شرح الموطأ - 441 - كتاب الحدود: باب ما جاء فيمَن اعْترَفَ على نَفْسِهِ بالزِّنا

شرح الموطأ - 441 - كتاب الحدود: باب مَا جَاءَ فِيمَنِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود، باب مَا جَاءَ فِيمَنِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا.

فجر السبت 19 ربيع الأنوار 1444هـ.

 باب مَا جَاءَ فِيمَنِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا

2408 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَوْطٍ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: "فَوْقَ هَذَا". فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ، فَقَالَ: "دُونَ هَذَا". فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلاَنَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجُلِدَ، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئاً، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ".

2409 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أُتِىَ بِرَجُلٍ قَدْ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ فَأَحْبَلَهَا، ثُمَّ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحْصَنَ، فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَجُلِدَ الْحَدَّ، ثُمَّ نُفِي إِلَى فَدَكَ.

2410 - قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَعْتَرِفُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَمْ أَفْعَلْ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنِّي عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا، لِشَىْءٍ يَذْكُرُهُ: إِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ لاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تُثْبِتُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِمَّا بِاعْتِرَافٍ يُقِيمُ عَلَيْهِ، حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى اعْتِرَافِهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

2411 - قَالَ مَالِكٌ: الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لاَ نَفْيَ عَلَى الْعَبِيدِ إِذَا زَنَوْا.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرِمنا ببيان هداه على لسان مصطفاه، سيدنا مُحمد بن عبد الله صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، وعلى آبائه وإخوانه من رسل الله وأنبياه، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المقرّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم في كل نفَسٍ وحين.

وبعدُ،

فَيواصل سيدنا الإمام مَالِك ما جاء في الشريعة الغرّاء من إقامة الحدود زجرًا عن المحرّمات والمعاصي الكبيرات، والذنوب الموبقات تطهيرًا للعباد، وتهيئةً لهم إلى لقاء دار المعاد، وإصلاحًا لِلقلوب والأجساد، وحفظًا من الغيّ والزيغ والفساد. 

وجاء هذا الباب: "فِيمَنِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا"، وعلمنا أن الشهادة فيما يتعلق بهذه الفاحشة الغليظة الخطيرة صعبة، ولا يتأتى وجودها إلا في حالة تهتّكٍ فاحشٍ خبيثٍ، خارج عن كل الحدود للفطرة، ولِلعقل، وللإِنسانية، حتى يشاهد أربعة الفعلة بتحقيق معناها، وذلك بعيدٌ ولا يصدر إلا… فلهذا إنما جاء لإقامة الحدود سواء أن كان الضرب أو الرجم بسبب الاعتراف، وأنه شُرع هذا الحد زجرًا وتنبيهًا ورحمةً لعباد الله -تبارك وتعالى- أن تغلبهم نفوسهم وأهوائهم للوقوع في الَمحذورات والسوء، ثُمَّ بعد ذلك جاء الإرشاد النبوي لمن اُبتليَّ بشيء من ذلك أن يستتر ويتوب إلى ربه جلَّ جلاله، ويركن إليه، ويلجأ إليه ليُخلِّصه من هذا السوء والشر، ويصدق في توبته إليه. 

وأنه إنما حصل نماذج من الضمائر التي تنوَّرت، وحيَّت، وخافت من ربها، فأقرّوا طلبًا للبراءة، وطلباً للغفران، وطلبًا للتجاوز من الرحمن عنهم، فجاؤوا بهذا الحال، وأُقيم عليهم الحد. والحد في إقامته أيضًا موزون بموازين، ومُرَتبٌ فيه ترتيب؛ ليس عشوائيًا، ولا مجحفًا، ولا تبريحَ في الضرب، ولا جواز لسبِ مرجومٍ، ولا مضروبٍ ولا غير ذلك، فما أعظم الشريعة وأدقها، وما أحسنها وأزيْنها لصلاح الإنسان.

يقول: "أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"؛ أي: لما ثبت عنده إقراره ولم يرجع عن ذلك، أمر ﷺ بأن يُقام عليه الحد بالضرب وكان غير محصن، فأمر أن يُضْرَبْ، "فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَوْطٍ" يُضْرَبُ به ليجلد به هذا؛ فحكم بجلده لمّا علم أنه غير مُحصن، ولم يأتِ في الحديث ذكر التكرار في الاعتراف في هذا؛ لأن الحد فيه إنما هو الضرب دون رجم من ناحية؛ ثُمَّ أن ذلك لا يُشترط لا في المُحصن ولا في غير المُحصن تكرير الاعتراف عند الشَّافعية وعند المالكية.

  • ويُقال عند الحَنَفِية لا بد من أن يقرّ أربعًا، ويُشترط في الإقرار أربعًا أن يكون في أربع مجالس، بحيث يذهب عن الحاكم ويغيب عن نظره ثُمَّ يرجع ويُقِر فجعلوا في ذلك أربعة.
  • أما الحَنَابِلَة قالوا: لا، يمكن أن يقر في مجلس واحد أربع مرات ويُقام عليه الحد.
  • وقال الشَّافعية والمالكية: لا يشترط تكرير الإقرار ويكفي أن يُقِرَ مرةً واحدةً ليقام عليه الحد.

 إلا أن المعلوم عن رسول الله ﷺ أنه لوّح وعرّض ليرجِع المُقر فينصرف عن إقامة الحد عليه، فلمّا أصرَّ أقام عليه الحد، وكذلك الواجب عند الحاكم، وإذا بلغ للحاكم لم يجز له أن يتساهل فيه وأن ينظره، وإذا لم يبلغ الحاكم فالستر أولى.

يقول: "فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا"؛ أي: يريد أجدّ منه وأصلب، "فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ"؛ يعني: طرفه، ثمرة السياط عقد أطرافها، يعني لم يمتهن ولم يلين لا زال قوي، فَقَالَ ﷺ"دُونَ هَذَا" لا ذاك المكسور الذي ما عاد يؤلم ولا يؤثر سواء، ولا هذا القوي الذي يوقع ألم شديد في الضرب، "فَقَالَ: دُونَ هَذَا" ﷺ. فانظر إلى رعايته  حتى في كيفية الضرب ولا يضرب به صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال: "فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ" يعني ذهبت عقدة طرفه، صار ليّن مع بقاء صلابته، رُكِبَ به يعني استعمل ذلك السوط في الركوب، قد رُكب به لأنه إذا قد استعمل ورُكب به ذهب طرفه ولَانَ، من اللين صار لينًا، فأمرَ ﷺ قال: هذا، مثل هذا، "فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجُلِدَ" مائة جلدة، "ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ"؛ أي: حان، "لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ هتكِ حُدُودِ اللَّهِ" التي حرمها الله جلَّ جلاله بما نهاكم، وبما حذّركم، وبما أوعدَ من العذاب، وبما بلغكم على لسان رسوله، فانتهوا "مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئاً"، كل فعل أو قول يُستقبح يُقال له: قاذورة؛ كالزنا، وشرب الخمر، والقذف، وكل ما هو مُستقذر، قال: من أتى من هذا قال شيئًا لهوى نفسه الأمارة بالسوء "فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ"، الذي أسبله الستار عليه، يعني: يتب إلى الله تعالى ويستغفره حتى يُخلِّصه من شر ما فعل.

وهكذا، "فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي"، يعني: يُظْهِرْ "لَنَا" معاشر الحكام "صَفْحَتَهُ"؛ يعني: جانِبه ووَجهه وناحيته، يعني: يُظهر لنا فعله المخفي، الذي كأنه كان مغطى فكشفه مثل الوجه الذي مغطى، "نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ" أي يجب عليه حينئذٍ إنفاذ حدود الله تبارك وتعالى.

وبهذا جاء اختلافهم بعد ذلك فهل إذا أصاب شيء يجوز له أن يتكلم، ويذهب يُقِر بنفسه، أو يَحرم عليه ذلك؟  

  • أم تكلمه وتحدثه على سبيل الإخبار أو التبجح بالإجماع حرام، بل قد يكون أعظم إثمًا من الفعل أن يتبجح به، أو أن يذكره فرحًا، أو أن ينشره بين الناس، فهذا حرام قطعًا بالإجماع، لا يجوز الخوض فيه ولا الكلام فيه.
  • وأما أن يحدثَ به من يقيم الحد عليه ليتطهّر: 
    • فهذا إن غلبه الخوف من الله تبارك وتعالى وأراد طُهرًا لنفسه ولم يجد استقرارًا في نفسه لذلك فلا شيء عليه، كما فعل هؤلاء في عهده صلَّى الله عليه وسلَّم وبارك عليه وعلى آله. 
    • وإلا فالأفضل أن يستتر بستر الله جلَّ جلاله، ويندم أتم الندم، ويتوب إلى الجبار الأعلى ويسأله ستره في الدنيا والآخرة، وغفره ومجاوزته، ويبتعد عن أسباب الوقوع  في السوء فهذا هو الأفضل له والواجب عليه. 

 

أما تحدُّثه أمام الحاكم ليقيم الحد عليه فهذا لا سبيل لتحرِيمه، وقد جاء وثبت إلا أن الأفضل إذا لم يجد اللوعة التي وجدها هؤلاء في قلوبهم والخوف الشديد أن يستتر بستر الله تبارك تعالى، أما تحدثه عند غير الحاكم على سبيل الإخبار أو التبجح فحرام ولا يجوز قطعًا من قريب ولا من بعيد، وهو من إشاعة الفاحشة التي حرمها الله تبارك وتعالى، فلا يجوز أن يخبر أحد ولا أن يتبجح. أما التبجح فإثمه أعظم من إثم الفعل والعياذ بالله تبارك وتعالى، لأنه جراءةٌ على الله سبحانه وتعالى، وانتهاكٌ للحرمات، وعدم مبالاةٍ بأمر الجبار والرجوع إليه.

وجاء في لفظ: "اجتَنِبوا هذه القاذوراتِ التي نَهى اللهُ عنها، فمَن ألمَّ بشَيءٍ منها، فلْيَستتِرْ بسِترِ اللهِ، ولْيَتُبْ إلى اللهِ؛ فإنَّه مَن يُبْدِ لنا صَفحتَه، نُقِمْ عليه كتابَ اللهِ تعالى"؛ أي: الحد الذي أوجبه الله في كتابه.

وهكذا جاء في الحديث أيضًا ما جاء في البخاري وغيره "كلُّ أمَّتي معافًى إلا المُجاهرونَ". ومن هنا أيضًا في إقامة الشهادة إذا كان تمت الشهادة فالأفضل إقامتها عند الحاكم أو الستر؟ 

  • إن كان رجلًا يخشى وينتهي ويَنزجر فالأفضل الستر، ولا تذهبون وإن كنتم شهود كاملين؛ لا تذهبوا إلى عند الحاكم. 
  • وإن كان رجل قليل حياء، مجاهر، يتبجح بالذنوب ولا يبالي، فالأفضل تذهبوا إلى الحاكم ليُطهر الأرض منه ويُطهر المجتمع من سوئه وهو متجاهر "كلُّ أمَّتي معافًى إلا المُجاهرونَ" الذي لا يبالي ويتبجح بفعل المعصية والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وبخلافه الذي يندم ويتحسر على ما جرى منه ويخاف الرجعة، ويقلع عن ذنب، فهذا الأفضل الستر له في نفسه وفي حق الشهادة عليه كذلك.

وفي الرواية الأخرى: "اجتَنِبوا هذه القاذوراتِ التي نَهى اللهُ عنها، فمَن ألمَّ بشَيءٍ منها، فلْيَستتِرْ بسِترِ اللهِ" إلى آخر الروايات التي وردت عنه صلَّى الله عليه وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله، فهذا هو الحكم في هذه المسائل.

قال: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي الله عنه- أُتِىَ بِرَجُلٍ قَدْ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ فَأَحْبَلَهَا، ثُمَّ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ"، الرجل المذكور عن نفسه "بِالزِّنَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحْصَنَ، فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَجُلِدَ الْحَدَّ"؛ يعني: مائة جلدة "ثُمَّ نُفِي"؛ أي: غُرّب "إِلَى فَدَكَ" يعيش هناك سنة بعيد عن الناس ليكون أيضًا أبعد عن الفكر والإشاعة وتذكر الناس للسوء فيعود بعد عامٍ وقد انصرف الحديث عنه وعن فعلته وما إلى ذلك.

  • قال الأئمة الثلاثة: إن هذا التغريب أيضًا من جملة الحد الذي يُقام على غير المحصن. 
  • وقال الحَنَفِية إنما هو تعزير، هذا تعزير يرجع إلى أمر الحاكم إن رأى فيه التعزير يغرّبه وإلا لا. 

والأمر أيضًا يُعلمْ أن علته أن يبتعد عن السوء، ويبتعد السوء عنه، ويبتعد عن ذكر السوء، فأما إذا كان تغريبه يوقعه في سوء أكثر فهذا من باب أولى أن يترك، وإنما المقصود، وإنما يمكن يستبدل بحبسٍ بحسب نظر الإمام. 

"قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَعْتَرِفُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَمْ أَفْعَلْ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنِّي عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا، لِشَىْءٍ" من الأمور "يَذْكُرُهُ: إِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ"؛ لأنه ﷺ قال للذي اعترف عنده لعلك نظرت، لعلك قبلت، لعلك لامست… يقول لا، لا يا رسول الله، فلو رجع وقال: نعم لسَكت عنه ولتركه، ولكن لما أصرّ على فعلته لخَوفه وخشيته فذلك يوجب على الحاكم أن يقيم عليه الحد. 

فلهذا يقول الحَنَابِلَة أيضًا: من شرط إقامة الحد بالإقرار البقاء عليه إلى تمام الحد، فإن رجع عن إقراره أو هرب كُفّ عنه.

وهكذا يقول الإمام مَالِكْ والإمام الشَّافعي كما هو عند الثوري وأبو حَنِيفَة كلهم يقولون هذا راجع إليه وإقراره، فإذا لم يثبت إلا بالإقرار ثم رجع عن الإقرار قبل الحد أو في أثناءه وُقِفَ عنه، تُرك ولو كان ذلك بالهرب. "وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ لاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تُثْبِتُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِمَّا بِاعْتِرَافٍ يُقِيمُ عَلَيْهِ، حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى اعْتِرَافِهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ". 

"قَالَ مَالِكٌ: الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لاَ نَفْيَ عَلَى الْعَبِيدِ إِذَا زَنَوْا"؛ لأن عليهم القيام بخدمة مالكيهم، التغريب يكون على الأحرار الرجال أيضًا خاصة؛ لا يكون على النساء، ولا على المملوكين، الذين يقوموا بخدمة أسيادهم، لأنه إذا نفينا المملوك عاقبنا مالكه، ومالكه ليس عليه ذنب ولم يدخل في الخطيئة، إذًا؛ فلا تغريب على عبدٍ ولا على أمة.

وجاء عن الثوري وأبي ثور يقولون نصف عام، وأخذوا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء:25] وعلمت أن الحَنَفِية قالوا: إنما هذا تعزيرٌ وليس بأنَّ الحد أصلًا التغريب.

وهكذا لما سُئل عن الأَمَة إذا زنت قال: اجلدوها، ثُمَّ زنت فاجلدوها، ثُمَّ إن زنت قال: بِعها ولو بحبل، يعني ما فيها خير، وما فيها صلاح هذه التي تعود إلى الفعلات الخبيثة، ولم يذكر التغريب فهذا من أدلتهم عليه.

وجاء عن سيدنا علي قال: "يا أَيُّها النّاسُ، أَقِيمُوا على أَرِقّائِكُمُ الحَدَّ، مَن أَحْصَنَ منهمْ، وَمَن لَمْ يُحْصِنْ؛ فإنَّ أَمَةً لِرَسولِ اللهِ ﷺ زَنَتْ، فأمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَها"، أيضًا وليس فيه التغريب، والله أعلم. 

رزقنا الله الاستقامة، وحمانا من موجبات الندامة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، وأتحفنا بالصدق والعفاف والغنى والزهادة والكرامة، وكان لنا بما هو أهله في الدنيا والبرزخ والآخرة و دار المقامة، وربطنا بالمظلّل بالغمامة ربطًا لا انحلال له أبدًا، واجعلنا به وبِقُربه ومرافقته من أسعد السعداء، وإلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

05 ربيع الثاني 1444

تاريخ النشر الميلادي

30 أكتوبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام