئنا للنبي ﷺ وقلنا نحن نفديها بأربعين أوقية. قال: تُطهَّر خيرٌ لها، فلمَّا سمعنا لين قوله ﷺ، أتينا أسامة يوم قال ظنّوا أنه لمَّا قال: تُطهر خير لها، وهو إنما تلطف في الكلام معهم من كريم خلقه وحسنه وإلا ما عزم أن يترك إقامة الحد بعدما بلغه الخبر ويقيم الحد ولكن لما جاءوا قالوا له: نفديها ونسلم كذا، قال: "تُطهر خير لها" فظنوا أنه سيقبل أن تفدى بشيء، وأن يترك قطع اليد. جاءوا إلى عند حِبّه، وابن حِبّه أسامة بن زيد، وقالوا له: كلّم لنا رسول الله ﷺ لمّا جاء كلّم رسول الله ﷺ قال أرآهم أنهم يريدون أن يبطلوا الحد، عندئذ أظهر الحكم وغضب عليهم وقال: "أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ"، أما أنه "لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا." وحاشاها من ذلك، فضربها مثل كونها أحب أهله إليه وأكرمهم عليه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي السَّارِقِ يُوجَدُ فِي الْبَيْتِ قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ" من البيت لم يخرج به بعد "إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ"، عاده وسط الحرز مكانه، عاده ما خرج به من الدار في خلاف إذا قد ركم شيء خارج الدار ودخل يحضر ثاني، والذي خرج به مقدار النّصاب؛ تقطع يده. أمّا عاد دامه وسط الدار وتقدَّم معنا إذا كان البيت مبوب لكل واحد من السكان حرز، فلو نقله إلى الثاني؛ وجب عليه القطع. "وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَمْراً لِيَشْرَبَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ"، هل نقيم عليه الحد؟ ولو قرّبها ليشربها، هل نجلده؟ ما نجلده نعزّره أما الحد لا شيء عليه، عاده ما شرب لو كان شرب نعم. وقال: "وَمِثْلُ ذَلِكَ رَجُلٌ جَلَسَ مِنِ امْرَأَةٍ مَجْلِساً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهَا حَرَاماً -والعياذ بالله تعالى- فَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَيْضاً فِي ذَلِكَ حَدٌّ"، إنما عليهم التعزير، وهم مأثمون. فيسرق من حرز ويخرجه منه، هكذا يقول عامة الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخُلْسَةِ قَطْعٌ"، ما يُختلس ويختطف بسرعة على غير سبيل الخفية، لا يعتبر سرقة، ليس فيه قطع "بَلَغَ ثَمَنُهَا مَا يُقْطَعُ فِيهِ" اليد وهو النصاب "أَوْ لَمْ يَبْلُغْ". فيقول مالك: أن هذا مجمَع عليه عند فقهاء المدينة المُنوَّرة -رضي الله عنهم-.
دفع الله الشرور والآفات عنّا وعن الأمة ظاهرًا وباطنًا، ورزقنا تعظيم الشعائر والحرز، ورزقنا الورع والاحتياط في الدّين، ومسلك مسالك أهل الصّدق والانضباط ممَن رأتهم عين عناية الحق فسَلِمُوا من كل اختلاط واختباط، ورُدَّ عنهم عدو الله فلم يُجعَل له عليهم سلطان في كل شأن في السِّر والإعلان، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
12 ربيع الثاني 1444