شرح الموطأ - 438 - تتمة كتاب الْمُدَبَّر، وكتاب الحدود: باب ما جاء في الرَّجْم

شرح الموطأ - 438 - كتاب الْمُدَبَّر: باب مَا جَاءَ فِي جِرَاحِ أُمِّ الْوَلَدِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، تتمة كتاب الْمُدَبَّر: باب مَا جَاءَ فِي جِرَاحِ أُمِّ الْوَلَدِ، كتاب الحدود: باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ.

 فجر السبت 5 ربيع الأول 1444هـ.

 باب مَا جَاءَ فِي جِرَاحِ أُمِّ الْوَلَدِ

2395- قَالَ مَالِكٌ فِي أُمِّ الْوَلَدِ تَجْرَحُ: إِنَّ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ ضَامِنٌ عَلَى سَيِّدِهَا فِي مَالِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَقْلُ ذَلِكَ الْجَرْحِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَلَيْسَ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ أَوِ الْوَلِيدَةِ إِذَا أَسْلَمَ غُلاَمَهُ أَوْ وَلِيدَتَهُ بِجُرْحٍ أَصَابَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَثُرَ الْعَقْلُ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ سَيِّدُ أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يُسَلِّمَهَا، لِمَا مَضَى فِي ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ قِيمَتَهَا، فَكَأَنَّهُ أَسْلَمَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.

وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ جِنَايَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا.

كتاب الحدود 
باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ

2396- حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟". فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ. فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَا.

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ.

قَالَ مَالِكٌ: مَعْنَى يَحْنِي يُكِبُّ عَلَيْهَا، حَتَّى تَقَعَ الْحِجَارَةُ عَلَيْهِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة الغرَّاء وبيانها على لسان خير الورى، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه طُرَّا، وعلى مَن سار سبيلهم وبمجراهم جرى، وعلى ساداتنا أنبياء الله ورُسله الرَّاقين أعلى الذُّرَى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

يذكر الإمام مالك إذا تصرَّفت أم الولد فجَنَت وجرَحت غيرها أو قتلت غيرها، فما هو الحكم؟ وكيف يكون الأمر فيها؟ وتقدَّم معنا بالباب الذي قبله جراح المُدبَّر. وهكذا، يذكر أم الولد التي قد ولدت لسيِّدها، فتعلَّق عِتقُها بموته؛ بحكم الاستيلاد لمّا أنه أولدها، فإذا جاء منه ولدٌ لها، فهي إذًا مُستَوْلَدة. ويُقال لها: أم الولد، فبمجرد أن يموت سيّدها تصير حُرّة، كما أن ولدها منه حر -ذكرًا كان أو أنثى- يكون ابن أو بنت لسيّدها حُرًّا. قال: "باب مَا جَاءَ فِي جِرَاحِ أُمِّ الْوَلَدِ"،

"قَالَ مَالِكٌ فِي أُمِّ الْوَلَدِ تَجْرَحُ"؛ أي: تعتدي فتجرح شخصًا وتجني عليه "إِنَّ عَقْلَ ذَلِكَ الْجَرْحِ ضَامِنٌ"؛ أي: مضمون. يُقال: سرٌّ كاتم؛ يعني مكتوم. عيشة راضية؛ بمعنى مَرضِيَّة. وضامن؛ يعني مضمون. "عَلَى سَيِّدِهَا فِي مَالِهِ"؛ أي: في مال السيّد، "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَقْلُ ذَلِكَ الْجَرْحِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ"، فالذي يلزمه أن يُسلّم الأقلّ، كم قيمتها، وكم أرش جنايتها؟ فإن كان أرش جنايتها أقل؛ وجب عليه أن يُسلّم الأرش أو الدية لعضوٍ من الأعضاء. وإن كان قيمتها أقلّ من ذلك، والجرح تعدّد وكبر فصار فيه تسليم مال أكثر من قيمتها؛ فليس عليه إلا أن يُسلّم قيمتها فقط. 

قال: "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَقْلُ ذَلِكَ الْجَرْحِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَلَيْسَ حينئذٍ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُخْرِجَ"؛ يعني: يُعطي من ماله "أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا"، فالسيّد يضمن الأقل من قيمتها أو أرش جرحها. وهكذا عليه الأئمة الأربعة كلهم -عليهم رضوان الله-. قال: "وَذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ أَوِ الْوَلِيدَةِ" القنيّن "إِذَا أَسْلَمَ غُلاَمَهُ أَوْ وَلِيدَتَهُ بِجُرْحٍ أَصَابَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ"، أكثر من أن يُسلِم العبد الخالص هذا الذي جرح "وَإِنْ كَثُرَ الْعَقْلُ"؛ أي: زاد العقل عن قيمتهما، فالحاصل الرقيق الخالِص إذا جنى فيُسلِمه السيِّد في الأرش للمجروح، ليس على السيّد  شيء، زائد على ذلك قيمة العبد.

فكذلك هنا، "فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ"؛ أي: لم يقدر "سَيِّدُ أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يُسَلِّمَهَا"، أن يسْلِم أم الولد للمجروح، "لِمَا مَضَى فِي ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ"؛ يعني: سُنّة ماضية معروفة أنّ أمّ الولد لا يُخرجها سيّدها عن ملكه أصلًا بأي سبب من أسباب الإخراج، لا هبة ولا بيع ولا غيرها. وقال: فلا يجوز بيعها ولا التصرّف فيها لأنها صارت أمّ ولد، "فَإِنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ قِيمَتَهَا، فَكَأَنَّهُ أَسْلَمَهَا"، نفسه "فَلَيْسَ عَلَيْهِ"؛ أيّ: على السيّد "أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ"؛ أي أزيد من أن يُعطي قيمتها. قال: "وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ"، أن يؤدي قيمتها لا أكثر في أرش الجناية إذا جَنَت، "وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ" أو يتحمّل "مِنْ جِنَايَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا". فإذا جَنَت مرة أخرى! أيضًا يخرّج قيمتها! فإذا جَنَت مرة ثالثة، كم قيم لها!... فكذلك يتعدّد. وقيل: أنه هي هذه قيمة واحدة يُشارك فيها الأول والثاني والثالث يشتركون في قيمتها، فما عليه أن يُسلّم إلا قيمتها فقط. وقيل: في كل مرة يخرّج أرش الجناية أو قيمتها. ونقول من قال لك أنت تهملها هذه تؤذي خلق الله! أنت امسك جاريتك سواء وأدِّبها، وإلا سَلِّم قيمتها ثاني مرة وثالث مرة! من قال لك!  لماذا تتركها على عباد الله مثل كلب عقور! أمسكها عندك واضبطها، وإذا تركتها فسَلِّم قيمتها في كل مرّة. وهكذا الحكم في جِراح أم الولد. 

 

كتاب الحدود: باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ

 

وانتقل إلى الكلام عن الحدود، فذكر حدّ الزاني المُحصَن، وحكمه في الشَّريعة الغرَّاء، يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ"، وهذا مما جاءت به الشَّرائع من قبل بعثة نبينا صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله، ولكن ذلك راجعٌ إلى:

  •  إمّا إقرار 
  • وإمّا إلى تجاهر، خبيث، ساقط، يجب أن تُطَهَّر المجتمعات عنه

وذلك بأن يشهد أربعة، ولم يُشترط في شيء من الأحكام الشَّهادة فوق اثنين إلا في هذه الجريمة؛  فلا يُقبل إلا شهادة أربعة. فلو شَهِد ثلاثة، عاده بالشهادة كاملة مغلّظة لَرُجِمَ الثلاثة دون مَن قذفوه ومَن شهدوا عليه إلا أن يكونوا أربعة، ولن يكون هذا إلا من سقوط إلى أبعد الحدود، وشأن شنيعٍ في المجتمعات أن يكون هذا العمل الخبيث أمام النَّاس بحيث يشاهدونهم مشاهدةُ فاضحة! -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فهذا يجب أن تُطهَّر منه المجتمعات. 

وجاء من غيرة الله -سبحانه وتعالى- في هذا أن كتب على مَن كان مُحصنًا فيه أن يُرجم، يخرج من أمام النَّاس ومن الحياة إذا وصل إلى هذا الحد. ولهذا قالوا: لم يَقُم الرّجم بالزنا إلا بإقرار في عهده ﷺ وفي عهد الخلفاء الراشدين، وبعدهم وبعدهم، ما ثبت ولا قام حد إلا بإقرار رغبة صاحبه في أن يتطهَّر، وأن ينجو من عذاب الله -تبارك وتعالى- فيُسلِّم نفسه من أجل أن يتخلَّص من العذاب في الآخرة. وهكذا حصل من رجلٍ في عهده ﷺ، اسمه ماعز وأمر برجمه، ولم يسأله عن المرأة التي ارتكب معها الحرام. وحصل من امرأة جاءت فأقرّت، فرَجَمها ولم يسألها ﷺ عن الرجل. وحصل أيضًا من رجل جاء به مستأجره وادّعى عليه أنه وقع على أهله، فأقرَّ عند النَّبي ﷺ وكان غير مُحصن فأمر بجلده وتغريبه عام، وقال: "واغْدُ يا أُنَيْسُ علَى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ" مع أنه أقام الحد على هذا، وإذا لم تعترف المرأة ما يكلّمها، يتركها بينها وبين الله أمرها، ولكن إذا أقرّت "فَارْجُمْهَا". فهذا الذي جاء في عهده ﷺ ثم كذلك في عهد الخلفاء الرَّاشدين لم يثبُت قط رجمٌ إلّا بما كان من إقرارٍ، وطلب الفاعل أن يُطهَّر بإقامة الحد عليه. 

يقول في: "كتاب الحدود: باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ" بالحجارة، فيُسلَّط عليه الرَّجم بالحجارة حتى يموت، وذلك على المُحصن من رجلٍ أو امرأة. 

  • وثبَت ذلك في السُنّة. 
  • وأجمع عليه أصحاب رسول الله ﷺ. 

فهو من المسائل الواضحة المتفق عليها؛ أي أنّه إذا زنى المُحصن عامدًا عالمًا مختارًا؛ فعليه الرَّجم، عليه عامة الصَّحابة وأئمة المؤمنين. وشذَّ من شذَّ من إنكار ذلك من الخوارج وبعض المعتزلة لكونهم لم يقرأوا فيه نصًّا. وقد جاء في صحيح مسلم، يقول ﷺ: "خُذُوا عَنِّي، فقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لهنَّ سَبِيلًا"، وقال: (حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) [النساء:15]. ويقول سبحانه وتعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) [النساء:16]. وفي أول سورة النساء، يقول -جل جلاله وتعالى في علاه-: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) احبسوهنّ في بيوتهم، لا يختلطن بأحد (حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) [النساء:15]، فأنزل السبيل: 

  • إن كانت غير محصنة فالجَلد. 
  • وإن كانت محصنة فالرجم، هذا السبيل. فصار هذا هو الحكم بعد ذلك (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا).

وهكذا خطب سيِّدنا عُمَر بن الخطّاب: وأنّ الله بعث مٌحمَّدًا بالحق وأنزل عليه القرآن، وكان مما أُنزل عليه آية الرجم المنسوخ تلاوتها يعني. ومن الغريب ما جاء ذَكَرَهُ في فتح الباري وغيره، بل ذكره الإمام البُخاري نفسه، يقول عمرو بن ميمون: رأيت في الجاهلية من قبل الإسلام قِرْدَةً اجتمع عليها قِرَدَةٌ، قد زَنَت فرجموها! ذكره الحافظ بن حجر في الفتح، يقول: كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف، فجاء قِردٌ مع قٍردة فتوسَّد يدها، فجاء قِردٌ أصغر منه فغامزها، فسلَّت يدها من تحت رأس القرد الأول سلّاً رفيقًا وتبعته، فوقع عليها وأنا أنظر ثم رجعت، فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق، فاستيقظ فَزِعًا، فشمّها فصاح، فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويومئ إليها بيده، فذهبت القرود يمنة ويسرة، فجاءوا بذلك القرد، قال: أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما. غريب! يقول ابن حجر لمّا ذكر القصة: أطنبتُ في هذا الموضوع لئلا يغترّ ضعيفٌ بكلام الحميدي وغيره ممَن أنكروا القصة، فإنها جاءت كَعِبرة وتذكرة، جعل الله ذلك حتى في فطرة الحيوانات، فكيف بالإنسان!

وذكر ما كان من اليهود أنه لمَّا زنت فيهم المرأة والرجل المُحصَنين، رجوا أن يكون في حكم الإسلام أخف مما عندهم، فعندهم الرَّجم، للمحصَن يُرجَم، فجاءوا إلى النَّبي ﷺ يستفتونه، أو يُحَكِّمونه من أجل أن يتخلّصوا من حكم الرَّجم عندهم، فحكم ﷺ بالرجم، فقالوا: ما عندنا هذا ولا عندنا إلا أن نسخِّم وجوههم وأن نخزيهم وما عندنا. قال: عندكم موجود، "فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ"، فجاءوا بالتوراة، قال: افتحوا، فتحوا إذا آية الرّجم تلوح، وضع يده عليها الذي يقرأ كان عبد الله بن سلام حاضر، قال: أبعِد يدك! وإذا آية الرّجم واضحة تلوح، قالوا: نعم يا مُحمَّد كان عندنا ولكنّا نكاتمه بيننا "فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَا". 

كما قلنا: "فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا"، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النَّبي فإنه بُعث بالتخفيف، فإن أفتانا بـفُـتيا دون الرّجم قبلناها، بالتشهّي! لماذا؟ لأنها كانت من أشراف خيبر والرجل كذلك، فأحبوا لهم طريقة غير الرّجم، فنزل جبريل للنبي ﷺ قال: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا لأجل أن يقرأ ما بالتوراة. فهؤلاء كانوا من قبل، أساقفة اليهود وكذلك النصارى إذا أتوا إلى حاكم المسلمين ليحكم بينهم، يكون برضاهم؛ برضا الاثنين. وفي الآيات عندنا بيان منه ﷺ قوله: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [المائدة:43]، يقول -جل جلاله-: (فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة:42].

"فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟". فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ". عبد الله بن سلام كان عالم من علماء اليهود فصار من المؤمنين، من خيار الصّحابة -عليه رضوان الله- وممَن شهد له رسول الله ﷺ بالجنة. قال لهم: "كَذَبْتُمْ"؛ يعني معشر اليهود، "إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ. فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ"؛ يكذبون. "فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي"، وفي رواية: يُجَانِي "عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ"؛ يعني: يَقِيهَا الْحِجَارَةَ. والحديث أيضًا جاء عندنا في الصّحيحين وغيرهما، "قَالَ مَالِكٌ: مَعْنَى يَحْنِي يُكِبُّ عَلَيْهَا، حَتَّى تَقَعَ الْحِجَارَةُ عَلَيْهِ". والله أعلم. 

رزقنا الإيمان واليقين والإخلاص والصِّدق، ونقّانا من الشوائب والآفات والمعايب، ورزقنا حقيقة تقواه والإنابة إليه وخشيته، والاستقامة على ما يحب وفيمَن يحب في عافية وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

02 ربيع الثاني 1444

تاريخ النشر الميلادي

27 أكتوبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام