(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب المُكاتَب: باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنْ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ، و باب جَامِع مَا جَاءَ فِي عِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، وباب الْوَصِيَّةِ فِي الْمُكَاتَبِ.
فجر الأحد 29 صفر 1444هـ.
باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنْ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ
2358- قَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ الْقَوْمُ جَمِيعاً فِي كِتَابَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يُعْتِقْ سَيِّدُهُمْ أَحَداً مِنْهُمْ دُونَ مُؤَامَرَةِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَرِضاً مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا صِغَاراً، فَلَيْسَ مُؤَامَرَتُهُمْ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا كَانَ يَسْعَى عَلَى جَمِيعِ الْقَوْمِ وَيُؤَدِّي عَنْهُمْ كِتَابَتَهُمْ لِتَتِمَّ بِهِ عَتَاقَتُهُمْ، فَيَعْمِدُ السَّيِّدُ إِلَى الَّذِي يُؤَدِّي عَنْهُمْ، وَبِهِ نَجَاتُهُمْ مِنَ الرِّقِّ، فَيُعْتِقُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَجْزاً لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْفَضْلَ وَالزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَقِىَ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ". وَهَذَا أَشَدُّ الضَّرَرِ.
2359- قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبِيدِ يُكَاتَبُونَ جَمِيعاً: إِنَّ لِسَيِّدِهِمْ أَنْ يُعْتِقَ مِنْهُمُ الْكَبِيرَ الْفَانِيَ وَالصَّغِيرَ الَّذِي لاَ يُؤَدِّي وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئاً، وَلَيْسَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوْنٌ وَلاَ قُوَّةٌ فِي كِتَابَتِهِمْ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ.
باب جَامِع مَا جَاءَ فِي عِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَأُمِّ وَلَدِهِ
2360- قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ، ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ أُمَّ وَلَدِهِ، وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ بَقِيَّةٌ، وَيَتْرُكُ وَفَاءً بِمَا عَلَيْهِ: إِنَّ أُمَّ وَلَدِهِ أَمَةٌ مَمْلُوكَةٌ حِينَ لَمْ يُعْتَقِ الْمُكَاتَبُ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَداً فَيُعْتَقُونَ بِأَدَاءِ مَا بَقِيَ، فَتُعْتَقُ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ بِعِتْقِهِمْ.
2361- قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُ عَبْداً لَهُ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِبَعْضِ مَالِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ سَيِّدُهُ حَتَّى عَتَقَ الْمُكَاتَبُ. قَالَ مَالِكٌ: يَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، فَإِنْ عَلِمَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتَبُ، فَرَدَّ ذَلِكَ وَلَمْ يُجِزْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، وَذَلِكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، وَلاَ أَنْ يُخْرِجَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، إِلاَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ طَائِعاً مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ.
باب الْوَصِيَّةِ فِي الْمُكَاتَبِ
2362- قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُهُ سَيِّدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُقَامُ عَلَى هَيْئَتِهِ تِلْكَ، الَّتِي لَوْ بِيعَ كَانَ ذَلِكَ الثَّمَنَ الَّذِي يَبْلُغُ، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ وُضِعَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يُنْظَرْ إِلَى عَدَدِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ لَمْ يَغْرَمْ قَاتِلُهُ إِلاَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ قَتْلِهِ، وَلَوْ جُرِحَ لَمْ يَغْرَمْ جَارِحُهُ إِلاَّ دِيَةَ جَرْحِهِ يَوْمَ جَرَحَهُ، وَلاَ يُنْظَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، لأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يُحْسَبْ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ إِلاَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ لَهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، فَصَارَتْ وَصِيَّةً أَوْصَى بِهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ كِتَابَتِهِ إِلاَّ مِئَةُ دِرْهَمٍ، فَأَوْصَى سَيِّدُهُ لَهُ بِالْمِئَةِ دِرْهَمٍ الَّتِى بَقِيَتْ عَلَيْهِ، حُسِبَتْ لَهُ فِي ثُلُثِ سَيِّدِهِ، فَصَارَ حُرًّا بِهَا.
2363- قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، إِنَّهُ يُقَوَّمُ عَبْداً، فَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِهِ سَعَةٌ لِثَمَنِ الْعَبْدِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.
