(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود: باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ.
فجر الأحد 6 ربيع الأنوار 1444هـ
باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ
2397 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إِلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الأَخِرَ زَنَا. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ ذَكَرْتَ هَذَا لأَحَدٍ غَيْرِي؟ فَقَالَ؟ لاَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَاسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ. فَلَمْ تُقْرِرْهُ نَفْسُهُ حَتَّى أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لأبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ تُقْرِرْهُ نَفْسُهُ حَتَّى جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الأَخِرَ زَنَا. فَقَالَ سَعِيدٌ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى إِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: "أَيَشْتَكِى أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَحِيحٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ". فَقَالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَ.
2398 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ: "يَا هَزالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيْراً لَكَ". قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ الأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ يَزِيدُ: هَزالٌ جَدِّي وَهَذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ.
2399 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِاعْتِرَافِهِ عَلَى نَفْسِهِ
2400 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا زَنَتْ وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي". فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَتْهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ". فَلَمَّا أَرْضَعَتْهُ جَاءَتْهُ فَقَالَ: "اذْهَبِي فَاسْتَوْدِعِيهِ". قَالَ فَاسْتَوْدَعَتْهُ، ثُمَّ جَاءَتْ، فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ.
الحمد لله مكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته، سيدِنا محمدٍ عبدِ الله ورسوله وصفوته، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل القرب من الله تبارك وتعالى وأهل حضرته، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقرّبين وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدُنا الإمام مالكٌ -عليه رحمة الله- ذكرَه للأحاديث المتعلقة بالحد الذي شرعه الله تعالى، للزجر عن الفواحش وعن الزنا، الذي هو من أكبر الجرائم بعد الشرك بالله تبارك وتعالى.
واختلف أهلُ العلم في الأكبر إثمًا وجُرمًا، القتل أم الزنا على قولين:
فقيل القتل، وقيل: هو الزنا، والعياذ بالله تبارك وتعالى، لأن فيه خلطَ الأنساب وهتك الأعراض، وبذلك جاءت الشريعة بالزجر الكبير عن هذا الأمر، ولم يأتِ حدٌ كمثل حده في بقية السيئات والمعاصي.
وبذلك عرفنا ما أحب الله -تبارك وتعالى- لبريَّته على ظهر الأرض، أن يتعففوا عن الحرامِ وعن الفُحش وعن الفواحش، وأن يعيشوا طُهرَهم على الحد الذي شرعه لهم، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المعارج:29-31]
وذكر لنا في هذا الحديث، حديث سيدِنا ماعز -عليه رحمة الله تبارك وتعالى ورضوانه- وفيما روى: "أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ" وهو ماعزُ بن مالك، كما جاءت به الروايات، "جَاءَ إِلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ" أولاً "فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الأَخِرَ زَنَا" أو الأخِرْ قال معناه: الأرذل، أو الأقل، أو ما إلى ذلك، "إِنَّ الأَخِرَ زَنَا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ ذَكَرْتَ هَذَا لأَحَدٍ غَيْرِي" هل تكلمت بهذا الكلام لأحدٍ قبلي؟ قال الأسلمي: "لا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَتُبْ إِلَى اللَّهِ" عز وجل بالندم على ما فعلت، والعزمِ على ألا تعود لذلك، واستغفر ربك، "وَاسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ"، الذي أسبلَه عليك، إذ لو شاء لأظهره على الناس، "فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ".
فأرشده سيدُنا أبو بكر إلى الندم والتوبة بينه وبين الله، وأن لا يفشيَ هذا الأمر الذي لا يحب اللهُ إشاعتَه ولا ذكرَه بين الخلائق، ولا تحدُّثَ الألسن به، فإنه يكره ذلك جلّ جلاله يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ) [النور:19] "فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ"
لهذا أرشده سيدُنا أبو بكر إلى أن يستتر كما كان هو الإرشاد النبوي: "من أتى شيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عليه، فمن أبدى لنا صفحته، أقمنا عليه الحد". قال له: "فَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَاسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ"، وابتَعدْ عن المواطن التي تَجرُّك إلى هذا، أو توقِعُك في مثل هذا، واستقمْ في بقية حياتك، بينك وبين عالِم سرك ونجواك، جل جلاله وتعالى في علاه.
