شرح الموطأ - 440 - كتاب الحدود: تتمة باب ما جاء فِي الرَّجْمِ
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود، تتمة باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ.
فجر الإثنين 7 ربيع الأنوار 1444هـ.
تتمة باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ
2401 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الآخَرُ، وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ. قَالَ: "تَكَلَّمْ". فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذَا، فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِئَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي: أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ". وَجَلَدَ ابْنَهُ مِئَةً، وَغَرَّبَهُ عَاماً، وَأَمَرَ أُنَيْساً الأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا. قَالَ: فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ.
2402 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَرَأَيْتَ لَوْ إنِّي وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً، أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِىَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ".
2403 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا أُحْصِنَ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الاِعْتِرَافُ.
2404 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ إِلَى امْرَأَتِهِ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَتَاهَا وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ حَوْلَهَا، فَذَكَرَ لَهَا الَّذِي قَالَ زَوْجُهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَخْبَرَهَا أَنَّهَا لاَ تُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ، وَجَعَلَ يُلَقِّنُهَا أَشْبَاهَ ذَلِكَ لِتَنْزِعَ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْزِعَ وَثَبتتْ عَلَى الاِعْتِرَافِ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَرُجِمَتْ.
2405 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالأَبْطَحِ، ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطْحَاءَ، ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ وَاسْتَلْقَى، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي وَضَعُفَتْ قُوَّتِي وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلاَ مُفَرِّطٍ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ, وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلاَّ أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِيناً وَشِمَالاً. وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لاَ نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكَتَبْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ. فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا.
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: قَوْلُهُ: الشَّيْخُ وَالْشَّيْخَةُ، يَعْنِى الثَّيِّبَ وَالثَّيِّبَةَ، فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ.
2406 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً) [الأحقاف:15] وَقَالَ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة:233] فَالْحَمْلُ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلاَ رَجْمَ عَلَيْهَا. فَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَثَرِهَا، فَوَجَدَهَا قَدْ رُجِمَتْ.
2407 - وحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ؟ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: عَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريّته، عبده وحبيبه وصفوته، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى أصحابه وعلى أهل متابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أحباب الحق -تبارك وتعالى- وخيرته من بريّته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكته المقربين وجميع عباد الله الصالحين.
يواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بإقامة الحد في الزنا، لأجل الطُّهر، ولأجل الزجر، ولأجل رفع راية العفاف والنقاء. ويذكر في هذا الحديث اختصام الرجلين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، "فَقَالَ أَحَدُهُمَا:" وجاء في رواية: كنا عند النبي ﷺ فقام رجل فقال… وفي رواية أيضاً: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي ﷺ وهو جالس.. وفي رواية أخرى أيضًا وهي في البخاري يقول: إذ قام رجل من الأعراب… قال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ"؛ أي: احكم "بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ" جاء في لفظ البخاري: "أُنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله"؛ يعني: أسألك رافعًا نشيدتي، يعني: صوتي هذا أُنشدك، وأنشُدك يعني أسألك بالله، يقول: "اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ"؛ أي: بفرضه الذي فرضه "وَقَالَ الآخَرُ، وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا:" وصف أنه أفقه من الأول لما رأى في كلامه من الاستئذان وحُسن الأدب، وتركِ رفع الصوت والأولُ رفعَه، وتأكيده السؤال على فقهه، وحُسن السؤال نصف العلم كما يقولون، قال: "أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ" يعني في تفصيل القصة.
فقال له رسول الله ﷺ "تَكَلَّمْ"، "فَقَالَ:" الأعرابي "إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً"؛ يعني: أجيرًا مستأجرًا، كان أجيرًا "عَلَى هَذَا" يعني عنده فيشتغل معه "فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ" ولم يكن الحكم كذلك، لأنّه ليس بمُحصن، يقول: "فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِئَةِ شَاةٍ" يعني جعلتها فداء، بدل أن يُرجم ابني أخرج مائة شاة "وَبِجَارِيَةٍ لِي" مائة شاة وخادم في رواية، وبمئةٍ من الغنم ووليدة كما جاء في رواية.
"ثُمَّ إنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي: أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ" لأنها محصنة "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ" صلى الله وسلم عليه وعلى آله. "أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ"، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، فهذه الواقعة هي سبب قوله :"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، "ومن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، سببه ما فعل هذا؛ قال: أنا افتديت، ما تكون فدية إذا أنزل الله حكماً أو أمر ما يكون افتديت ولا ما افتديت، ما يمشي إلا حكم الله -جل جلاله-، فلما أراد مخالفة الشرع في ذلك قال له: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه" أي في شيء منه "فهو رد"، الغنم والجارية ردٌّ عليك، خذ جاريتك ولا لنا حاجة بغنمك، فإنما على ابنك جَلدُ مئة، "جَلَدَ ابْنَهُ مِئَةً، وَغَرَّبَهُ عَاماً".
فهو كذلك يلزم فيه جلد مئة وتغريب عام، (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور:2] في القرآن الكريم، والجمهور على أنّه يُجمع بين الجلد والتغريب عند الشافعي ومن وافقه، وكذلك لا يُجمع في المحصن بين الجلد والرجم، بل يُكتفى بالرجم، وجاء عن بعض الصحابة والتابعين أنّه يُجلد أولاً ثم يُرجم.
"وَأَمَرَ أُنَيْساً الأَسْلَمِيَّ" أمر النبي ﷺ سيدنا أنيساً الأسلمي رضي الله عنه "أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ" لماذا اختار سيدنا أُنيس الأسلمي؟ لأنّه من قبيلتهم، فلم يؤمّر في القبيلة إلا رجلاً منهم لنفورهم عن حكم غيرهم، والمرأة أسلمية فأمره أن يذهب. يقول الإمام النووي: إنّ سبب بعث النبي أيضًا أُنيس للمرأة ليُعلِمها بالقذف المذكور لتطالب بحدّ قاذفها إن أنكرت، فكما هو معلوم سنة تلقين المُقرّ ليرجع، ولكن قال: "فَإِنِ اعْتَرَفَتْ"؛ أي: أبَت إلاّ أن تعترف بفعلتها، فإن اعترفت
- مرة عند الجمهور.
- وعند الإمام أبي حنيفة أربع مرات إن اعترفت.
"فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا" أمره برجمها، "قَالَ: فَاعْتَرَفَتْ" بالزنا "فَرَجَمَهَا" أعاد عليها فاعترفت فرجمها، أو في لفظ: فأمر بها رسول الله ﷺ فرُجمت، أنه أعاد جوابها إلى عند النبي ﷺ فأمره أن يقيم حدّ الله.
وفي هذا أن إقامة الحدود إنما يرجع إلى الحاكم، ولا يجوز لأحد يقول نقيم عليك الحد على واحد من الرعية وعلى الرعية، فإنّ ذلك يؤدي إلى الفوضى، ولكن الرجوع فيه إلى الحاكم وبأمر الحاكم.
يقول في مذهب الحنفية: الرجل إذا أقرّ بالزنا بامرأة وأنكرته المرأة، فيسقط الحد عن الرجل أيضًا لأنّها شبهة أنّه ادّعى شيئًا ما هو واقع، المرأة التي أخبر عنها أنكرت وقوع شيء من ذلك، فجعل هذا سبباً لرفع الحد عن المُقرّ أيضًا، وقال الجمهور: لا، له حكمه ولها حكمها.
"وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ". وذكر لنا حديث: "سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَرَأَيْتَ لَوْ إنِّي وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً، أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِىَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ". يعني لن نقيم عليه حدّاً إلا بأربعة شهداء، ولا نقبل الشهادة في هذا إلا بأربعة شهداء، وجاء في الخبر أن سيدنا سعد قال: والله لأحملنّ عليه بشيء في هذا؛ بقتله أنا ما عاد بروح أجيب أدوّر شهداء يشهدون، فقال ﷺ: "أتعجبون من غيرة سعد؟ أنا أغيَر من سعد، والله أغيَر منّي ومن سعد، غَيَرة الله أن تنتهك حرماته".
وذكر لنا حديث سيدنا "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا أُحْصِنَ" واستثنى من ذلك الأرقّاء، لأنّ الله قال: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء:25] ولا يتأتى نصف رجم، ما يجيء، ولكن يأتي بنصف الجلد. كذلك في التغريب قال الشافعي وغيره: أنه يُغّرب ستة أشهر. ولكن قال الإمام مالك: بالنسبة للإماء ليس عليهنّ تغريب، ما تُغرّب المرأة.
وكذلك يدور الحكم فيما إذا لو غُرّب لخيفَ عليه أن يتمادى في الفساد أو يقع في الشر، فلا داعي، إلا إذا غُرّب إلى مكان فيه أمنٌ له وسلوك صحيح، وإلّا أيش الفائدة نريد نعالج فنرجع نقع في مشكلة أكبر! إنّما كانوا يعدّون الغربة مصيبة عليهم ويتعب، أما الآن اللي يحب يتفرج هو بيروح، أحسن له يوم تسفّره! فما عادت عقوبة ولا تعزير له، فالحكم يدور مع العلة.
(المحصنات) في القرآن يقول صاحب المغني ابن قدامة يقول: المحصنات في القرآن بأربع معانٍ:
- قال: هن العفيفات لقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور:23] عفيفة سواء متزوّجة أو غير متزوّجة، يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ هؤلاء.
- والثاني: بمعنى المتزوجات لقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ) [النساء:24] يعني: المتزوجات.
- الثالث: بمعنى الحرائر قال: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ)؛ يعني: الحرائر (مِنَ الْعَذَابِ) [النساء:25].
- الرابع: بمعنى الإسلام، قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) قال ابن مسعود: إحصانها إسلامها.
وفي الحديث: "لا يحلّ دم امرئٍ إلا بإحدى ثلاث… فقال: أو زنا بعد إحصان" في الرواية.
"إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ" ثبتت بالشهادة "أَوْ كَانَ الْحَبَلُ" إذا أحبلت امرأة لا زوج لها، ولا سيد لها، ليست أمة، يقول: هل يلزمها الحد بذلك؟ قالوا: إنها تُسأل، فإن ادّعت أنّها أُكرهت أو وُطئت بشبهة، أو لم تعترف بزنا، لم تُحدّ.
الإمام مالك كما سمعت في كلامه يقول: بإثبات الحد بالحَبَـل، لأنّه قال: إذا قامت البينة أو كان الحَبَل فيقول عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة، إلاّ أن تظهر أمارات الإكراه بأن تأتي مستغيثة أو صارخة.
وعند غير مالك ما يُقام إلا باعترافها أنّه من غير إكراه، قال "أَوْ الاِعْتِرَافُ".
وذكر لنا بعد ذلك: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ إِلَى امْرَأَتِهِ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَتَاهَا وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ حَوْلَهَا، فَذَكَرَ لَهَا الَّذِي قَالَ زَوْجُهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَخْبَرَهَا أَنَّهَا لاَ تُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ، وَجَعَلَ يُلَقِّنُهَا أَشْبَاهَ ذَلِكَ لِتَنْزِعَ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْزِعَ وَثَبتتْ عَلَى الاِعْتِرَافِ"، وهذا يؤيد أنهم فهموا من إرسال سيدنا أُنيس الأسلمي للمرأة أنّه إذا أتى منها بإنكار تركها، وهذا الذي أرسله أبو واقد للتي كذلك كان فقيه، وأخبرها أنها لا تؤخذ بقوله هذا، قول واحد ثاني ما عليها فيه شيء ويلقنها أشباه ذلك حتى تنزع تقول لا ليس صحيح، فأبت أن تنزع وتمّت على الاعتراف "فَأَمَرَ بِهَا" سيدنا "عُمَرُ فَرُجِمَتْ" وإنّما ذهب إلى الشام سيدنا عمر في أيام خلافته لأجل فتح بيت المقدس.
وفي حديث: "سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، يَقُولُ: لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالأَبْطَحِ، ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطْحَاءَ، ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ وَاسْتَلْقَى، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي"؛ يعني: عمري، "وَضَعُفَتْ قُوَّتِي وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي"؛ يعني: التي أقوم بتدبيرها وحُمّلت شأنها "فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ" لما أمرتني، في حال كوني غيرَ مضيع لما أمرتني "وَلاَ مُفَرِّطٍ" وهو ابن 63 سنة.
"ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ" كان قدوم عمر في آخر ذي الحجة إلى المدينة، "فَخَطَبَ النَّاسَ" في يوم الجمعة، قال: عجلنا الرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف؛ فأنكر علي"، كيف عرفت! "وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها؛ فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها؛ فلا أحل لأحد أن يكذب علي، إن الله بعث محمدا ﷺ بالحق… وإلى آخر خطبته.
والسبب أنه أراد أن يُبيّن شأنًا متعلّقًا بالخلافة، وكان قد أراد أن يُبيّنه في الحج، فقال له عقلاء الصحابة معه: لا تفعل، فإنه يتلقّى عنك الصغير والكبير والجاهل، ولا يعَون مقالك ويفرّون به في البلاد على غير وجهه، لكن إذا رجعت المدينة فيها من بقي من آل بدر وخواص الصحابة، تكلّم معهم يعون عنك، والثانية أراد أن يوضح أيضًا هذه القضية في مسألة الرجم.
"فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلاَّ أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِيناً وَشِمَالاً. وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لاَ نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكَتَبْتُهَا"؛ يعني: المنسوخ هذا "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ. فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا"؛ يعني: الآية المذكورة في سورة الأحزاب كانت.
"قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ"، ما عاد تأخر في نفس الوقت، هو قد دعا بالانتقال وهكذا، ولمّا جاءت فتنة في زمن البخاري، قال: اللهم اقبضني إليك غير مفتون، فانتقل.
يقول: "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهَا" قِف، "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً) [الأحقاف:15] وَقَالَ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة:233] فَالْحَمْلُ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ"؛ لأنّ الثلاثين شهرًا إذا خرّجنا الحولين كاملين أربعة وعشرون شهر، كم بقي؟ ست، الحمل وفصاله ثلاثون شهرًا، استنباط بديع من القرآن الكريم عجيب، رجع إليه الصحابة وبذلك جاء الحكم أن أقلّ الحمل ستة أشهر.
وأمّا أكثره لم يثبت فيه نص ولا استنباط، وإنما اعتمد فيه الأئمة على الاستقراء فقط للواقع، استند فيه الأئمة على الاستقراء، استقرؤوا أنّه قد يصل إلى أربع سنين عند كثير منهم، ولكن ذلك راجع أيضًا إلى الاستقراء لا إلى نص ولا استنباط من نص مثل هذا. فلهذا يرجع الأمر بعد ذلك إلى تحقيق الاستقراء، فإذا تمّ الاستقراء في أي وقت وأُنكِر ذلك كما يفعل الآن الأطباء فيُرجع إلى الواقع؛ أنّه ما يتجاوز تسعة أشهر بمدة كثيرة قط. وأنه قد تتخيل المرأة أنها حامل وتنتفخ بطنها وتنقطع عنها العادة وليست بحامل، ثمّ بعد سنة أو سنتين تحمل، فتظن أنّه هو ذا الحمل ويستمر معها وخصوصًا إذا كانت معلّقة بالحمل وليست بحامل.
وكذا جاؤوا إلينا في البيضاء وقد مات بعض الناس فقالوا: إنّا أولاد، إن أمّنا عادتها أن تحمل من سنتين لثلاث سنين، فالآن أمّنا حامل والأب توفي، فنخشى أن تطول المدة والناس يتكلمون على الأم بعدها، نقول لهم: إن الفقهاء يقررون إلى أربع سنين ما فيه إشكال، لكن بعد ذلك جاءنا بعد مدة قال: لي تبيّن ما يوجد حمل، كنا ناقشنا بعض الأطباء قالوا: هذا ما يمكن يتم، أنّه إذا قد جاوز التسعة أشهر يبدأ في التضخم وفي النمو ولا عاد يتأتى يخرج كما عادته، فالأمر راجع إلى الاستقراء فيه، كمال الاستقراء.
قال: "فَلاَ رَجْمَ عَلَيْهَا، فَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَثَرِهَا، فَوَجَدَهَا قَدْ رُجِمَتْ" مسكينة، وإلاّ كان سيتداركها سيدنا علي.
وابن شهاب سئل "عَنِ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ؟ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: عَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ"، وهذا مذهب ابن شهاب.
- وفي مذاهب بعض أهل العلم أنّه يُرمى من شاهق ويُرجم، كما فعل الله بقوم لوط.
- والشافعي جعله مثل الزنا من جهة الحد، وإنّ كان إثمه أشد.
- واستدلّ القائلون بأنه يُرجم مطلقًا بقوله ﷺ: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه أبو داود.
- فالجمهور على قتله سواء كان محصناً أو غير محصن.
ولكن سلك به الشافعي مسلك الزنا، فهم مُجمعون على حرمته واختلفوا في الحد. والله أعلم.
صاننا الله والمؤمنين وديارهم ومنازلهم وأهليهم وأُسرهم من كل سوء ومكروه، ومن كل موجبات حسرة وندامة في الدنيا والقيامة، بسر الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
05 ربيع الثاني 1444