قَالَ مَالِك: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِينَارٍ، فَيُكَاتِبُهُ سَيِّدُهُ عَلَى مِئَتَىْ دِينَارٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَكُونُ ثُلُثُ مَالِ سَيِّدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ أَوْصَى لَهُ بِهَا فِي ثُلُثِهِ، فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَوْصَى لِقَوْمٍ بِوَصَايَا، وَلَيْسَ فِي الثُّلُثِ فَضْلٌ عَنْ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ، بُدِئَ بِالْمُكَاتَبِ لأَنَّ الْكِتَابَةَ عَتَاقَةٌ، وَالْعَتَاقَةُ تُبَدَّأُ عَلَى الْوَصَايَا، ثُمَّ تُجْعَلُ تِلْكَ الْوَصَايَا فِي كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، يَتْبَعُونَهُ بِهَا، وَيُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمُوصِي، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يُعْطُوا أَهْلَ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ كَامِلَةً، وَتَكُونُ كِتَابَةُ الْمُكَاتَبِ لَهُمْ فَذَلِكَ لَهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا وَأَسْلَمُوا الْمُكَاتَبَ وَمَا عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا فَذَلِكَ لَهُمْ، لأَنَّ الثُّلُثَ صَارَ فِي الْمُكَاتَبِ، وَلأَنَّ كُلَّ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا أَحَدٌ، فَقَالَ الْوَرَثَةُ: الَّذِي أَوْصَى بِهِ صَاحِبُنَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَقَدْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ. قَالَ: فَإِنَّ وَرَثَتُهُ يُخَيَّرُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ أَوْصَى صَاحِبُكُمْ بِمَا قَدْ عَلِمْتُمْ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تُنَفِّذُوا ذَلِكَ لأَهْلِهِ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، وَإِلاَّ فَأَسْلِمُوا أَهْلَ الْوَصَايَا ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ كُلَّهِ.
قَالَ: فَإِنْ أَسْلَمَ الْوَرَثَةُ الْمُكَاتَبَ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا، كَانَ لأَهْلِ الْوَصَايَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، أَخَذُوا ذَلِكَ فِي وَصَايَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، كَانَ عَبْداً لأَهْلِ الْوَصَايَا، لاَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ، لأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ حِينَ خُيِّرُوا، وَلأَنَّ أَهْلَ الْوَصَايَا حِينَ أُسْلِمَ إِلَيْهِمْ ضَمِنُوهُ، فَلَوْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى الْوَرَثَةِ شَيْءٌ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كِتَابَتَهُ، وَتَرَكَ مَالاً هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ، فَمَالُهُ لأَهْلِ الْوَصَايَا، وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ مَا عَلَيْهِ عَتَقَ، وَرَجَعَ وَلاَؤُهُ إِلَى عَصَبَةِ الَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ.
2364- قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَيَضَعُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. قَالَ مَالِكٌ: يُقَوَّمُ الْمُكَاتَبُ فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَالَّذِي وُضِعَ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ، وَذَلِكَ فِي الْقِيمَةِ مِيئَةُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ عُشْرُ الْقِيمَةِ، فَيُوضَعُ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ إِلَى عُشْرِ الْقِيمَةِ نَقْداً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَهَيْئَتِهِ لَوْ وُضِعَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُحْسَبْ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، إِلاَّ قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وُضِعَ عَنْهُ نِصْفُ الْكِتَابَةِ حُسِبَ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ.
2365- قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَنْ مُكَاتَبِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ عَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يُسَمِّ أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ كِتَابَتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا، وُضِعَ عَنْهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ عُشْرُهُ.
2366- قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَنْ مُكَاتَبِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ أَوَّلِ كِتَابَتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا، وَكَانَ أَصْلُ الْكِتَابَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، قُوِّمَ الْمُكَاتَبُ قِيمَةَ النَّقْدِ، ثُمَّ قُسِمَتْ تِلْكَ الْقِيمَةُ فَجُعِلَ لِتِلْكَ الأَلْفِ الَّتِي مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابَةِ حِصَّتُهَا مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ، بِقَدْرِ قُرْبِهَا مِنَ الأَجَلِ وَفَضْلِهَا، ثُمَّ الأَلْفُ الَّتِي تَلِي الأَلْفَ الأُولَى بِقَدْرِ فَضْلِهَا أَيْضاً، ثُمَّ الأَلْفُ الَّتِي تَلِيهَا بِقَدْرِ فَضْلِهَا أَيْضاً، حَتَّى يُؤْتَى عَلَى آخِرِهَا، تَفْضُلُ كُلُّ أَلْفٍ بِقَدْرِ مَوْضِعِهَا فِي تَعْجِيلِ الأَجَلِ وَتَأْخِيرِهِ، لأَنَّ مَا اسْتَأْخَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَقَلَّ فِي الْقِيمَةِ، ثُمَّ يُوضَعُ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ قَدْرُ مَا أَصَابَ تِلْكَ الأَلْفَ مِنَ الْقِيمَةِ، عَلَى تَفَاضُلِ ذَلِكَ، إِنْ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ.
2367- قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبُعِ مُكَاتَبٍ لَهُ، وأَعْتَقَ رُبُعَهُ فَهَلَكَ الرَّجُلُ، ثُمَّ هَلَكَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالاً كَثِيراً، أَكْثَرَ مِمَّا بَقِىَ عَلَيْهِ. قَالَ مَالِكٌ: يُعْطَي وَرَثَةُ السَّيِّدِ وَالَّذِي أَوْصَى لَهُ بِرُبُعِ الْمُكَاتَبِ مَا بَقِيَ لَهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ مَا فَضَلَ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ الْمُكَاتَبِ ثُلُثُ مَا فَضَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ، وَلِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ الثُّلُثَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّمَا يُورَثُ بِالرِّقِّ.
2368- قَالَ مَالِكٌ فِي مُكَاتَبٍ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ: إِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ ثُلُثُ الْمَيِّتِ، عَتَقَ مِنْهُ قَدْرُ مَا حَمَلَ الثُّلُثُ، وَيُوضَعُ عَنْهُ مِنَ الْكِتَابَةِ قَدْرُ ذَلِكَ، إِنْ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ نَقْداً، وَيَكُونُ ثُلُثُ الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، عَتَقَ نِصْفُهُ، وَيُوضَعُ عَنْهُ شَطْرُ الْكِتَابَةِ.
2369- قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: غُلاَمِي فُلاَنٌ حُرٌّ، وَكَاتِبُوا فُلاَناً: تُبَدَّأُ الْعَتَاقَةُ عَلَى الْكِتَابَةِ.
الحمد لله مُكْرِمنا بالشريعة وبيانها على لسان عبده مُحمَّدٍ ذي المراتب الرَّفيعة، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل اتباعه والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله، وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين.
وقد قلنا أطال الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- فيما يتعلَّق بأحكام المُكاتب، وقلنا أنه كان يُحتاج إلى هذه المسائل لكثرة ما يحصل من المُكاتبة وغيرها في زمانهم، وقلّ ذلك في زماننا أو عدِم.
"باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنْ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ"، يقول الإمام مَالِكٌ: "إِذَا كَانَ الْقَوْمُ"؛ يعني: المكاتبون "جَمِيعاً فِي كِتَابَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يُعْتِقْ سَيِّدُهُمْ أَحَداً مِنْهُمْ دُونَ مُؤَامَرَةِ"؛ يعني: مشاورة واستئذان "أَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ" وهذا مبني على مذهبه أنهم حُمَلاء لبعضهم البعض وضُمَناء، وأنه لا يعتق واحد منهم إلا بعتق الجميع وأنه يعتق الجميع أو يبقى الجميع أرقاء. فعلى مذهبه هذا قال: إذا أراد سيِّده أن يعتق واحدًا منهم، فليس له ذلك، فإنهم ينتفعون بوجوده بينهم ليساعدهم على السعي في تحصيل المال للكتابة ونجوم الكتابة، ويؤدونها إليه فيعتقون.
فإذا أعتق واحدًا منهم، ربما كان هو الذي سعيه أكثر ويُحَصِّل من المال أكثر منهم، فيساعدهم على أن يعتقوا. فإذا حكمنا بعتق هذا، انقطع عنهم وصاروا هم في عجز عن أن يؤدوا ما عليهم، فصار في ذلك ضرر عليهم فهذا على مذهب مالك. وعلِمت أنه عند الإمام الشَّافعي والإمام أبي حنيفة، فكل واحد منهم مستقل وإن كاتبهم بعقد واحد، فيمكن أن يعتق أي واحد منهم، ويمكن لكل واحد منهم أدى حصته ونصيبه في الكتابة يكون حرًا أو معتَقًا، ويبقى الآخرون كل على حسابه وعلى حسبه، لكن مذهب الإمام مالك إنما عِتق واحد أو رِق واحد للجميع لأنهم كُوتبوا بعقد مكاتبة واحدة.
يقول: "إِذَا كَانَ الْقَوْمُ جَمِيعاً فِي كِتَابَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يُعْتِقْ سَيِّدُهُمْ أَحَداً مِنْهُمْ دُونَ مُؤَامَرَةِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَرِضاً مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا صِغَاراً، فَلَيْسَ مُؤَامَرَتُهُمْ بِشَيْءٍ"، ما تعتبر "وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ"؛ أي: مؤامرتهم لأنهم صبيان، لا يزال قولهم لاغٍ، ما يصح أن يُعتبر، فلذلك لا يصح في مذهب مالك أن يعتق الكبير هذا حتى يساعد هؤلاء الصبيان في السعي لتحصيل نجوم الكتابة.
"قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا كَانَ يَسْعَى عَلَى جَمِيعِ الْقَوْمِ وَيُؤَدِّي عَنْهُمْ كِتَابَتَهُمْ لِتَتِمَّ بِهِ عَتَاقَتُهُمْ" كلُّهم، "فَيَعْمِدُ هذا السَّيِّدُ إِلَى الَّذِي" كان يسعى عليهم "يُؤَدِّي عَنْهُمْ"، بدل كتابة "وَبِهِ نَجَاتُهُمْ مِنَ الرِّقِّ، فَيُعْتِقُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَجْزاً لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ"؛ أي: سبب عجز الباقيين، "وَإِنَّمَا" قال "أَرَادَ" السيِّد "بِذَلِكَ الْفَضْلَ وَالزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ"، من أجل أن يبقوا أرِقَّاء معه هؤلاء ويعجزون عن أداء الكتابة، فلاحظ ذلك الإمام مالك وحكم عليه بعدم جواز العتق حتى يعتقوا جميعًا. قال: "فَيَكُونُ ذَلِكَ"؛ يعني عتق السيِّد "عَجْزاً لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ"؛ أي: سبب عجزهم "وَإِنَّمَا أَرَادَ"؛ يعني: سيِّدهم "بِذَلِكَ الْفَضْلَ وَالزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَقِىَ مِنْهُمْ"، بل هذا العتق مردود في مذهب مالك. "وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ". وَهَذَا" يقول عن استرقاقهم بعد الكتابة: "أَشَدُّ الضَّرَرِ".
وبعد ذلك يقول "فِي الْعَبِيدِ يُكَاتَبُونَ جَمِيعاً: إِنَّ لِسَيِّدِهِمْ أَنْ يُعْتِقَ مِنْهُمُ الْكَبِيرَ الْفَانِيَ وَالصَّغِيرَ الَّذِي لاَ يُؤَدِّي وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئاً، وَلَيْسَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوْنٌ وَلاَ قُوَّةٌ فِي كِتَابَتِهِمْ"، فرَّقَ بين مَن يسعى وبين مَن لا يستطيع السَّعي، من الكبير الفاني والصغير الذي لا يقدر على السَّعي. فيعتق "الْكَبِيرَ الْفَانِيَ" الذي لا يقدر على السَّعي "وَالصَّغِيرَ الَّذِي لاَ يُؤَدِّي وَاحِدٌ مِنْهُمَا"؛ يعني: هذا الصغير وهذا الكبير "شَيْئاً"؛ يعني: إن أبقى معهم حملًا عليهم، وتعب عليهم أكثر، فلما يخلصه من العتق ينقص عليهم تحصيل القيمة، فهم يستطيعون أن يتحركوا من دون هذا الشيخ الفاني والصغير الذي لا يستطيع السَّعي، فعنده ينفذ عتقه في هذين. قال: "وَلَيْسَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوْنٌ وَلاَ قُوَّةٌ فِي كِتَابَتِهِمْ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ"؛ يعني: بغير رضاهم لأنه حينئذ لا ضرر عليهم؛ فيصح العتق.
ثم ذكر: "باب جَامِع مَا جَاءَ فِي عِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَأُمِّ وَلَدِهِ"، "قَالَ مَالِكٌ -رحمه الله- فِي الرَّجُلِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ، ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ أُمَّ وَلَدِهِ"؛ يعني: كان قد ملك أيام كتابته واستأذن سيِّده، فوطئ الجارية التي ملكها فصارت له أم ولد. قال: "وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ بَقِيَّةٌ، وَيَتْرُكُ" هذا؛ يعني عاد ما أدى بعض الكتابة، ويترك "وَفَاءً بِمَا عَلَيْهِ"؛ يعني: يترك مال يكفي لأداء بقية الكتابة. فقال مالك: "إِنَّ أُمَّ وَلَدِهِ أَمَةٌ مَمْلُوكَةٌ"؛ يعني: لسيد المُكاتَب "حِينَ لَمْ يُعْتَقِ الْمُكَاتَبُ حَتَّى مَاتَ"، فلو كان قد أدى الذي عليه قبل ذلك، وعتق؛ فتصير أم الولد هذه ملكًا له؛ لهذا المكاتب؛ وتصير إرثًا لمَن يرثه بعد ذلك. قال: "حِينَ لَمْ يُعْتَقِ الْمُكَاتَبُ حَتَّى مَاتَ"، وحين "وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَداً فَيُعْتَقُونَ بِأَدَاءِ مَا بَقِيَ" على أبيهم، "فَتُعْتَقُ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ أيضًا بِعِتْقِهِمْ"؛ أي: بسبب عتقهم تبعًا له.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُ عَبْداً لَهُ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِبَعْضِ مَالِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ سَيِّدُهُ" ما أعلمه بذلك "حَتَّى عَتَقَ الْمُكَاتَبُ. قَالَ مَالِكٌ: يَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِ"؛ يعني: يكون العتق والتصدُّق نافذًا على المُكاتَب، "وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ"؛ في عتقه ولا في تصدُّقه. "فَإِنْ عَلِمَ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ"، عتق مكاتبه أنه أعتق أحد ممَن يملكهم أو تصدَّق "قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتَبُ، فَرَدَّ ذَلِكَ" العتق؛ يعني عليه "وَلَمْ يُجِزْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ" بعد ذلك، "وَذَلِكَ فِي يَدِهِ"؛ يعني: في يد المكاتب لا يزال لم يسلّم، "لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ" لا يجب عليه "أَنْ يُعْتِقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ" مرة أخرى، "وَلاَ أَنْ يُخْرِجَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ" لأن رد السيِّد إياهما أولًا إبطال لفعله، فكأنه لم يعتق ولا تصدق به أولًا، "إِلاَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ" هو من عنده "طَائِعاً مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ" مرةً أخرى، إنه مُختار لأنه لمَّا علِم سيِّده بهذا العتق أو بهذه الصَّدقة؛ ردها، فرجعت. فإذا أدى ما عليه وعتق، وهذا عاده عنده ذلك في يده.
يقول الإمام مالك: لأنه ما دام قد رده عليك السيِّد فأنت الآن لك الخيار، إما أن تعتق برضًا منك وإلا هو مملوك لك، وإما أن تُنفذ الصدقة ولك الأجر، وإلا فقد ردها عليك السيِّد لمّا كنت قبل عتقك في ذمته، فردّ ذلك منك لأنه ليس للمكاتب أن يعتق أحد من عبيده ولا يتصدق بشيء إلا برضا سيِّده، وهذا فيه إضرار به في أداؤه مبطل.
قال: هكذا يكون المُكاتب، يكون محجور عليه في ماله، فليس له استهلاكه ولا هبته، وهكذا يقول الإمام مالك، والإمام الشَّافعي، والإمام أبو حنيفة لأنه ليس له حق التصرف. لكن هذا يذكر الإمام مالك، إذا حصل منه التصرف ولم يعلم بذلك السيٍّد حتى عتق ذلك المُكاتب، فينفذ عليه ما كان تصرَّف فيه وليس له حق أن يرجع. لكن لو علم السيِّد قبل أن يعتق هذا وردّه؛ رجع. وأمّا هو بنفسه، إذا تصرف ولم يعلم السيِّد حتى كمّل عتاقته وعتق، قال: الآن يرجع هذا. قال: لأن عتقته هذا، وأنا مُكاتب. قال له مالك: مَن قال لك تعتقه وأنت مكاتب خلاص الآن قد نفذ عليك. أما لو رجعه السيِّد؛ نعم. أما ما دام ما رجعه السيِّد لأن قد تم عتقه؛ فلا حق لك أن تعيده إلى ملكك، والصدقة قد نفذت ولا يجز لك أن تستردها من أربابها لأنك لم تُعلم السيِّد بذلك، ولم يَردُّه حتى تمت عتاقتك.
"قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُهُ سَيِّدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ"؛ يعني إذا أوصى رجل في باب المكاتب من عتقه أو كتابته أو وضع شيء منها، ما هو الحكم؟ قال: "أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُقَامُ"؛ يعني: يقوَّم "عَلَى هَيْئَتِهِ تِلْكَ"، يعتبر قيمة ذلك اليوم "الَّتِي لَوْ بِيعَ" فيها المكاتب ذلك اليوم "كَانَ ذَلِكَ الثَّمَنَ الَّذِي يَبْلُغُ"، ثم يُنظَر "فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ" التي قُوِّم بها اليوم "أَقَلَّ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ وُضِعَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يُنْظَرْ إِلَى عَدَدِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ"؛ يعني: على المُكاتب من مال الكتابة، لماذا؟ قال: "وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ"؛ يعني: المُكاتب "لَمْ يَغْرَمْ قَاتِلُهُ إِلاَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ قَتْلِهِ"، وكذلك "وَلَوْ جُرِحَ" فالغرامة "لَمْ يَغْرَمْ جَارِحُهُ إِلاَّ دِيَةَ جَرْحِهِ يَوْمَ جَرَحَهُ"، "وَلاَ يُنْظَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ"؛ يعني: في دية القتل أو الجُرح إِلَى مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ"، بل القيمة هي التي تنفذ. فلمَّا كان الأمر كذلك قال: في الحكم أنه يُنظر إلى قيمته يوم كان من سيِّده التصرف فيه، يوم عتقه، ويُنظر هل هو من الثلث أو أكثر من الثلث؟ قال: "وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يُحْسَبْ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ إِلاَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ لَهُ"، الذي أعتقه في مرض موته "مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، فَصَارَتْ وَصِيَّةً أَوْصَى" له "بِهَا".
يقول الإمام مَالِكٌ: "وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ" مثلاً "أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ كِتَابَتِهِ إِلاَّ مِئَةُ دِرْهَمٍ، فَأَوْصَى سَيِّدُهُ لَهُ بِالْمِئَةِ دِرْهَمٍ الَّتِى بَقِيَتْ عَلَيْهِ، حُسِبَتْ لَهُ فِي ثُلُثِ سَيِّدِهِ، فَصَارَ حُرًّا بِهَا". وهكذا، إذا كاتب عبدًا في صحته ثم أعتقه في مرض موته، أو أبرأه من مال الكتابة، فإن كان يخرج من الثلث الأقل من قيمته أو مال كتابته؛ عتق. اعتبرنا الأقل لأن قيمته إن كانت أقل؛ فهي قيمة ما أُطلق بالإعتاق. وإن كان عوض الكتابة أقل؛ اعتبرناه لأنه يُعتق بأدائه، ولا يستحق السيِّد شيء سوى ذلك.
"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، إِنَّهُ يُقَوَّمُ عَبْداً، فَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِهِ سَعَةٌ لِثَمَنِ الْعَبْدِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ". لما صار مريض مرض الموت قام الآن يكاتِب، أين من أول لماذا ما أعتقت وكاتبت وعادك صحيح؟ لمّا حسيت بالموت الآن قرب قمت تكاتب؟ خلاص قد تعلق به حق الورثة!.. "يُقَوَّمُ" هذا العبد. فإن كان ثلث مال السيِّد "سَعَةٌ لِثَمَنِ الْعَبْدِ"؛ يعني: يخرج ثمن العبد من الثلث؛ جاز له؛ أنفذنا هذا العتق وصح لأنه حق التصرف بالثلث. ومادام قيمة العبد ما تزيد على ثلث ماله؛ صحت المكاتبة، وإن كان في مرض الموت. فهكذا يقول الإمام مالك: كتابة المريض مرض الموت عنده في الثلث توّقف حيث يصح فتجوز أو يموت فتكون من الثلث كالعتق.
"قَالَ مَالِك: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِينَارٍ، فَيُكَاتِبُهُ سَيِّدُهُ عَلَى مِئَتَىْ دِينَارٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَكُونُ ثُلُثُ مَالِ سَيِّدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ"؛ يعني: قيمة العبد "فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ أَوْصَى لَهُ بِهَا فِي ثُلُثِهِ، فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَوْصَى لِقَوْمٍ بِوَصَايَا، وَلَيْسَ فِي الثُّلُثِ فَضْلٌ عَنْ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ، بُدِئَ بِالْمُكَاتَبِ لأَنَّ الْكِتَابَةَ عَتَاقَةٌ، وَالْعَتَاقَةُ تُبَدَّأُ عَلَى الْوَصَايَا"، جئنا نحسب الثلث، نقول: لو كان فقط الكتابة وحدها لوسعها الثلث لكن عاده وصى لفلان بكذا، وصى بكذا قل خل وصاياه لأن الآن أمامنا عتق رقبة فتُقدّم على بقية الوصايا، فتقدّم من الثلث. هكذا "تُبَدَّأُ عَلَى الْوَصَايَا، ثُمَّ تُجْعَلُ تِلْكَ الْوَصَايَا فِي كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، يَتْبَعُونَهُ بِهَا"؛ يعني: تنفذ الكتابة أولًا ثم تؤدى تلك الوصايا الأُخَرْ من بدل الكتابة يتبعونه بها؛ أي: يتبعون الوصايا المكاتب ببدل الكتابة.
"وَيُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمُوصِي، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يُعْطُوا أَهْلَ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ كَامِلَةً"، من عندهم وجزاهم الله خير، وهذا أفضل، "وَتَكُونُ كِتَابَةُ الْمُكَاتَبِ لَهُمْ فَذَلِكَ لَهُمْ"، الورثة خاصة المائتين هذه فذلك لهم، "وَإِنْ أَبَوْا وَأَسْلَمُوا الْمُكَاتَبَ وَمَا عَلَيْهِ -المكاتب- إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا فَذَلِكَ" أيضًا "لَهُمْ"، فيتبعون أهل الوصايا هذا المكاتب. قال: هذا الذي كاتبك عليه السيِّد لنا وصايا منه "لأَنَّ الثُّلُثَ صَارَ فِي الْمُكَاتَبِ، وَلأَنَّ كُلَّ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا أَحَدٌ، فَقَالَ الْوَرَثَةُ: الَّذِي أَوْصَى بِهِ صَاحِبُنَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَقَدْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ. وَلأَنَّ كُلَّ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا أَحَدٌ".
"قَالَ: فَقَالَ الْوَرَثَةُ: الَّذِي أَوْصَى بِهِ صَاحِبُنَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَقَدْ أَخَذَ" المورث "مَا لَيْسَ لَهُ". حق لوصيته؛ يعني لوصيته بأكثر من ثلثه. قال: "فَإِنَّ وَرَثَتُهُ يُخَيَّرُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ أَوْصَى صَاحِبُكُمْ بِمَا قَدْ عَلِمْتُمْ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تُنَفِّذُوا ذَلِكَ لأَهْلِهِ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، وَإِلاَّ فَأَسْلِمُوا أَهْلَ الْوَصَايَا ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ كُلَّهِ" فقط وهم يتقاسمون بينهم؛ يعني: إذا أوصى الميت بأكثر من الثلث فما زاد على الثلث يكون برضى الورثة. إن رضوا؛ نفذ. إن لم يرضوا؛ يخرج الثلث، وهم يتقاسمون بينهم على حسب حصصهم فيما أوصى لهم، يقصر على كل واحد نصيب.
"قَالَ: فَإِنْ أَسْلَمَ الْوَرَثَةُ الْمُكَاتَبَ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا"، قالوا: خذوه، نحن أخذنا تركة الميت، وهذا الكتابة في رقبته باقي عليه كذا وكذا خذوها منه. "كَانَ لأَهْلِ الْوَصَايَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، أَخَذُوا ذَلِكَ فِي وَصَايَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، كَانَ عَبْداً لأَهْلِ الْوَصَايَا"، لا حول ولا قوة إلا بالله، "لاَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ، لأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ حِينَ خُيِّرُوا، وَلأَنَّ أَهْلَ الْوَصَايَا حِينَ أُسْلِمَ إِلَيْهِمْ ضَمِنُوهُ، فَلَوْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى الْوَرَثَةِ شَيْءٌ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كِتَابَتَهُ، وَتَرَكَ مَالاً هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ، فَمَالُهُ لأَهْلِ الْوَصَايَا"؛ لأنهم قد سلّموا لهم، "وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ مَا عَلَيْهِ عَتَقَ، وَرَجَعَ وَلاَؤُهُ إِلَى عَصَبَةِ الَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ" سيِّده.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَيَضَعُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. قَالَ مَالِكٌ: يُقَوَّمُ الْمُكَاتَبُ فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَالَّذِي وُضِعَ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ"، لماذا؟ لأنه هو كاتبه بعشر آلاف ثم وضع عنه ألف، فالألف عُشْر العشر الألف، نقوّم المكاتب فينظر كم قيمته؟ إن كانت قيمته مثلًا ألف هو كل قيمته ألف، فالذي وضع عنه هو عشر الكتابة "وَذَلِكَ فِي الْقِيمَةِ مِيئَةُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ عُشْرُ الْقِيمَةِ، فَيُوضَعُ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ إِلَى عُشْرِ الْقِيمَةِ نَقْداً"، يقوّم هذا المكاتب فينظر كم قيمته؟ إن كانت قيمته ألف مثلًا فالذي وضع السيِّد عنه عشر الكتابة لأنه وضع عنه ألف "وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَهَيْئَتِهِ لَوْ وُضِعَ عَنْهُ" في القيمة؛ أي قيمة هذه الألف مئة درهم؛ يعني بمنزلة المئة، والمئة "عُشْرُ الْقِيمَةِ، فَيُوضَعُ عَنْهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ"؛ يعني: إذا وضع عنه عشر الكتابة "فَيَصِيرُ ذَلِكَ إِلَى عُشْرِ الْقِيمَةِ نَقْداً"؛ يعني: يصير كأنه وضع عنه عشر القيمة لأن العبرة للقيمة لا بدل الكتابة، "نَقْداً"؛ أي: قيمة النقد القيمة التي تحصل في الحال. يقول: "وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَهَيْئَتِهِ"؛ يعني: هذا الحكم "لَوْ وُضِعَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُحْسَبْ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، إِلاَّ قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ"؛ لأن هذا الذي يستحق به العتاقة فقط الألف، "وَإِنْ كَانَ الَّذِي وُضِعَ عَنْهُ نِصْفُ الْكِتَابَةِ حُسِبَ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ".
"قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَنْ مُكَاتَبِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ عَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يُسَمِّ أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ كِتَابَتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا، وُضِعَ عَنْهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ عُشْرُهُ".
وهكذا يقول مَالِكٌ: "وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَنْ مُكَاتَبِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ أَوَّلِ كِتَابَتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهَا، وَكَانَ أَصْلُ الْكِتَابَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، قُوِّمَ الْمُكَاتَبُ قِيمَةَ النَّقْدِ، ثُمَّ قُسِمَتْ تِلْكَ الْقِيمَةُ فَجُعِلَ لِتِلْكَ الأَلْفِ الَّتِي مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابَةِ حِصَّتُهَا مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ، بِقَدْرِ قُرْبِهَا مِنَ الأَجَلِ وَفَضْلِهَا، ثُمَّ الأَلْفُ الَّتِي تَلِي الأَلْفَ الأُولَى بِقَدْرِ فَضْلِهَا أَيْضاً، ثُمَّ الأَلْفُ الَّتِي تَلِيهَا بِقَدْرِ فَضْلِهَا أَيْضاً، حَتَّى يُؤْتَى عَلَى آخِرِهَا، تَفْضُلُ كُلُّ أَلْفٍ بِقَدْرِ مَوْضِعِهَا فِي تَعْجِيلِ الأَجَلِ وَتَأْخِيرِهِ، لأَنَّ مَا اسْتَأْخَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَقَلَّ فِي الْقِيمَةِ، ثُمَّ يُوضَعُ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ قَدْرُ مَا أَصَابَ تِلْكَ الأَلْفَ مِنَ الْقِيمَةِ، عَلَى تَفَاضُلِ ذَلِكَ، إِنْ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ" إلى آخر ما فرّع الإمام -عليه رضوان الله تعالى-، نقف على المُدَّبَر.
جعلنا الله من عتقائه من النَّار ومن العار ومن كل سوء، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين، ويرقينا أعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
20 ربيع الأول 1444