ولكن الرجل لم تقرر نفسُه، "فَلَمْ تُقْرِرْهُ نَفْسُهُ"؛ يعني: لم تُمَكِّنه على ما قال أبو بكر، وبقي في وسطِ جوفه نار من ألمه على ما كان منه، لحياةِ ضميره، وأراد تطهيرًا وتنقيةً كاملة، وعرف أن أبا بكر صاحبـ رقةٍ وصاحب رأفةٍ ورحمة، فذهب إلى سيدنا عمر بن الخطاب، "حَتَّى أَتَى" هذا -ماعزالأسلمي- إلى سيدنا "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ"، رضي الله عنه، لِما علم من صلابته في الدين وشدته. وفي الخبر: "أشدُّهم في اللهِ -أو في أمرِ الله- عمر"؟
"حَتَّى أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لأبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ"، رضي الله عنه، قال له لعِلْمِه بالمأمور به في الحدود، وواجبِ الستر، وما لم يَبلغُ الإمام والحاكم، فقال له: "اسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ"، تب إلى ربك سبحانه وتعالى، وإنّ الله غفورٌ رحيم، و"يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ. فَلَمْ تُقْرِرْهُ نَفْسُهُ" ما مكنته، مكانه في وسطه زاعجٌ وخوفٌ في باطنه، لم يقنع بقولهما، -قول سيدنا بكر وسيدنا عمر- خوفَ أن لا يُنَجِّيه مما اقترفه ذلك إلا إقامةُ الحد عليه، يظن هكذا التطهير، "حَتَّى جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، فأخبر النبيَ عليه الصلاة والسلام.
وجاء في روايةٍ أنه كلمه مباشرة، قال: أحقٌّ ما بلغني عنك؟ قال: ما بلغك عني؟ قال: وقعتَ بجارية آل فلان،؟ قال: نعم، فشهد أربعَ شهادات كما جاء في روايته.
وذلك أنه لما جاء للنبي ﷺ "فَأَعْرَضَ عَنْهُ"، فتكلم ثاني مرة فأعرض عنه، فتكلم ثالث مرة ويعرض عنه، حتى تكلم في الرابعة، حتى قال له في بعض الروايات: أبكِ جنون؟ قال أنت مجنون؟ قال: لا، وقال: أحقٌ ما بلغني عنك؟ قال: ما بلغك عني؟ ظنّ أنه بلَغَه أنه مجنون، فما رضيَ إلا أن يُقِرَّ ويعترف، رجاءَ أن يصفو حالُه مع ربه جل جلاله، "فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ.". يقول في روايةٍ: تنحى لشِّق وجهه، فرجع إلى الشق الثاني، ويقول له: أنه وقع في الأمر، فأقم عليَّ الحد، "فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ."
وجاء في روايةٍ أنه قال: ويحك ارجع فاستغفر الله وتبْ إليه، فرجع غيرَ بعيدٍ، ثم رجع إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله طهِّرني، حتى تكرر ذلك منه. في روايةٍ: فلما كان من الغد، أتى حتى أكثر الأسلمي عليه ﷺ، يعني بالمرة الرابعة، وهو يعود إليه ويخبرُه بذلك، من هنا أخذ الحنفية بأنه لابد من الأربع شهادات على نفسه، مقابل أربع شهود في الأمر، وقال غيرهم: يكفي الإقرار ولو مرة واحدة.
جاء في رواية جابر عند مسلم : شهد على نفسه أربع شهادات، ورواية ابن عباس يقول: جاء ماعز بن مالك إلى النبي ﷺ، فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء فاعترف مرتين، وهكذا تعددت الروايات.
وإذًا؛ لا يثبت هذا الحد ولا يُقام، إلا:
وجُعلت البيّـنةُ في هذا أشدَّ البينات، لابد من شهادة أربعةٍ عدولٍ، شاهدوهم مشاهدةَ فاضحةً واضحة، وهكذا يقول الأئمةُ عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
ويقول: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى أَهْلِهِ" يفتش عن حاله، قال لهم ﷺ "أَيَشْتَكِى؟" مرض؟ أم ذهب عقله؟ "أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟" نازله شيء من هذا؟ لينصرفَ عنه الحد. وفي الرواية الأخرى كما ذكر: أبك جنون؟ قال: لا، إلا أنه أصاب شيئًا يرى أنه لا يَخرج منه إلا أن يُقام فيه الحدُّ لله، وكأنه سأله بنفسه، ثم بعث إلى أهله تحققًّا لما قال، واحتاط صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وفيه: أنه في مثل هذه المسائل، يُقبل قولُ الرجل بنفسه، ولا عاد يحتاج إلى بيّنة فيما بينه وبين الله تعالى، في الحدود التي بينه وبين الله سبحانه وتعالى. وإذا قال إنه عنده حالة نفسية، أو عنده جنون، أو قال رجعتُ أو قال كذبتُ، يُعرَض عنه، ويُترَك أمره إلى الله جل جلاله وتعالى في علاه.
"فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَحِيحٌ." ما به شيء، ما نعلمه إلا وفيّ العقل من صالحينا. وفي روايةٍ قالوا له: ما نعلم به بأسًا يا رسول الله، إلا أنه أصاب شيئًا يرى أنه لا يَخرجُ منه إلا أن يُقام فيه الحدُ لله تعالى، هذا الآن فكرته هكذا، وهو يريد التطهر كيفما أمكن، ويرى أنه ما يَسْلَم إلا أن يُقام الحد عليه.
"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ". فلما أُخبر بصحة عقله، سأله للتفريق في الحد ما بين المُحصَن وغير المُحصَن، والمُحصَن:
يقول "مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ"؛ هذا هزال الذي كان عنده سيدُنا ماعز، "يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ" كانت له جاريةً، وأن هذا ماعز هو الذي وقع عليها، فقال له هزال: انطلِقْ فأخبِرْ رسولَ الله ﷺ، فعسى أن ينزلَ فيك قرآنًا، فانطلق فأخبره.
فالنبيُ ﷺ ما أحب منه أن يأمره بذلك، وكأنه لما علم هزالٌ هذا -مالك الجارية- قال له: اذهب إلى أبو بكر، اذهب إلى عمر راح وراح، وهو ما اشتفى، والرجل قال: اذهب إلى رسول الله ﷺ، فذهب إلى النبي ﷺ.
فقال له النبي ﷺ: "يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيْراً لَكَ". أما أن تأمره يجيء إلى عندي ويتكلم معي أو يفضح نفسه عندي ويتكلم… بالَغَ في السَتر، قال له: "بِرِدَائِكَ"؛ لو لم تجد إلا رداءك تستره به فاخرِج رداءك واستره به، يعني:
"قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ الأَسْلَمِيِّ"، هذا، "فَقَالَ يَزِيدُ: هَزَّالٌ جَدِّي وَهَذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ."؛ يعني: صحيح مذكور معروف عندنا -مسلسل عندهم- جدي كلم أبي، وأبي كلّمنا، ونحن نعرف هذا الحديث أنه وقع فينا.
بعد ذلك جاء: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَ."، كما جاء أيضًا في الصحيحين وغيرهما.
وحدَّث بعد ذلك: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ امْرَأَةً" وهي الغامدية ،كما جاء في صحيح مسلم، وجاء في روايةٍ: أن امرأةً من جهينة، قالوا: أن غامد بطنٌ من جهينة، فهي نفسُها غامديةٌ، وهي الغامدية من جهينة. "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا زَنَتْ وَهِيَ حَامِلٌ"، أي: يعني من الزنا، قالت: يا رسول الله طهِّرني قال: ويحكِ ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت: أراكَ أن تردّني كما رددت ماعزاً؟ يعني صارت عندهم القصة، أنه أعرض عن ماعز، وجاء له ثاني يوم، وثالث يوم، حتى أقام عليه الحد، فقالت: أراك أن تردني كما رددت ماعزاً؟ قال وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من زنا، فهي حامل، يعني أخبرت عن نفسها. "فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اذْهَبِي حَتَّى تُضعي". اذهبي حتى تضعي الحمل، حتى ولدت ببنت أو بولد، فلما وضعته جاءته، خرج الحمل منها، فجاءت بالولد إلى رسول الله ﷺ.
"فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ"، قالوا: يُحتمل أنه لم يكن له مال يُسترضع منه، أو لم يقبل رضاع غيرها، فعلى كل حال.ٍ أمرها أن تُكملَ رضاعَه.
وهكذا قالوا فيمن:
أنها لا تُرجَم ولا يقام عليها الحد حتى تكمل الرضاع، "اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ".
فإن كان الحد عليها الجلد، فكذلك ما تُجلد وهي حامل، خشيةَ من أن يتضرر الجنين، وحتى تُكملَ نفاسها فحينئذٍ تُجلد. وهكذا، إذا كانت ولدت ولد، فعند عامة الأئمة أنها لا تُرجم حتى تجد من ترضعه، فإن لم تجد من ترضعه، أرضعته حتى تفطمه ثم رُجمت.
وجاء في روايةٍ عن مالك، كما جاء عن أبي حنيفة: أنه لا يُنتظرُ لها حتى تُرضع، فيمكنُ أن يقام عليه الحد قبل ذلك.
"فَلَمَّا أَرْضَعَتْهُ جَاءَتْهُ فَقَالَ: اذْهَبِي فَاسْتَوْدِعِيهِ"؛ يعني: اجعليه عند من يحفظه ويقوم عليه، "قَالَ فَاسْتَوْدَعَتْهُ"، وذلك أنها ذهبت واختارت من يقوم بتربية الصبي ورعايته، فحمله وجاء إلى النبي ﷺ، وجاء في رواية مسلم قال: فدفع النبيُ ﷺ الصبيَ إلى رجلٍ من المسلمين، يعني أنها استودعته ذلك. فجاءت به إلى عند النبي ﷺ فقبل النبي منها ذلك، ودفع الصبيَ إلى هذا المستودَع الذي استودعته. قال: "ثُمَّ جَاءَتْ، فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ."
وفيها جاء قوله ﷺ: "لقد تابت توبةً لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعتهم". وهكذا أمر بحفرةٍ تُحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، أقبَل خالد ابن الوليد بحجرٍ رمى به رأسها، فنضحَ الدم على وجهه فسبّها، فسمعه ﷺ قال: "مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مُكسٍ لغُفِر له"، وفيه تعظيم شأن المُكس وأخذ أموال الناس بغير حق.
ثم أمر بها فصلّى عليها ﷺ فدفنت. حتى قال له سيدنا عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ قال: "لقد تابت توبةً لو قُسِّمت بين سبعين من أهل المدينة لَوَسِعَتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وهكذا فبعد إقامة الحد عليه يُصلَّى عليه.
وجاء في رواية الخلاَّل يقول: أن النبي ﷺ خرج إلى قباء، فاستقبله رهطٌ من الأنصار، يحملون جنازة على الباب، قال من هذا؟ قالوا مملوكٌ لآل فلان، قال: أكان يشهد ألا إله إلا الله؟ قالوا: نعم، لكنه كان وكان.. قال: أكان يصلي؟ قالوا: قد كان يصلي ويدع، قال لهم: ارجعوا به، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه وادفنوه، والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكةُ تحول بيني وبينه، والله أعلم.
رزقنا الله الإيمان واليقين والتقوى والإخلاص والصدق، وألحقنا بخيار الخلق وطهّرنا وديارنا ومجتمعاتنا عن الأسواء والشرور وكل محذور، وكل مقرِّب من الشر، وأصلح لنا ما بطن وأصلح لنا ما ظهر، وجعلنا من أهل اليقين وأهل الإخلاص وأهل الصدق معه في كل شأن، ودفع عنا الآفات وبلّغنا الأمنيات ورعانا بعين عنايته وثبتنا أكمل الثبات، وختم لنا بأكمل حسن الخاتمات، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
02 ربيع الثاني 1444