شرح الموطأ - 447 - كتاب الحدود: باب جَامِعِ القَطْعِ

شرح الموطأ - 447 - كتاب الحدود: باب جَامِعِ الْقَطْعِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود، باب جَامِعِ الْقَطْعِ.

فجر الإثنين 5 ربيع الثاني 1444هـ.

 باب جَامِعِ الْقَطْعِ

2440- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدِمَ، فَنَزَلَ عَلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ قَدْ ظَلَمَهُ، فَكَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: وَأَبِيكَ، مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ. ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا عِقْداً لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطُوفُ مَعَهُمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ بَيَّتَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ. فَوَجَدُوا الْحُلِيَّ عِنْدَ صَائِغٍ، زَعَمَ أَنَّ الأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ، فَاعْتَرَفَ بِهِ الأَقْطَعُ، أَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ عِنْدِي عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَتِهِ.

2441- قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَسْرِقُ مِرَاراً، ثُمَّ يُسْتَعْدَى عَلَيْهِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ لِجَمِيعِ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، قُطِعَ أَيْضاً.

2442- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَامِلاً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَذَ نَاساً فِي حِرَابَةٍ وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَداً، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ، أَوْ يَقْتُلَ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَوْ أَخَذْتَ بِأَيْسَرِ ذَلِكَ.

2443- قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَسْرِقُ أَمْتِعَةَ النَّاسِ الَّتِي تَكُونُ مَوْضُوعَةً بِالأَسْوَاقِ مُحْرَزَةً قَدْ أَحْرَزَهَا أَهْلُهَا فِي أَوْعِيَتِهِمْ، وَضَمُّوا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ: إِنَّهُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً مِنْ حِرْزِهِ، فَبَلَغَ قِيمَتُهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ، كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ عِنْدَ مَتَاعِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لَيْلاً ذَلِكَ أَوْ نَهَاراً.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بالدّين والمِلّة، وبيانها على لسان مَن ختم الله به رُسله سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرّم عليه، وعلى آله وأصحابه وأهل مُتابعته والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

يذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- مسائل مُتفرّقة، وروايات متفرقة في باب القطع ليد السّارق، ويذكر: "أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ"؛ يعني: مقطوع اليد اليمنى، "وَالرِّجْلِ"؛ يعني: الرجل اليسرى، وإنما يكون ذلك لمَن سرَق، فتُقطع يده اليمنى. ثم عند الجمهور، تُقطع رجله اليسرى في السّرقة الثانية، وإلى هنا ينتهي عند الحنفية والرواية أيضًا عند الإمام أحمد، ينتهي القطع بيدٍ ورجلٍ فقط. 

ويُروى عن سيِّدنا علي بن أبي طالب: أنه لو عاد إلى السرقة بعد ذلك؛ فإنه يُحبَس ويُؤدَّب. وقال المالكية والشَّافعية. وكذلك الرواية الأخرى عن الإمام أحمد بن حنبل: أنه في المرة الثالثة تُقطع يده اليسرى، وفي المرة الرابعة تُقطع رجله اليمنى وهكذا، ثم بعد ذلك إن عاد إلى السرقة وهو بلا يدين ولا رجلين، كيف هذا! يحبو ويأخذ بفمه، فهذا أيضًا عند الجمهور يُعزّر ويُحبَس، وقال: قائلٌ بقتله حدًّا،  في رواية عن الإمام المالك.

 قال: "أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدِمَ"؛ يعني: إلى المدينة المُنوّرة، "فَنَزَلَ عَلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ" -رضي الله عنه- في زمان خلافته، "فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ"؛ يعني: واليها من قِبل أبي بكر "قَدْ ظَلَمَهُ"، إذ قطع يده ورجله بغير موجبٍ لذلك. وهكذا جاء في رواية عبد الرزاق، تقول عائشة: قدِم على أبي  بكر رجل أقطع، فشكى إليه أن يعلى بن أمية قطع يده ورجله في سرقة، وقال: والله ما زدته على أنه كان يولّيني شيئًا من عمله، فخُنته في فريضةٍ واحدة فقطع يدي ورجلي، فقال أبو بكر: إن كنت صادقًا فلأقيدنّك منه، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى فقد آل أبي بكر حُليًّا لهم، لا حول ولا قوة إلا بالله! جاء في رواية الإمام مالك يقول: "فَكَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: وَأَبِيكَ، مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ". ما هذا مظهر، ولا عمل، وعادة السارقين! يعني محبتك للقيام مهما كنت صادقًا فيها فإنها بعيدة جدًا عن أن تغويك نفسك حتى تسرق على عباد الله -تبارك وتعالى- ما حرّم الله عليك. وفي هذا كيف تتدسّى نفس الإنسان، وتسقط وتهوى -والعياذ بالله- من شرف الأمانة ومراقبة عالم السِّر والعلانية إلى تولّعها بشيء من المتاع الفاني ثم كذبها وخداعها وتظاهرها بالخير وبالقيام وإلى غير ذلك -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. وكان يتعجّب في صلاته أبو بكر، ويقول: "وَأَبِيكَ!" إمّا على معنى وربّ أبيك، أو على عادة العرب، يقول: "وَأَبِيكَ، مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ".

"ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا عِقْداً"؛ قلادة "لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ" زوجة سيِّدنا أبو بكر الصّديق، التي كانت زوجة سيِّدنا جعفر بن أبي طالب، وسافرت معه إلى الحبشة، ثم جاءت معه من الحبشة مع أصحاب السفينة إلى المدينة المُنوَّرة. "امْرَأَةِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ" -رضي الله عنه-، وهي التي ولدت له مُحمَّد بن أبي بكر. "فَجَعَلَ الرَّجُلُ"؛ يعني: هذا الأقطع "يَطُوفُ مَعَهُمْ"، يدور معهم ويفتش، من هذا الذي سرقه، "وَيَقُولُ" ويدعو عاده، ساعة يستقبل القبلة ويرفع يديه، يقول: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ"؛ يعني: خُذ بالعقوبة "بِمَنْ بَيَّتَ"؛ يعني: أغار "أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ"! وعلى ذلك وهو يدعو يقول: أظهِر من سرق أهل هذا البيت الصالح، فما انتصف النَّهار "فَوَجَدُوا الْحُلِيَّ عِنْدَ صَائِغٍ"، قال له: مَن جاء به؟ قال: هذا الأقطع الرجال جاء به لي، قال أبو بكر: ويلك إنك لقليل العلم بالله! فقطع أبو بكر يده الثانية لأنه قد قُطعت يده ورجله، باقي اليسرى الآن.. لا إله إلا الله! وكان سيِّدنا أبو بكر يقول: لجرأته على الله أغيظ عندي من سرقته، لا إله إلا الله. 

وجاء في رواية، أنه كان مقطوع اليد فقط، وأمّا الرِجل فإنما قطعها أبو بكر في السرقة هذه. وظاهر الرواية هنا أنه قد قُطعت من سابق، لا إله إلا الله… وجدوا "الْحُلِيَّ" الذي سرقه "عِنْدَ صَائِغٍ، زَعَمَ" الصائغ، ادّعى "أَنَّ الأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ"، أنه أحضر لي هذا الحلي "فَاعْتَرَفَ بِهِ الأَقْطَعُ، أَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى"، لأنه كان مقطوع اليمنى من قبل. "وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ" يرفع يديه ويدعو "أَشَدُّ عِنْدِي عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَتِهِ"؛ أي: هذا الكذب والتظاهر بالمخيرة والجراءة على الرّب ودعاؤه، كأن الله لا يعلم به -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، قال: هذا أَشَدُّ عليه عندي من السرقة كلّها. إثم ذلك وما يحصل له به من البُعد والطرد عن رحمة الله وغضب الله عليه، أكبر من السرقة نفسها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

وهكذا كما أشرنا لابن عبد البر رجّح رواية أنه كان أقطع اليمنى فقط، وأمّا الرِجِل هي التي قطعها أبو بكر الصِّديق، فلا خلاف في أنّ أول سرقة تُقطع بها اليد اليمنى، إذا ثبتت. 

  • إذا سَرَق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع، كما يقول سيِّدنا أبو بكر وعُمَر. وفي الغالب يكون البطش بها أقوى، فكان في البداية بها أردع. 
  • واكتفى بعضهم على هذا، والجمهور على أنه، إذا سَرَق ثانية قُطعَت رجله اليسرى. 
  • إلا ما رُوي عن عطاء، قال: تُقطع اليد اليسرى، قال: لأنهما آلة السرقة اليمنى واليسرى. 
  • لكن الجمهور من الصّحابة والتابعين، وعليه المذاهب الأربعة: أنه إنما تُقطع رجله اليسرى. 

فإذا عاد ثالثًا: 

  • فقال الإمام أبو حنيفة، وهي رواية أيضًا عن الإمام أحمد وهي المذهب عندهم، كما يُروى عن سيِّدنا علي والحسن البصري وغيرهم، أنه يُعزّر ويُحبس. 
  • وجاء في الرواية: أنه تُقطع يده اليسرى، وهو مذهب الإمام الشَّافعي والإمام مالك، وفي الرابعة رجله اليمنى. 

جيء إلى النَّبي ﷺ بسارقٍ، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سَرَق، قال: اقطعوه. ثم أُتيَ به في الخامسة، قال: اقتلوه. وهذا مذهب بعض العلماء، "إن سرقَ فاقطعوا يدَه، ثمَّ إن سرقَ فاقطعوا رجلَه، ثمَّ إن سرقَ فاقطعوا يدَه، ثمَّ إن سرقَ فاقطعوا رجلَه"، هكذا جاء في رواية أبي داود.

يقول سعيد المقبري عن أبيه: حضرت عليّاً أُتيَ برَجُلٍ مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذًا، وما عليه القتل! بأي شيء يأكل؟ بأي شيء يتوضأ للصلاة؟ بأي شيء يغتسل للجنابة؟! فردّه إلى السجن أيامًا ثم أخرجه، فاستشار أصحابه فقالوا: مثل قولهم الأول، فقال: مثل ما قال المرة، فجلده جلدًا شديدًا ثم أرسله. حتى يُروى عنه أنه قال: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدًا يأكل بها، ويستنجي بها، ويشرب بها، ولا رجل يمشي عليها، اترك له واحدة من الثنتين، هذا مذهب سيِّدنا علي، كما هو مذهب الحنفية، والإمام أحمد. وإنما قطع الأيدي والأرجل من خلاف هذا في حق قطاع الطريق، نعم، متفق عليه. وذكروا أن ما يُروى من قتله في الخامسة، أنه منسوخ. 

جاء في الرواية، أن سيِّدنا أبو بكر أدناه هذا الرجل الذي وَرَدَ من اليمن، كان يقوم اللَّيل يقرأ، إذا سمع أبو بكر صوته قال: لله! لرجلٌ قَطَع هذا لقد اجترأ على الله، فلم يعبر إلا قليل غلبته نفسه الأمّارة. 

وفيه: أنه إذا تولّع الإنسان بشيء، فإنه يغلب عليه إلا أن يكون له من العقل أو الإيمان ما يردعه، وإلا فيغلب عليه مهما ناله بسببه العار والأضرار، ما يرجع ولا يكف -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وهذه خسّة النفس البشرية إذا لم يكن لها إيمان ولا عقل يضبطها؛ فهي خسيسة. 

وهكذا، ويقول: اللَّهم أظهر على مَن سرق أهل هذا البيت الصَّالح، واستُجيب الدعاء ما انتصف النَّهار حتى عثروا على المتاع، يقول له أبو بكر: ويلك إنك لقليل العلم بالله! حقك الصَّلوات صورية هذه، الظاهر تصلح صلوات، ما أنت حق معرفة، ولا حق فهم عن الله، ولا وعي عندك… تتظاهر بصورة صلاة، ما أنت بحاضر مع الله ولا مُصلّي، إنك لقليل العلم بالله! وأمر به فقُطعت رجله. 

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ" المحقق "عِنْدَنَا" بالمدينة المُنوَّرة "فِي" الرجل "الَّذِي يَسْرِقُ مِرَاراً، ثُمَّ يُسْتَعْدَى عَلَيْهِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ"؛ على السارق المذكور "إِلاَّ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ" الواحدة "لِجَمِيعِ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ" قبلها، قال: أنا سرق مني كذا، وأنا سرق مني كذا، وأنا سرق مني كذا، استعديَ عليه، فإذا بلغ ثلاث سرقات، أيش يعملون؟ تُقطع يده فقط واحدة، ما يتجاوزها لأنه لم يسبق شيء. "إِذَا لَمْ يَكُنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، قُطِعَ أَيْضاً."، فلا يُقطع له إلا يد واحدة ولو كانت عدد من السرقات، سواءً لواحد أو لجماعة، قطع يده يُجزئ عن ذلك كلَّه. لا يقول: الآن نقطع يدك اليمنى على السرقة الأولى، ورجلك اليسرى على السرقة الثانية، ويدك اليسرى على الثالثة لكن تُقطع يده اليمنى فقط. 

وقال مَالِك: "أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَامِلاً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَذَ نَاساً فِي حِرَابَةٍ" وهي قطع الطريق؛ يعني: المُحاربة وقطع الطريق، (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) [المائدة:33]. 

  • جاءت في البُخاري عنوان لهذا الحديث: حديث أهل الحرابة، ذهب المحاربين من أهل الكُفر والرّدة، وذكر الآية (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، فجعلها في أهل الكفر والرّدة. 
  • ولكن جمهور الفقهاء أنها نزلت فيمَن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق. هكذا يقول الأئمة الأربعة: من أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق من المُسلمين. 
  • ويُروى عن ابن عُمَر أنها نزلت في المُرتدّين، كما جاء عن الحسن البصري وغيره. 

لمّا قال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ) [المائدة:34]، دليل على أنهم كانوا مسلمين. فهذا اللّص المُحارب من المسلمين؛ اللص الذي يقطع الطريق ويجلس على طريق النَّاس ويأخذ ما معهم، وقال بعضهم: إنه ينطبق على كل مَن يجاهر بلصوصيته، ويكابر في مِصر وغيره. 

  • وهكذا يقول الإمام مالك: مَن حَمَل السلاح على المسلمين في مصرٍ أو خلاء، وكان ذلك منه على غير ثائرةٍ كانت بينهم ولا دخلٌ ولا عداوةٌ قاطعًا للسبيل والديار، هذا هو المحارب لله ورسوله. 
  • فالإمام أبو حنيفة وأصحابه يقولون: ما يكون من المُحاربين إلا إن قطع الطريق، وأن هذا الذي يُجاهر ويُحارب في البلد ونحوه، ليس بالمحارب الذي له حكم المُحاربين. 

يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَداً"، إذا لم يقتلوا أحدًا، نعم ما يقتلون. يقول مالك: "أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَامِلاً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَذَ نَاساً فِي حِرَابَةٍ وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَداً، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ، أَوْ يَقْتُلَ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَوْ أَخَذْتَ بِأَيْسَرِ ذَلِكَ"؛ يعني: مادام لم يقتلوا؛ ما يُقتلّوا ولكن تُقطّع أيديهم.

قال الإمام مالك: "الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَسْرِقُ أَمْتِعَةَ النَّاسِ الَّتِي تَكُونُ مَوْضُوعَةً بِالأَسْوَاقِ مُحْرَزَةً قَدْ أَحْرَزَهَا أَهْلُهَا فِي أَوْعِيَتِهِمْ، وَضَمُّوا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ"؛ يعني: وُضعت في السوق على وجه الإحراز، لا على ما يفعله من يقصد السوق، فيوضع المتاع في موضع يتخذه لنفسه موضع، وحرزًا لمتاعه يضعه فيه للبيع. "إِنَّهُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً مِنْ حِرْزِهِ، فَبَلَغَ قِيمَتُهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ"، وهو ثلاثة دراهم في المالكية، وربع دينار عندنا. "فَإِنَّ عَلَيْهِ"؛ يعني: السارق "الْقَطْعَ" إذ ذاك، سواءً "كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ عِنْدَ مَتَاعِهِ" ذلك "أَوْ لَمْ يَكُنْ"، قال: "كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ عِنْدَ مَتَاعِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لَيْلاً ذَلِكَ أَوْ نَهَاراً". لا فرق في السرقة عن الحرز بين كون المالك عنده أو ليس موجود عنده، ثم أخذ يفصّل في بعض هذه المسائل في بقية الباب، والله أعلم.

رزقنا الله التقوى والخشية والورع، وثبّتنا على قدم الاتباع فيمَن اتّبع، ورقّانا إلى المقام العليّ ورفع، ووقانا الأسواء والأدواء، وتولّانا في السرّ والنجوى، وحققّنا بحقائق التقوى، في عافية، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

12 ربيع الثاني 1444

تاريخ النشر الميلادي

06 نوفمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام