شرح الموطأ - 443 - كتاب الحدود: باب الحَدِّ في القَذْف والنَّفْي والتَّعْرِيض

شرح الموطأ - 443 - كتاب الحدود: باب الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ وَالنَّفْىِ وَالتَّعْرِيضِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود: باب الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ وَالنَّفْي وَالتَّعْرِيضِ.

فجر الثلاثاء 22 ربيع الأنوار 1444هـ.

باب الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ وَالنَّفْي وَالتَّعْرِيضِ

2417- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، أَنَّهُ قَالَ: جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْداً فِي فِرْيَةٍ ثَمَانِينَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَدْرَكْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَالْخُلَفَاءَ هَلُمَّ جَرًّا، فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً جَلَدَ عَبْداً فِي فِرْيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ.

2418- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ رُزَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ الأَيْلِيِّ: أَنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ مِصْبَاحٌ اسْتَعَانَ ابْناً لَهُ، فَكَأَنَّهُ اسْتَبْطَأَهُ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لَهُ: يَا زَانٍ. قَالَ رُزَيْقٌ: فَاسْتَعْدَانِي عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَجْلِدَهُ قَالَ ابْنُهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ جَلَدْتَهُ لأَبُوأَنَّ عَلَى نَفْسِي بِالزِّنَا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَشْكَلَ عَلَيَّ أَمْرُهُ، فَكَتَبْتُ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْوَالِي يَوْمَئِذٍ، أَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ: أَنْ أَجِزْ عَفْوَهُ.

قَالَ رُزَيْقٌ: وَكَتَبْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضاً: أَرَأَيْتَ رَجُلاً افْتُرِيَ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَقَدْ هَلَكَا أَوْ أَحَدُهُمَا. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ: إِنْ عَفَا فَأَجِزْ عَفْوَهُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنِ افْتُرِيَ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَقَدْ هَلَكَا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَخُذْ لَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ سِتْراً.

2419- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْمُفْتَرَى عَلَيْهِ يَخَافُ إِنْ كُشِفَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ فَعَفَا، جَازَ عَفْوُهُ.

2420- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَذَفَ قَوْماً جَمَاعَةً: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ تَفَرَّقُوا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ.

2421- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الأَنْصَاري، ثُمَّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: وَاللَّهِ مَا أبِي بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ. فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ.

2422- قَالَ مَالِكٌ: لاَ حَدَّ عِنْدَنَا إِلاَّ فِي نَفْىٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ تَعْرِيضٍ، يُرَى أَنَّ قَائِلَهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْياً أَوْ قَذْفاً، فَعَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْحَدُّ تَامًّا.

2423- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِذَا نَفَى رَجُلٌ رَجُلاً مِنْ أَبِيهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ الَّذِي نُفِي مَمْلُوكَةً، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرِمِنا بشريعته العظيمة ومناهج دينه القويمة، ومبيّنها لنا على لسان عبده المُجتبى مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تابعه واقتدى به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل المراتب الفخيمة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

يذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- في هذا الباب: "باب الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ وَالنَّفْىِ وَالتَّعْرِيضِ" 

  • وقال أهل العلم: القذف يُطلق في اللٌّغة على الرّمي. فالرّمي مطلقًا، والتقاذف والترامي. 
  • واصطلاحًا هو الرّمي بالزنا، كما يقول الحنفية والحنابلة، ويزيد الشَّافعية في معرض التعيير.
  • يقول المالكية: رمي مكلّفٍ حر مسلم في نفي نسب عن أبٍ أو جدٍّ أو بزنا.

فهذه من الألفاظ التي جاءت الشَّريعة بتطهير الألسُن عنها والتّرفع عنها، وأنها من الرفث الذي يكرهه الله تعالى. أما نسبة المؤمن المُحصَن إلى فعل الفاحشة فهي شنيعةٌ عند الله، ويُعتبر قائل ذلك فاسقًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، حتى تُردّ شهادته ولا تُقبل له شهادة عند الحاكم في أي بابٍ من أبواب الحكم، وما يحتاج إلى الشهادة. فإنه يدخل في الفسق بالنص، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا) [النور:4-5]. 

  • قال الحنفية: فإذا تاب؛ حصل بينه وبين الله العفو، أمّا الشهادة فلا تُقبل منه أبدًا كما نصّ عليه القرآن. 
  • وقال غيرهم: إذا تاب وصدق في توبته، ومرّ عليه العام صادقًا في التوبة، عادت إليه عدالته وقُبلت شهادته.

فانظر كلمة كيف تُرمي بالإنسان إلى أي مكان لأن الحق تعالى يكره الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويكره ذكرها، ويكره نسبة النَّاس إليها، وحرّم أن ينسب المؤمن أخاه المؤمن إليها ولو رآه بعينه ما لم يكن معه أربعة شهداء، وإذا كانوا معه أربعة شهداء على وجه الشهادة الكاملة المعتبرة، فالأفضل لهم أن يستروه وأن يدعوه إلى التوبة ولا يشهدوا عليه ولا يتكلمون. 

فإذا تكلموا وهم أربعة شهداء، وثبت ذلك بالبينة؛ أُعفوا عن حد القذف، ولم يكن ذلك أفضل لهم إلا في حق مُجاهرٍ يعيث فسادًا في الأرض لا يبُالي بانتهاك الأعراض؛ فهي حينئذ يكون الأفضل الشهادة عليه وبلاغه حتى يتطهر مجتمع الإسلام منه، فإن لم يكن كذلك فالأفضل السكوت. 

فهكذا حتى أن من رأى فاعل الفاحشة بعينه ثم تكلّم ولم يُقـرّ الفاعل، جلدنا هذا المُتكلم ثمانين جلدة إلا أن يكون مملوكًا فأربعون كما هي عند الأئمة الأربعة وجماهير أهل العلم، يَخِف إلى أربعين. وقال الأوزاعي وغيره: أنها ثمانين، ثمانين -سواءً كان حرًّا أو عبدًا-. وفرّق بعضهم بين أن يقذف عبدًا أو أن يقذف حرًّا، فإن كان المقذوف حرًّا؛ فالجلد ثمانين سواء كان القاذف مملوكًا. ولكن الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور أهل العلم، أنه عليه نصف ما على المُحصنات كما ذكر الله في الإماء، فكذلك في الأرِقّاء، عليهم نصف ما على الأحرار، أربعين. 

فهكذا علّمتنا الشريعة الأدب في القول، وقال نبينا: "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أو ليصْمُت". وقال لسيِّدنا معاذ: "ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا". فبهذا وجب أن يعي المؤمنون هذا التوجيه الإلهي والنَّبوي، ويحموا ألسنتهم وألسنة أهليهم وأولادهم من أن تخوض في السوء وفي الباطل وأن تصل إلى حد القذف، فهو مُجمعٌ على تحريمه وأنه من الكبائر التي تؤدي إلى الفسق بالنص في القرآن الكريم، وأنه يجب إقامة الحد على من قذف المُحصَن إذا طلب المقذوف إقامة الحد عليه، واختلفوا في عفوه بعد ذلك، هل له الحق في العفو أو لا؟ 

فيتكلم عن القذف والنّفي، إذا نفى رجلًا عن نسبه أو التعريض من دون التصريح، إذا عرّض بأنه صاحب فاحشة ولكنه من دون أن يصرّح بذلك، فيذكر الحكم في هذا الباب، يقول: "عَنْ أبِي الزِّنَادِ، أَنَّهُ قَالَ: جَلَدَ" أمير المؤمنين "عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْداً فِي فِرْيَةٍ"؛ يعني: في افتراء وهو نسبة غيره إلى الزّنا، المراد به القذف "ثَمَانِينَ" جلدةً، أخذًا بظاهر الآية: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)، فأخذ بعمومها فكان هذا مذهب عُمَر بن عبد العزيز، وكما هو مذهب الأوزاعي والثوري أنه يُجلد ثمانين، وإن كان مملوكًا. 

"قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَدْرَكْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَالْخُلَفَاءَ" الذين بعدهما "هَلُمَّ جَرًّا"؛ يعني: من عهد عثمان إلى زمان عُمَر بن عبد العزيز، "فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً جَلَدَ عَبْداً فِي فِرْيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ". وهكذا هو جاء في رواية البيهقي، وعلى ذلك الأئمة الأربعة كما قُلنا. وجاء في الرواية، قال: لقد أدركتُ أبا بكر، وعُمَر، وعثمان، ومَن بعدهم من الخلفاء فلم أرَهم يضربون المملوك في القذف إلا أربعين. فخصّصوا الآية المذكورة بالأحرار، لقوله تعالى في الإماء: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء:25]. إذًا على هذا الأئمة الأربعة، وأن المملوك حدّه أربعون، وهو في قول أكثر أهل العلم كذلك.

ثم يروي "عَنْ رُزَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ"، ويُقرأ حُكيم مصغّر، ويقال: حكيم "الأَيْلِيِّ" نسبة إلى أيلة، وأيلة غير إيلياء. إيلياء هي بيت المقدس، وأما أيلة بلد في ساحل بحر القلزم، أيلة، يقال: الأيلي. وأما إيلياء فهي بيت المقدس، القدس إيلياء. "أَنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ مِصْبَاحٌ اسْتَعَانَ ابْناً لَهُ"؛ أي: طلب المعاونة عن ابنه في شيءٍ من أمره "فَكَأَنَّهُ اسْتَبْطَأَهُ"؛ تأخر وتساهل في تنفيذ الأمر، ما نفّذ الأمر "فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لَهُ" والده: "يَا زَانٍ". زعلان منه لمّا تأخر وقذفه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 

"قَالَ رُزَيْقٌ: فَاسْتَعْدَانِي"؛ أي: طلب الإعانة مني ابنه "عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَجْلِدَهُ"؛ أجلد الأب حد القذف، فكان يرى أن الأب يُجلد في قذف ابنه وفيه خلاف. يقول الإمام مالك: أنه يُجلد ولكن في رواية ابن حبيب عن الأصبغ، أنه لا يُحَدُّ الأب له أصلًا.

  • وعليه مذهب أبي حنيفة والشَّافعي أن الأب ما يجلد حد الفرية إذا قذف ابنه، ولكن مجمعين على أنه مأثوم، وأنه يصير فاسق بذلك -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 
  • وهكذا يقول الحنابلة: إذا قذف ولده وإن نزل… ولده، ولد ولده أحد من فروعه، لم يجب الحد عليه. 
  • لكن قال الإمام مالك: يجب الحد عليه.

"قَالَ ابْنُهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ جَلَدْتَهُ لأَبُوأَنَّ"؛ أي: لأرجعنّ بالإقرار "عَلَى نَفْسِي بِالزِّنَا". ليَسقط عنه حد القذف؛ يعني يسقط عن أبيه ويرجع، ماذا؟ يرجع إذا بلغ الحاكم الحد على الولد. "فَلَمَّا قَالَ" الابن "ذَلِكَ أَشْكَلَ عَلَيَّ أَمْرُهُ"، ماذا أفعل فيه؟ لئن جلدته يريد العفو عن أبيه وإسقاط حد القذف عنه، ففي ذلك دلالة على أن زُريق يرى إذا ما ذهب إليه الإمام مالك بأنه يثبت عليه الحد، ويُقام الحد، وإن كان أبًا. قال: "فَكَتَبْتُ فِيهِ"؛ أي: في ذلك الأمر "إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْوَالِي يَوْمَئِذٍ" على المدينة المُنوَّرة أيام سُليمان بن عبد الملك "أَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ" بن عبد العزيز: "أَنْ أَجِزْ"؛ يعني: امضِ "عَفْوَهُ" عن أبيه، ما دام عفا عن أبيه أمضي عفوه، وبهذا جاء الخلاف بينهم إذا عفا المقذوف.

فإذا لم يأتِ القاذف ببينة، وطالب المقذوف بإقامة الحد، أُقيم عليه الحد هذا على أنه حقٌّ لله وحقٌّ للمقذوف الآدمي. وأما من قال: إنه حق لله خالص فما يشترط المطالبة، مجرد وصول الخبر إلى الإمام، يُقيمه. وهكذا علمنا المسألة التي مرّت معنا الآن فيمَن قذف ولده، وأنه عند الثلاثة ما يجب عليه الحد، هكذا قال الأئمة الثلاثة كما جاء عن عطاء والحسن. وكذلك استقر في مذهب المالكية ماذا؟ يُحدّ، وفي قول عندهم أنه ما يُحدّ، فعندهم: يجب عليه الحد وإن كان والدًا، وإن كان أبًا حتى لا يكون ذلك مدعاةً للأصول أن يتساهلوا بقذف فروعهم.

فإذا عفا المقذوف عن القاذف 

  • الشَّافعية والحنابلة يقولون للمقذوف: أن يعفو عن القاذف -سواءً قبل الرفع إلى الإمام أو بعد الرفع إليه- لأنه حق، لا يُستوفى إلا بعد مطالبة المقذوف باستيفائه، فيسقط بعفوه مثل القصاص عندهم، إذا عفا ولي الدم؛ خلاص ما يُقتصّ منه.
  • ويقول الحنفية: لا يجوز العفو عن الحدّ في القذف سواءً رُفع إلى الإمام أو لم يرفع. 
  • وفرّق المالكية، أنه لا يجوز العفو بعد أن يُرفع إلى الإمام إلا الابن في أبيه، أو في لفظ عند الإمام المالك الذي يُريد سَترًا. 

فالسبب اختلافهم، هل هو حق لله تعالى خالص أو حق للآدميين أو كليهما.

"قَالَ رُزَيْقٌ: وَكَتَبْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضاً: أَرَأَيْتَ رَجُلاً افْتُرِيَ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَقَدْ هَلَكَا أَوْ أَحَدُهُمَا"؛ يعني: قد مات جميعهما أو مات أحدهما. "قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ" بن عبد العزيز: "إِنْ عَفَا" المقذوف "فَأَجِزْ عَفْوَهُ فِي نَفْسِهِ"؛ أي: في حق نفسه لأنه صاحب الحق "وَإِنِ افْتُرِيَ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَقَدْ هَلَكَا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَخُذْ لَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ"؛ أي: أقِم عليه الحد، وهذا أيضًا يأتي عليه القول بأنه إذا وصل إلى الإمام، ما يجوز العفو. وكذلك إذا كان المقذوف غيره من غير شك، فإذا كان المقذوف قد مات، من أين يحصل على العفو منه! نُقيم عليه الحد، "إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ سِتْراً"؛ يعني: تستر على نفسه أو على أبويه.

"سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْمُفْتَرَى عَلَيْهِ يَخَافُ إِنْ كُشِفَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ فَعَفَا، جَازَ عَفْوُهُ." إن قال: لأردت سترًا، لم يُقبل منه شفاعة عند ذلك الإمام. إن خاف أن يثبت عليه ذلك؛ جاز عفوه، وإلا لم يجز.

"حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَذَفَ قَوْماً جَمَاعَةً: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ تَفَرَّقُوا." ثم بعد ذلك إذا قذف رجلًا ثم قبل إقامة حد القذف عليه، وقع الرجل المقذوف في الزنا -والعياذ بالله-.

  • قال الشَّافعية: سقط الحد عن القاذف. 
  • قال الحنابلة: القذف إذا ثبت ما يسقط بزوال شرط من شروط الإحصان بعد ذلك، ما يسقط، إلا إن كان ثبت قبل أن يقذفه. إن ثبت عليه الجرم قبل أن يقذفه ما عليه حد، وأما إن كان وقت ما قذفه لم يثبت عليه شيء، فيقام عليه الحد. وإن ثبت بعد ذلك أنه وقع فيما قُذف به سواء قبل القذف أو بعده، قال: ما دام وقت القذف لم يكن عليه بينة ولم يثبت عليه؛ فيقام الحد على هذا القاذف تغليظًا. 
  • الشَّافعية قالوا: إذا قد ثبت عليه، لا يوجد حد على هذا، قده الأمر ثابت على الرجال وقد هو هتك عرضه بنفسه.

 ويتكلم على إذا كان قذَف أكثر من واحد، قال: إنهم زناة. "قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ تَفَرَّقُوا" يقول الإمام مالك يعني المقذوفين متفرقين قذفهم فردًا فردًا "فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ"؛ يعني في قاذف الجماعة ليس عليه إلا حد واحد، هكذا يقول الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- سواءً قذفهم مجتمعين أو متفرقين لأنه يقول حد من الحدود تتداخل، ولكن من رأى أنه حق للآدميين أثبت لكل واحد حق. 

  • وكذلك يقول الإمام أبو حنيفة: إنه وإن تعدّد المقذوفون يُقام عليه حدٌّ واحد. 
  • لكن الشَّافعية قالوا: إذا تعدد المقذوف فكل واحد له حق، إن واحد عفا، باقي الثاني، باقي الثالث، وكل واحد يأخذ بحقه، وإن كل واحد بغى حد كلهم يأخذ حده. 
  • وهكذا يقول الحنابلة: إذا قذف الجماعة بكلمة واحدة، حدّ واحد إذا طالبوا أو واحد منهم طالب. 
  • وكما هو مذهب الإمام أبي حنيفة والإمام مالك -عليهم رضوان الله تعالى- وإذا كان بكلمة واحدة وأخذوا بعموم قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) [النور:4] ولم يفرّق بين قذف واحد أو جماعة.

قال: فإذا قذف الجماعة بكلمات:

  • يقول مذهب الحنابلة:  كل واحد له حق، له حد. 
  • وهكذا حتى يقول ذلك أيضًا الإمام أبو حنيفة: إذا قد قذف كل واحد بكلام مخصوص يتعدد الحد عليه. 
  • ولكن عند الإمام مالك الحد هذا هو واحد، سواءً قذفهم بكلمة واحدة أو قذفهم متفرقين، إذا لم يقُم حد عليه، فالحدّ واحد. أما إذا أُقيم عليه حد ثم طرأ شيء بعد ذلك؛ فيقام عليه حد ثاني. وأما إذا لم يقم عليه حد قبل، فمهما تعددّ، فالحدّ واحد عند الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. 

قال: يُروى أن ابن أبي ليلى، سمع مَن يقول لشخص يا ابن الزانيين، فأخذه وحدّه حدّين في المسجد، بلغ أبا حنيفة فقال: يا للعجب لقاضي بلدنا! أخطأ في مسألة واحدة في خمسة مواضع:

  1. الأول، أخذه بدون طلب المقذوف.
  2. والثاني: أنه لو خاصم وجب حد واحد.
  3. الثالث، ينبغي أن يتربص بينهما يومًا أو أكثر حتى يخفف أثر الضرب، لا حدّين مرّة في يوم واحد. إذا حدّ يوم، يصبر ثم أنه لو وجب عليه حد ثاني، ما يخليها كلها مرّة فيؤدي إلى ضره وإلى تعريضه للمرض أو الموت، يقول: لا بس اليوم حد، خلّه يوم، يومين، ثلاثة صلّح الحد الثاني 
  4. قال: والرابع ضربه في المسجد. 
  5. والخامس ينبغي أن يتعرّف أن والديه في الأحياء أو لا. إن كانا حين الخصومة لهما، وليست للابن وإلا فالخصومة للابن. 

فإذًا هذه أقوال في مسألة التعدد.

ثم يذكر: "عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: وَاللَّهِ مَا أبِي بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ. فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ". كيف؟ فيه تعريض؟ يقول: سبّ كل منهما الآخر في زمان "عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: وَاللَّهِ مَا أبِي بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ"؛ يعني أهل العلم والفهم، استشارهم سيِّدنا عُمَر. 

  • قال بعضهم: نظر إلى ظاهر اللفظ هذا "مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ" ولا شيء عليه. 
  • قال آخرون: أبوه وأمه يقدر يمدحهم بمدح ثاني، أيش هذا الكلام! ما يذكر هذه العيبة ينفيها عنهم إلا في المسألة شيء معناه أنهم متهمين أو لماذا يقول هكذا؟ "نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ"؛ يعني: حد القذف.

يقول: كأنه لمّا قال والله ما أمي بزانية يقتضي أنه قال ذلك على وجه المشاتمة، والمفهوم في ذلك يعني أيش؟ يعني أنت، أمك، وأبوك… ما أنا، أبوي، وأمي، لا شيء منهم. المعنى أمك أنت، وأبوك أيش؟… فيه تعريض. فلهذا لما رأوا التعريض، قالوا لسيِّدنا عُمَر هذا، أخذ برأيهم هذا وجلده ، فجلده عُمَر بن الخطاب الحد، حد القذف لأنه عرّض بأب الثاني وأمه، أما من دون التعريض ليس فيه شيء، كما قد قالوا لسيِّدتنا مريم: (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم:28]، ما قالوا لها فيه تعريض بأب حد ثاني أو أم حد ثاني إلا يقولون: أنت كيف تجيبين لنا ولد من دون زواج؟! الآن من أين أتيتي به! وكان آبائك وأمهاتك على طيبة وطهر، من أين يجيء الخلل عندك؟ فأشارت إليه فتكلَّم سيِّدنا عيسى وبرّأ أمه. 

وهكذا اختلفوا في إذا كان قذَف بالتعريض لا بالتصريح. وكذلك الجمهور أن من قذف ميتًا -سواءً ذكر كان أو أنثى-، يجب عليه حد القذف إذا طالب بالحق أحد الورثة، أحد من ورثة الميت. والحنابلة قالوا: إذا قذف ميت ما يكون هناك حد إلا إذا كان الميت أنثى ولها ابن مُحصن، فله حق أن يطالب بذلك.

"قَالَ مَالِكٌ: لاَ حَدَّ عِنْدَنَا إِلاَّ فِي نَفْىٍ أَوْ قَذْفٍ"؛ يعني: نفي النسب عن أبيه؛ لست ابن فلان، "أَوْ تَعْرِيضٍ، يُرَى أَنَّ قَائِلَهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْياً" عن النسب "أَوْ قَذْفاً" ورميًا بالزنا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، "فَعَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ" الكلام الذي يدل على هذا "الْحَدُّ تَامًّا" ثمانون جلدة. فالتعريض أيضًا؛ يعني كلام له وجهين -ظاهر وباطن-، ويقصد قائله الباطن، فهو ذكر شيء يُفهم منه شيء آخر لم يُذكر، فهذا نوع من الكناية غير التصريح. 

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِذَا نَفَى رَجُلٌ رَجُلاً مِنْ أَبِيهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ"؛ أي: على نافي النسب، "الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ الَّذِي نُفِي مَمْلُوكَةً"، أي: أمة "فَإِنَّ عَلَيْهِ"؛ أي: على النافي "الْحَدَّ" تامًا لأن العبرة في النسب بالأب. إذا نفاه عن أبيه، فقد رمى أمه بالزنا، وقطع نسبه، وكل واحد منها يوجب الحد، يا لطيف!.. "فمَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقُل خيرًا أو ليصمت". وهكذا نهانا عن كل السب ولو بغير القذف، وجُعل من الفسوق في قوله ﷺ: "سِبابُ المسلمِ فسوقٌ، وقِتالُه كفرٌ." وهكذا يقول ﷺ: أنّي لم أبعث سبّابًا ولا لعانًا ولا طعانًا، و "ليس المؤمن باللعّان ولا الطعّان ولا الفاحش البذيء"، ما يكون مؤمن فيه شيء من هذه الأوصاف السيئة، فيجب التخلّي عنها والتّطهّر منها.

رزقنا الله الإنابة والاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ودفع الآفات عنّا، ورعانا حيثما كنا، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

07 ربيع الثاني 1444

تاريخ النشر الميلادي

01 نوفمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام