شرح الموطأ - 446 - كتاب الحدود: باب ما جاء في قَطْعِ الآبِق والسارق، وباب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان

شرح الموطأ - 446 - كتاب الحدود: باب مَا جَاءَ فِي قَطْعِ الآبِقِ وَالسَّارِقِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود، باب مَا جَاءَ فِي قَطْعِ الآبِقِ وَالسَّارِقِ، وباب تَرْكِ الشَّفَاعَةِ لِلسَّارِقِ إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ.

فجر الأحد 4 ربيع الثاني 1444هـ.

 باب مَا جَاءَ فِي قَطْعِ الآبِقِ وَالسَّارِقِ

2434 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْداً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ، فَأَرْسَلَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، لِيَقْطَعَ يَدَهُ، فَأَبَى سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَقَالَ: لاَ تُقْطَعُ يَدُ الآبِقِ السَّارِقِ إِذَا سَرَقَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا؟ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ.

2435 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رُزَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ أَخَذَ عَبْداً آبِقاً قَدْ سَرَقَ، قَالَ: فَأَشْكَلَ عَلَىَّ أَمْرُهُ، قَالَ: فَكَتَبْتُ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْوَالِي يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّنِي كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْعَبْدَ الآبِقَ إِذَا سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَقِيضَ كِتَابِي يَقُولُ : كَتَبْتَ إِلَيَّ: أَنَّكَ كُنْتَ تَسْمَعُ أَنَّ الْعَبْدَ الآبِقَ إِذَا سَرَقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38] فَإِنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِداً فَاقْطَعْ يَدَهُ.

2436 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا سَرَقَ الْعَبْدُ الآبِقُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ.

2437 - قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الْعَبْدَ الآبِقَ إِذَا سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ.

باب تَرْكِ الشَّفَاعَةِ لِلسَّارِقِ إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ

2438 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ، فَقَدِمَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَدِينَةَ، فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ، فَجَاءَهُ سَارِقٌ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ عن تُقْطَعَ يَدُهُ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ".

2439 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَقِيَ رَجُلاً قَدْ أَخَذَ سَارِقاً، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، فَشَفَعَ لَهُ الزُّبَيْرُ لِيُرْسِلَهُ، فَقَالَ: لاَ، حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ السُّلْطَانَ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِذَا بَلَغْتَ بِهِ السُّلْطَانَ، فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته، عبده وصفوته، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآل كلٍ منهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل سيدنا الإمام مالك في ذكر الحدود ما يتعلق بالسارق وقطع يده، ويذكر في هذا الباب: أنه يستوي في ذلك الحُر والمملوك، سواء كان مطيعًا أو آبقًا، فارًّا على سيده هاربًا من طاعته، فوقع في السرقة، فالجميع على حدٍ سواء عند جماهير أهل العلم.

وكان الخلاف في أول الأمر، ثم أجمع على ذلك الأئمة من بعد، فكان محل إجماعٍ، لا خلاف بينهم في قطع يد السارق العبد الآبق، وكذلك لعموم الآية: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ) [المائدة:38].

ولم يأتِ عنه ﷺ بيان التفريق بين العبد الآبق وغيره، فقد جاء عنه بيان مقدار السرقة، وكونها من حرز المثل، وكون السارق بالغ، إلى غير ذلك.. ولم يأتِ بيانه في هذا، فلهذا تم الإجماع على الحكم في المسألة.

يقول: "باب مَا جَاءَ فِي قَطْعِ الآبِقِ وَالسَّارِقِ"، وذكر لنا حديث عبد الله: أنه كان له عبدٌ أبَـقَ؛ يعني: هرب عنه وعن طاعته، وسرق في تلك المدة ثم رجع إليه، فلما رجع إليه -وقد علم بسرقته التي هو مقرٌّ بها، "فَأَرْسَلَ بِهِ"؛ يعني مولاه العبد هذا أرسله عبد الله بن عمر إلى أمير المدينة يومئذ سعيد بن العاص بن أمية القرشي، توفي النبي وهو ابن تسع سنين، وهذا سعيد بن العاص والده توفي، قتل كافرًا في بدر -يوم بدر- توفي النبي وهو ابن تسع سنين، فكانت له صحبة، ثم أنه كان من أهل الجود والكرم، فلمّا توفي وجدوا عليه ثمانون ألف دينار مما كان يُنفق، فوفّاها عنه ولده هذا الذي يسمونه عمرو الأشدق 

سعيد بن العاص كان يرى أن العبد الآبق كفاه إثمًا إباقه، وأنه عند سرقته في تلك الحالة لا تُـقطع يده. وفيه أيضًا أن إقامة حد قطع اليد لا يستقل به مالك العبد دون والي الأمر؛ ولهذا أرسل به عبد الله بن عمر، لم يتصرف بقطع يد مملوكه، ولكن أرسل به إلى الحاكم، أرسل به إلى الأمير، وبعد ذلك الأمير لمّا كان رأيه هكذا، فرأى سيدنا عبد الله بن عمر أن هذا الرأي غير صائب، وأن القطع واجب، فأقام الحد بعد ذلك حتى لا يسقط حدٌّ من حدود الله تبارك وتعالى.

قال: "فَأَبَى سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَقَالَ: لاَ تُقْطَعُ يَدُ الآبِقِ السَّارِقِ إِذَا سَرَقَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا؟" هات لي الدليل الذي عندك لهذا الرأي الذي تقول، "ثُمَّ أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ." وهو حاضر شاهد، لئلا يفوت حقٌّ من حقوق الله -تبارك وتعالى-.

وهكذا، يذكر لنا أيضًا: "عَنْ رُزَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ أَخَذَ عَبْداً آبِقاً قَدْ سَرَقَ، قَالَ: فَأَشْكَلَ عَلَيَّ أَمْرُهُ"؛ لأنه كان قد سمع أن يد العبد الآبق لا تُقطع، ولهذا أشكل عليه الأمر "قَالَ: فَكَتَبْتُ فِيهِ" في ذلك الأمر "إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ" أمير المؤمنين "أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْوَالِي يَوْمَئِذٍ" على الناس أمير المؤمنين "قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّنِي كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْعَبْدَ الآبِقَ إِذَا سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ." يعني هذه الشبهة التي أوقفتني عن إقامة هذا الحد "قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَقِيضَ كِتَابِي يَقُولُ: كَتَبْتَ إِلَيَّ: أَنَّكَ كُنْتَ تَسْمَعُ أَنَّ الْعَبْدَ الآبِقَ إِذَا سَرَقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا)"؛ أي: جازوهما جزاءً بما كسًبَا، أي بسبب كسبهِما ففيه وجوب أن تُرد السرقة إلى صاحبها وتُقطع يد السارق (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ)؛ أي: عقوبةً لهما من الله (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38] في خلقه، فهذه حكمته في إقامة هذه الحدود. 

ويُذكر أن أعرابياً سمع تالياً يتلو الآية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ) وختمها القارئ والله غفورٌ رحيم، قال: ليست هكذا، وكان القارئ نسي أو غلط، وقال: والله غفور رحيم، قال: ليست الآية هكذا ما تجيء، هذا النظم ليس صحيح رجع حصّله (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38]، قال: عزّ فَحَكم، هكذا الكلام. فلان سرق تُقطع يده تقول لي غفورٌ رحيم؟! هذا ما هو مناسب مع هذا، فبذوقه علم أن السياق لا يكون هكذا وهو أعرابي، ولكنه ذائق لمعنى الكلام واللغة، قال: ما يجيء آية كذا، ما يتأتى آية في كتاب الله بهذه الصورة، أيش الكلام حقك هذا!! رجع حصل نفسه غلط ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال صدقت هذا صحيح، تمام هذا النظم منتظم، تمام مقبول عزّ فَحَكَم.

قال: "فَإِنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِداً فَاقْطَعْ يَدَهُ". ولا تقول لي عبد آبق ما آبق (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) فمن أين تأتي بالتفصيل هذا؟ ما وَرَد، ورد المقدار نعم ورد في السنة,،فإن كان بلغت سرقته ربع دينار، أما إن سرق دون ذلك فصحيح، لأن السنة بيّنت ذلك؛ ربع دينار أو أكثر، وقد تقدّم معنا أن نصاب القطع في السرقة ربع دينار فأكثر عند الجمهور.

قال مالك: "أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ"، بن أبي بكر الصديق، "وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ" بن عمر بن الخطاب، "وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ"، هؤلاء من فقهاء المدينة الثلاثة، هؤلاء من السبعة المشهورين بالفقه في المدينة المنورة "كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا سَرَقَ الْعَبْدُ الآبِقُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ". يعني: إذا سرق مقدار النصاب.

قال الشافعي: لا تزيدوا معصية الله بالإباقِ خيراً، يأبق وعادنا نسامحه، هذا بغى أدب فوق الأدب هذا ما يحتاج مسامحة.! "قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الْعَبْدَ الآبِقَ إِذَا سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قُطِعَ". 

 

باب تَرْكِ الشَّفَاعَةِ لِلسَّارِقِ إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ

 

ثم ذكر المسألة الأخرى، وهو أن الشفاعة في الحدود لا تجوز إذا بلغ الأمر إلى الحاكم، فأما قبل بلوغ الأمر إلى الحاكم فيجوز أن يشفع بعضهم لبعض، ويسامح بعضهم بعضاً، ولا يجب عليهم أن يوصلوا السارق إلى الحاكم، بل يستتيبوه، ويسامحوه إن شاؤوا، ولكن إذا قد وصل إلى الحاكم فلا يجوز تعطيل حدٍّ من حدود الله تعالى لشفاعة أحد، ومن عُطّل حدًّا بشفاعته، فقد ضادّ الله -والعياذ بالله- فلا يجوز للحاكم قبول شفاعة أحد. 

وقد جاءت في ذلك أحاديث ومنها حديث المخزومية المشهور لمّا سرقت، رُفعت إلى رسول الله ﷺ، أمر بقطع يدها، فأرسلوا إليه سيدنا أسامة بن زيد حِبّه وابن حبّه، فقال: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!" فضرب له أعظم مثل وقال له: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، حاشاها الله من ذلك. "إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"، وأقام الحد ولم يقبل الشفاعة بعد أن بلغه الخبر.

وهكذا، كما دلت عليه الأحاديث الأخرى التي أوردها الإمام مالك في الموطأ، فذكر لنا: "أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ قِيلَ لَهُ : إِنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ"، هذا الذي يقول له هذا الكلام، لأنه صفوان ما أسلم إلا بعد الفتح، فما سمع قول النبي ﷺ "لا هجرة بعد الفتح"، الحاصل جاء له كلام، وفي هذا ما يحصل من تسارع الناس وحملهم للكلام على غير وجهه وضبطه ومع عدم الرجوع إلى المرجعيات في الدين فهذا يحصل، فمنه هذا، قالوا له: "إن من لم يهاجر هَلَك" ما عاد تكون هجرة من مكة بعد فتحها! فرجع هاجر،"فَ قَدِمَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَدِينَةَ" وهذا سمع كلام قبل الفتح عن الهجرة ووجوبها لمن قدر عليها ولمن استطاعها، فقام يتكلم به بعد الفتح وقد صارت مكة دار إسلام. 

وقدِم صفوان بن أمية المدينة من أجل ما سمع من وجوب الهجرة، نام في المسجد النبوي الشريف، "فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ" مضطجع في البطحاء فأخذ بردةً من تحت رأسه، في بعض الروايات. "وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ"؛ أي: جعله وسادةً له تحت رأسه؛ فصار هذا حرزاً، فيصير هذا بمثابة الحرز مثل الرداء أن يكون تحت الرأس وقت النوم يكفي. "فَجَاءَهُ سَارِقٌ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ"؛ رداء صفوان 

جاء في رواية النسائي: "كنت نائمًا في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثون درهماً، فجاء رجل فاختلسها مني". انتبه منه وقام له وتبعه، "فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" فرسول الله ﷺ استقرأه فأقرّ، قال له: أسرقت رداء هذا؟ قال: نعم وقعت في ذلك، "فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ عن تُقْطَعَ يَدُهُ"؛ قال اقطعوا يده، صفوان شاف أنه صار قطع يد، هو ظن بيكون قليل عتاب أو كذا.. "فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ." كنت بتسامحه، أما الآن قد وصلت لعندي، وجئت إلى عند الأمير والحاكم وحد فيه من الله تعالى،  أتركه لأجلك؟! ما عاد شيء لك، "فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ." الآن حين وصلت عندي وتشكو منه وتسحبه وتجيبه لي نقيم حد الله تقوم تقول: هو له! لا ما عاد ينفع. 

  • وهكذا قال الجمهور إذا وهبه شيئاً مما سرقه بعد السرقة، ما يدفع عنه القطع. 
  • لكن قول عند الحنفية عند أبي حنيفة قال: إذا قد وهبه شيء مما سرقه، فصارت خلاص له ملك فيه، فيه شبهة، لا تُقطع يده لذلك تُـدرأ الشبهة.

ولكن الحديث صريح، فإنه ما يُـقبل هذا بعد أن يصل إلى عند الحاكم، كان سامحه من البداية وخلاص وانتهت المسألة! وهكذا، "فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ."، فالجمهور على أنه لا يسقط بهِبته أو إعطائه أو بأي شيء مما سرق.

فإذا ملك العين المسروقة بهبة أو بيع أو ملك، لا يخلو بين أن يملكها قبل رفعها إلى الحاكم أو بعده. 

  • إن ملكها قبل لم يجب القطع؛ لأنه ما عاد وصل عند الحاكم إلا وقده شريك في هذا المال، ولأن من شروط وجوب إقامة الحد هذا مطالبة بالمسروق، والآن يُعدّ ملكه، ما عاد تصح المطالبة. 
  • أما إن ملكها بعد وصول الخبر للحاكم، لم يسقط القطع.

هكذا يقول الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل. 

  • وقال الحنفية: إذا قد أعطاه شيئًا من ماله، فقد دخل في ملكه فيدرأ عنه الحد.

وجاء أيضا عن أبي يوسف من الحنفية كالجمهور: أنه إذا أعطاه شيئاً، أو وهبه، أو باعه بعد بلوغ الحاكم ما يسقط القطع فأبو يوسف من الحنفية وافق الجمهور، وبقي قول الإمام أبي حنيفة ومحمد أنه يسقط القطع عليه ويُدرأ عنه الحد. 

وعندنا في الحديث قال له: "فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ." ويقول ما كنت أريد هذا أن يُقطع رجل من العرب في ثلاثين درهمًا.

وروى لنا بعد ذلك حديث: "أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَقِيَ رَجُلاً قَدْ أَخَذَ سَارِقاً، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، فَشَفَعَ لَهُ الزُّبَيْرُ لِيُرْسِلَهُ" قال أرسله واتركه سامحه وخذ حقك منه وعسى الله أن يتوب عليه، "فَقَالَ: لاَ، حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ السُّلْطَانَ." أول بوصل خبره إلى عند الحاكم "فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِذَا بَلَغْتَ بِهِ السُّلْطَانَ، فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ."  ما عاد تصح الشفاعة، ولا عاد يُقبل كلامنا ولا كلامك إذا قد وصله عنده هناك يجب إقامة الحد عليه "إِذَا بَلَغْتَ بِهِ السُّلْطَانَ، فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ" يعني عند السلطان "وَالْمُشَفِّعَ" المشفِّع يعني: قابل الشفاعة، لا يجوز أن يقبل الشفاعة السلطان.

وجاء أيضاً حديث عن الزبير يقول: أنه ﷺ قال: "اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل إلى الوالي فعفا، فلا عفى الله عنه". 

 فإذًا؛ الشفاعة ما لم تبلغ السلطان، أما إذا بلغته فوجب عليه إقامة الحد، ولا يجوز له قبول الشفاعة من أحد.

رزقنا الله الاستقامة، وحفظ وصانَ وحرسَ دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ودفع السوء عنا وعنهم، وأصلح الشأن في الظاهر والباطن، وكان لنا بما هو أهله في جميع الشؤون، وتولّانا بما تولى به من يهدون بالحق وبه يعدِلون، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

12 ربيع الثاني 1444

تاريخ النشر الميلادي

06 نوفمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام