شرح الموطأ - 445 - كتاب الحدود: باب ما يَجِبُ فِيه القَطْع
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود: باب مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ.
فجر الخميس 1 ربيع الثاني 1444هـ.
باب مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ
2428 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ.
2429 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي حُسَيْنٍ الْمَكِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، وَلاَ فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ" فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ الْجَرِينُ، فَالْقَطْعُ فِيمَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ.
2430 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ سَارِقاً سَرَقَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ أُتْرُجَّةً، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنْ تُقَوَّمَ، فَقُوِّمَتْ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَىْ عَشَرَ دِرْهَماً بِدِينَارٍ، فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ.
2431 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهَا قَالَتْ: مَا طَالَ عَلَيَّ وَمَا نَسِيتُ "الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً".
2432 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهَا مَوْلاَتَانِ لَهَا، وَمَعَهَا غُلاَمٌ لِبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَبَعَثَتْ مَعَ الْمَوْلاَتَيْنِ بِبُرْدٍ مُرَجَّلٍ، قَدْ خِيطَ عَلَيْهِ خِرْقَةٌ خَضْرَاءُ، قَالَتْ فَأَخَذَ الْغُلاَمُ الْبُرْدَ، فَفَتَقَ عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ لِبْداً أَوْ فَرْوَةً وَخَاطَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَوْلاَتَانِ الْمَدِينَةَ دَفَعَتَا ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا فَتَقُوا عَنْهُ وَجَدُوا فِيهِ اللِّبْدَ، وَلَمْ يَجِدُوا الْبُرْدَ، فَكَلَّمُوا الْمَرْأَتَيْنِ، فَكَلَّمَتَا عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، أَوْ كَتَبَتَا إِلَيْهَا، وَاتَّهَمَتَا الْعَبْدَ، فَسُئِلَ الْعَبْدُ عَنْ ذَلِكَ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً.
2433 - قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِلَىَّ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنِ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ أَوِ اتَّضَعَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان خير الورى، سيدنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه من رفع لهم قدرا، وعلى من تبعهم بإحسان وجرى بمجراهم خير مجرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يقول -عليه رحمة الله تعالى- في كتاب السرقة، وهي: أخذُ مال الغير، أو شيءٍ من مال الغير، خُفيةً، بمقدار رُبع دينارٍ فصاعداً، من حِرزِ مثله، مِن قِبَل مكلَّف.
هذا ما يترتب عليه الحدُّ في الشريعة، في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).[المائدة:38-39]
وخُصِّص ذلك بالسارق، فخرج المُختلُس، والمُنتهِب، صاحب النهبة: هو الذي يأخذ المال قهرًا ظاهرًا؛ فلهم أحكامٌ أُخَر.
يقول: "باب مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْع"؛ فالقطع لا يجب ولا يجوز للحاكم أن يقوم به، إلا بشروط، إذا توفرت وجب عليه إقامة الحد:
- فلا بد من وجود السرقة، أو أخذ شيءٍ خفيةً من حرز مثله.
- وأن يكون المسروق نصابًا.
والنصاب: ربعُ دينارٍ، أو ما يساوي ربع دينارٍ مطلقاً، عند الشافعية.
وكذلك يقول الإمام مالك: إن كان سرق من الذهب فلا بد من ربع دينارٍ فأكثر، أو من الفضة فلا بد أن يكون ثلاثة دراهم فأكثر، أو غيرِهما إن كان مقداره ثلاثة دراهم، -التقويم عنده بالثلاثة الدراهم-. وكذلك يقول الإمام أحمد بن حنبل، إلا أنه يقول: أن غيرَ الذهب والفضة إذا سرقاهما، فإن بلغت قيمته إما ثلاثة دراهم، وإما ربع دينار، وجب القطع.
ولا بد أن يكون المسروق نصابًا، فلا قطعَ في القليل، وعلى ذلك يقول الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم- وعامة الفقهاء. إلا ما روي عن الحسن وداود، وكان عليه الخوارج: أنه يُقطع في القليل والكثير، لعموم الآية، وذكروا في ذلك حديث: "لعنَ الله السارقَ يسرقُ الحبل فتُقطَع يده، ويسرقُ البيضةَ فتُقطَع يده".
وقال عامة الأئمة: إنما ذلك في تدرّجه، أو أن المراد بالحبل، ليس الحبل الذي يُتخَذ من الليف ومن النخلة، ولكن المراد به، شيءٌ من المال يقال له الحبل، غالي ثمنه، وكذلك البيضة، وحملَه بعضُهم على البيضة التي يـُستدفَع بها في الحرب، بِوضعِها على الرأس إلى غير ذلك. وقال الآخرون: إنما المراد، أنه يتدرج من سرقة القليل إلى سرقة الكثير، فتُقطع يده، لِما جاء أيضًا في الصحيحين من قوله ﷺ: "لا قطعَ إلا في رُبع دينارٍ فصاعدًا".
فقال الأئمة: إن إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على هذا الحديث، خصصَ عمومَ الآية، فإذا فُسِّرت البيضةُ ببيضة السلاح، وفُسرَ الحبلُ بما ذكرنا من كميةٍ من الذهب، فالكل قد جاوز الربع الدينار.
فإذا سرق مالا، ومن المال أيضًا: المملوكين أيام ملكهم وأيام رقهم، قبل عتقهم. فأما إذا سرق حرًّا، سواءً كان صغيراً أو كبيراً، فعند الإمام مالك أيضًا: يُقطَع بسرقة الحرِّ الصغير، قال: لأنه غيرُ مميز، فأشبه المملوك، وهو في روايةٍ عن الإمام أحمد.
بخلاف إذا أخذ مملوكًا صغيرًا، فهذا بالاتفاق أنه تقطع يده، فأما إذا أخذ مملوكًا كبيرًا؛ قال الإمام أبو حنيفة: إن كان نائم أو مجنون، سواء، وجاء عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة: أنه لا يُقطعُ سارق العبد. ولكن علمتَ إنه إذا كان صغير، فعامة الفقهاء يوجبون القطع به، واختلفوا إذا كان كبيرًا.
- ولا بد أن يسرق من حرزٍ
يعني: شيءٍ يحفظه على وجه العادة، وعليه عامةُ أهل العلم، أنه من سيَّب ماله وَوضَعه في غير موضعه ثم سُرق، فلا تُقطَع يد السارق، لأنه لم يأخذه من حرز مثله، فلا بد أن يكون أخذَه من حرز مثله، كما يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي، وعليه الأئمة الأربعة، بخلاف المال الضائع والمهمل، والمتروك في غير محله.
قال: وجاء في الحديث سؤاله ﷺ عن الثمار؛ سرقة الثمار من الأشجار، قال: ما أُخذ في غير أكمامه فاحتُمِل، ففيه قيمتُه ومثلُه معه، وما كان في الخزائن قد أحرزوه ففيه القطع، إذا بلغ ثمن المجن، جاء هذا في رواية أبي داوود.
- ولا بد أن يكون السارق مكلّفًا
أي بالغاً عاقلاً، وعليه الحكم في أرض المسلمين، سواءً كان السارق مسلمًا أو كافرًا، حُرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، المهم أنه مكلفٌ، بأن يكون بالغًا عاقلاً .
أشرنا إلى مذهب الإمام أحمد في روايةٍ عنه، في نصاب السرقة:
- أنه ربع دينار من الذهب
- أو ثلاثةُ دراهم من الورق
- أو ما قيمته ثلاثةُ دراهم من غيرهما
وعلمنا أن هذا مذهب الإمام مالك.
فإن سرق ذهباً فلا بد أن يكون ربع دينار فأكثر، وإن سرق فضة فلا بد أن يكون مقدار ثلاثة دراهم فأكثر، وإن سرق غيرَهما؟
- فعند الشافعي: دائماً التقدير بربع الدينار.
- ويقول الإمام أحمد: ننظر الربع دينار والثلاثة الدراهم، فإن بلغ ثلاثة دراهم، فهو الذي فيه يُقطع.
وأورد لنا الأحاديث في ذلك: القطع في ثلاثة دراهم، منها حديث عبد الله بن عمر، أنه ﷺ " قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ".
المجَنّ: هو مأخوذ من الاجتنان، وهو الاستتار، وهو: وعاءٌ توضَع فيه البضاعة، قال: "ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ". وهكذا يُذكر عن بعض الحنفية، أن المجن هذا قيمتُه عشرة دراهم، وقد أثبت الإمام مالكٌ أن ثمنه ما يتجاوز الثلاثة الدراهم، "فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ."
فسرقة العروض أيضًا غير الذهب الفضة، يتم فيها القطع، وعليه جماعة العلماء. يقول الإمام مالك: تقطع اليد في جميع المنقولات التي يجوز بيعُها وأخذ العِوض عليها، كان أصلها مباحاً، كالماء والصيد والتراب، أو محظوراً كالثياب والعقار، وهكذا يقول الشافعي. لكن الإمام أبو حنيفة يقول: ما كان أصلُه مباح فلا قَطْع على من سرَقه، وكذلك لم يقل بالقطع في سَرِقةِ المصحف.
"يقول الإمام مالك: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي حُسَيْنٍ الْمَكِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ"، بالشجر قبل أن يُجذّ ويُحرَز، لأنه ما يكون في حرز، الثمر في أشجارها إذا كان في الحوائط وشبهها.
أما من سرق من ثمر نخلةٍ في دار رجلٍ، قبل أن تُجذّ، فهنا يختلف أن يكون وسط الدار، لأنه دخل أشبه بحرز الآن، بخلاف في حائطٍ عامٍ وفي طريق عام نخل، وأخذ من ثمره شيء.. ففرق بين الأخذ من وسط البيت وبين الأخذ من عموم البستان..
- هذا بالنظر إلى موجِب القطع.
- وأما موجِب الحرمة فكله واقع في الحرمة، ومؤدياً بصاحبه إلى النار، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
"وَلاَ فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ"؛ أي: ليس فيما يُحرَس بالجبل إذا سرق قطع، لأنه ليس بحرز، يعني: موضوع في جبل، ووُضع عليه حارساً، وتبيّن أنه سُرق منه شيء، فلا يُعد من حرز مثله، فلا يتمُ القطع لليد، قال: "وَلاَ فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ. فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ"؛ أي: موضع مبيت الغنم، "أَوِ الْجَرِينُ"؛ أي: الموضع الذي يُجفّف فيه الثمار، يقال له جرين، "فَالْقَطْعُ فِيمَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ."، أي مقدار النصاب.
يعني: بيَّنَ الحالةَ التي يجب فيها القطع؛ حالة كون المال في حرزه، فأما من سرق من غير حرزٍ، فلا يجب القطع، والإثم واقع بيقين.
ثم ذكر لنا: "عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، أَنَّ سَارِقاً سَرَقَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أُتْرُجَّةً" نوعٌ من الفاكهة، لها رائحةٌ طيبة وطعم طيب، وهي التي مثَّلها بالمؤمن الذي يقرأ القرآن، مثلُ الأُترجة، ريحُها طيبٌ، وطعمها طيب، ويقال له أترُج، والواحدة أترُجة. "فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنْ تُقَوَّمَ، فَقُوِّمَتْ" الأترجة التي سرقها السارق "بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَىْ عَشَرَ دِرْهَماً بِدِينَارٍ"؛ يعني: صارت ربع دينار، لأن الصرف: أن الدينار كان في ذاك الوقت بإثنى عشر درهم، وقوِّمت الأترجة التي سرقها هذا بثلاثة دراهم، فصارت ربع الاثني عشر، ربع دينار، "فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ."؛ يعني: أمرَ بقطع يده، لنسبة الفعل إلى من كان سببُه، وإن لم يباشره سيدنا عثمان، ما جاء بنفسه يقطع، ولكن يقول قطَعَ عثمان، لأنه هو الذي أمَر بذلك، وبذلك يخرج مذهبُ الذين قالوا بعشرة دراهم، فاكتفوا بثلاثة دراهم.
وذكر: "عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهَا قَالَتْ: مَا طَالَ عَلَيَّ"؛ أي: لم يمض زمانٌ طويلٌ في عهد النبي ﷺ، "وَمَا نَسِيتُ"؛ أي: ما نسيت هذه المسألة التي أذكرها لكم،" الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً." وهذا الحديث كونه موقوف على السيدة عائشة، كأنه يُشعر بالرفع، أن ذلك الحال الذي كان عليه في عهد رسول الله ﷺ .
يقول: ثم ذكر لنا: "أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى مَكَّةَ،" يعني أنها خرجت في نسُكٍ إلى مكة المكرمة، "وَمَعَهَا مَوْلاَتَانِ لَهَا"، يعني معتقتان قد أُعتِقتا، "وَمَعَهَا غُلاَمٌ لِبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَبَعَثَتْ" السيدة عائشة رضي الله عنها "مَعَ الْمَوْلاَتَيْنِ بِبُرْدٍ مُرَجَّلٍ"؛ نوع بُردٍ يأتي من اليمن، فهو نوع من البرُد التي تُخيَّط في اليمن، "بِبُرْدٍ مُرَجَّلٍ، قَدْ خِيطَ عَلَيْهِ"؛ أي: على البُرد "خِرْقَةٌ خَضْرَاءُ، قَالَتْ فَأَخَذَ الْغُلاَمُ الْبُرْدَ، فَفَتَقَ عَنْهُ" أي شق عنه خياطة الخرقة التي عليه، "فَاسْتَخْرَجَهُ"، أي شق خياطة الخرقة، واستخرج منها البرد، وجعل مكانه "لِبْداً أَوْ فَرْوَةً وَخَاطَ عَلَيْهِ"، خاط الخرقة "فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَوْلاَتَانِ الْمَدِينَةَ" المنورة "دَفَعَتَا ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ"؛ البردَ إلى أهله، يعني: لما قدموا المدينة، أوصلوا البرد إلى أهله، "فَلَمَّا فَتَقُوا عَنْهُ وَجَدُوا فِيهِ اللِّبْدَ"، ولم يجدوا البرد، "فَكَلَّمُوا الْمَرْأَتَيْنِ، فَكَلَّمَتَا" المولاتان "عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، أَوْ كَتَبَتَا إِلَيْهَا، وَاتَّهَمَتَا الْعَبْدَ"،المذكور هذا الذي كان معهن، "فَسُئِلَ الْعَبْدُ عَنْ ذَلِكَ فَاعْتَرَفَ"، أنه سرق، "فَأَمَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ فَقُطِعَتْ يَدُهُ"؛ يعني: حُمِل إلى الأمير، وثَبَت اعترافُه عنده فقطعه، "وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً". أي: زائدًا.
"قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِلَىَّ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنِ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ أَوِ اتَّضَعَ،" فجعل الدراهمَ هي الأصل، ما قوِّم بثلاثة دراهم.
وعلى هذا إذا سرق متاعًا، وهذا المتاع يساوي ثلاثة دراهم، وقد لا يصل إلى ربع دينار أحيانًا عند اختلاف الصرف.
- فلا يُقطع عند الشافعية
- وعند مالك يقطع
وقد يصل إلى ربع دينار، ولكن ما يصل ثلاثة دراهم، يكون أقل من ثلاثة دراهم:
- فعند المالكية لا يقطع، عنده لا بد من ثلاثة دراهم،
- ولم يعتبر الشافعي إلا ربع الدينار في القيمة.
"وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ"، فتمسك بهذا مالك "وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ،" لكن كان الصرف فيها إثنى عشر درهمًا، فهو ربع دينار، قال مالك: "وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ". وقد علمنا اختلاف الأئمة في تقدير النصاب للسرقة، والله أعلم.
أعاذنا الله من الآفات والعاهات، ورزقنا خشيته في الغيب والشهادات، وجنّبنا جميع الموجِبات للخزي والندامات، والغضب والسخط الرباني، وأعاذنا من كل ذلك وأولادنا وذرارينا ومن يوالينا، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
07 ربيع الثاني 1444