(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب المُكاتَب، باب الشَّرْطِ فِي الْمُكَاتَبِ، وباب وَلاَءِ الْمُكَاتَبِ إِذَا أعتقَ.
فجر السبت 28 صفر 1444هـ.
باب الشَّرْطِ فِي الْمُكَاتَبِ
2348 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ فِي رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ سَفَراً أَوْ خِدْمَةً أَوْ ضَحِيَّةً: إِنَّ كُلَّ شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَمَّي بِاسْمِهِ، ثُمَّ قَوِيَ الْمُكاتَبُ عَلَى أَدَاءِ نُجُومِهِ كُلِّهَا قَبْلَ مَحِلِّهَا. قَالَ: إِذَا أَدَّى نُجُومَهُ كُلَّهَا، وَعَلَيْهِ هَذَا الشَّرْطُ عَتَقَ فَتَمَّتْ حُرْمَتُهُ، وَنُظِرَ إِلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِمَّا يُعَالِجُهُ هُوَ بِنَفْسِهِ، فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ عَنْهُ، لَيْسَ لِسَيِّدِهِ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا كَانَ مِنْ ضَحِيَّةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ شَيْءٍ يُؤَدِّيهِ، فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، يُقَوَّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُهُ مَعَ نُجُومِهِ، وَلاَ يَعْتِقُ حَتَّى يَدْفَعَ ذَلِكَ مَعَ نُجُومِهِ.
2349 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ، أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَ خِدْمَةِ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِذَا هَلَكَ سَيِّدُهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَتِهِ لِوَرَثَتِهِ، وَكَانَ وَلاَؤُهُ لِلَّذِي عَقَدَ عِتْقَهُ, وَلِوَلَدِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الْعَصَبَةِ.
2350 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِطُ عَلَى مُكَاتَبِهِ أَنَّكَ لاَ تُسَافِرُ وَلاَ تَنْكِحُ وَلاَ تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِي إِلاَّ بِإِذْنِى، فَإِنْ فَعَلْتَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَمَحْوُ كِتَابَتِكَ بِيَدِى. قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ مَحْوُ كِتَابَتِهِ بِيَدِهِ إِنْ فَعَلَ الْمُكَاتَبُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَلْيَرْفَعْ سَيِّدُهُ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَنْكِحَ وَلاَ يُسَافِرَ وَلاَ يَخْرُجَ مِنْ أَرْضِ سَيِّدِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، اشْتَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَنْطَلِقُ فَيَنْكِحُ الْمَرْأَةَ، فَيُصْدِقُهَا الصَّدَاقَ الَّذِي يُجْحِفُ بِمَالِهِ، وَيَكُونُ فِيهِ عَجْزُهُ، فَيَرْجِعُ إِلَى سَيِّدِهِ عَبْداً لاَ مَالَ لَهُ، أَوْ يُسَافِرُ فَتَحِلُّ نُجُومُهُ وَهُوَ غَائِبٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَلاَ عَلَى ذَلِكَ كَاتَبَهُ، وَذَلِكَ بِيَدِ سَيِّدِهِ إِنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ.
باب وَلاَءِ الْمُكَاتَبِ إِذَا أعتقَ
2351 - قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ، إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ سَيِّدُهُ لَهُ، ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، كَانَ وَلاَؤُهُ لِلْمُكَاتَبِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ، كَانَ وَلاَءُ الْمُعْتَقِ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ الْمُكَاتَبُ وَرِثَهُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ.
2352 - قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ أَيْضاً لَوْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْداً، فَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ الآخَرُ قَبْلَ سَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ، فَإِنَّ وَلاَءَهُ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ، مَا لَمْ يَعْتِقِ الْمُكَاتَبُ الأَوَّلُ الَّذِي كَاتَبَهُ، فَإِنْ عَتَقَ الَّذِي كَاتَبَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ وَلاَءُ مُكَاتَبِهِ الَّذِي كَانَ عَتَقَ قَبْلَهُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ الأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ، أَوْ عَجَزَ عَنْ كِتَابَتِهِ وَلَهُ وَلَدٌ أَحْرَارٌ، لَمْ يَرِثُوا وَلاَءَ مُكَاتَبِ أَبِيهِمْ، لأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لأَبِيهِمُ الْوَلاَءُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ الْوَلاَءُ حَتَّى يَعْتِقَ.
2353 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَيَتْرُكُ أَحَدُهُمَا لِلْمُكَاتَبِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَيَشِحُّ الآخَرُ، ثُمَّ يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ مَالاً. قَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ لَهُ شَيْئاً مَا بَقِيَ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْمَالَ كَهَيْئَتِهِ لَوْ مَاتَ عَبْداً، لأَنَّ الَّذِي صَنَعَ لَيْسَ بِعَتَاقَةٍ، وَإِنَّمَا تَرَكَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ.
2354 - قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ مُكَاتَباً، وَتَرَكَ بَنِينَ رِجَالاً وَنِسَاءً، ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُ الْبَنِينَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُكَاتَبِ: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يُثْبِتُ لَهُ مِنَ الْوَلاَءِ شَيْئاً، وَلَوْ كَانَتْ عَتَاقَةً لَثَبَتَ الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ مِنْهُمْ مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ.
2355 - قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً: أَنَّهُمْ إِذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَى الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُكَاتَبِ، وَلَوْ كَانَتْ عَتَاقَةً قُوِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ فِي مَالِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ".
2356 - قَالَ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا: أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي مُكَاتَبٍ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَلَوْ عَتَقَ عَلَيْهِ كَانَ الْوَلاَءُ لَهُ دُونَ شُرَكَائِهِ.
2357 - قَالَ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً: أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ عَقَدَ الْكِتَابَةَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ وَرِثَ سَيِّدَ الْمُكَاتَبِ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ وَلاَءِ الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ أَعْتَقْنَ نَصِيبَهُنَّ شَىْءٌ، إِنَّمَا وَلاَؤُهُ لِوَلَدِ سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ الذُّكُورِ، أَوْ عَصَبَتِهِ مِنَ الرِّجَالِ.
الحمد لله مكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان خير الورى، سيدنا مُحمَّدٍ صلى الله وسلم بارك وكرم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه طُرّا، وعلى من والاهم في الله واتَّبعهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى الذُرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يواصل سيدُنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكرَ الأحكام والمسائلِ المتعلقة بالمُكاتَب، ويقول: "بابُ الشَّرْطِ فِي الْمُكَاتَبِ"؛ أي: إذا أعتقَه بشرطٍ، وشرَطَ عليه شيئًا في العتقِ. ثم ذكر إذا "كَاتَبَ عَبْدَهُ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ"؛ أي: فضة "وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ" أيضاً فوق ما هو من نجوم المال، -من نجوم الدنانير والدراهم-، اشترط عليه فوق ذلك، "سَفَراً أَوْ خِدْمَةً أَوْ ضَحِيَّةً" يخرجها عنه: "إِنَّ كُلَّ شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَمَّي بِاسْمِهِ، ثُمَّ قَوِيَ الْمُكاتَبُ عَلَى أَدَاءِ نُجُومِهِ"، من الدراهم أو الدنانير "كُلِّهَا قَبْلَ مَحِلِّهَا."
فجاء في مذهب الإمام مالكٍ "قَالَ: إِذَا أَدَّى نُجُومَهُ كُلَّهَا، وَعَلَيْهِ هَذَا الشَّرْطُ عَتَقَ" بأداء نجومه، عتق بأداء المال الذي اشترطه عليه. وبعد ذلك، فكيف باقي الشروط التي اشترطها؟ "وَنُظِرَ إِلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِمَّا يُعَالِجُهُ هُوَ بِنَفْسِهِ"؛ يعني: يعالجه المُكاتَب بنفسه، يعني يؤديه المكاتَب من الخدمات البدنية المتعلقة به.
قال: "فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ"؛ أي: ساقطٌ "عنه، لَيْسَ لِسَيِّدِهِ فِيهِ شَيْءٌ"؛ لأنه قد صار حُرًّا بأداء نجوم الكتابة، لمَّا أدى ما عليه من المال، انتقل من الرق إلى الحرية، فلغت الشروطُ التي تتعلق بخدمته البدنية -مايتعلق بخدمة بدنه-، فبقيَت الخدمةُ الأخرى المالية.
"قال: وَمَا كَانَ مِنْ ضَحِيَّةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أو شيءٍ" آخر "يؤديه" السيد من الماليات، "فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، يُقَوَّمُ" ذَلِكَ الذي اشترط "عَلَيْهِ، فيدفعه" المكاتب "مع نجومه" نجوم الكتابة "وَلاَ يَعْتِقُ حَتَّى يَدْفَعَ ذَلِكَ مَعَ نُجُومِهِ."
إذًا؛
فإذا اشترط في الكتابة شرطًا من خدمةٍ وسفرٍ أو نحوه، ولكن تمكن المملوكُ من أداء نجومه قبل محل أجل الكتابة، فهل يَعتق أو لا؟
وكذلك إذا قال: أنت حرٌ على ألف.
وإذا قبل العبد، لزِمَه الأمر، وهو كذلك عند الإمام أحمد والإمام الشافعي، يلزمُـه أن يقوم بحق ما شرَطَ عليه من الخدمة، سواءً كانت مالية أو بدنيةً.أما عند الإمام مالك: فالخدمة البدنية تسقط عنه، لأنه أُعتق بتسليم وأداء نجوم الكتابة، أما المالية فتُقدَّر وتُحسب فوق نجوم الكتابة، فيؤدي لسيِّده قيمة ذلك.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ" الذي كاتبه سيّده على خدمة مدة معينة، "بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ، أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَ خِدْمَةِ عَشْرِ سِنِينَ."؛ يعني: علّق سيدُه عتقَه على خدمة عشر سنين، "فَإِذَا هَلَكَ سَيِّدُهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ" مات السيد "قبل" مضي "عشر سنين"؛ وكان قال له: إذا خدمتني عشر سنين أنت حر.
"فَإِنَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ" يعني على العبد في حكم المُكاتب، "مِنْ خِدْمَتِهِ" يعني: خدمة مولاه "لورثته"، فيُكملُ العشرَ سنين في خدمةِ الورثة، فيُكملُ المدةَ فيُعتَق. "وَكَانَ وَلاَؤُهُ" بعد العتق "لِلَّذِي عَقَدَ عِتْقَهُ" وهو السيد الأول، "ولِوَلَدِهِ منَ الرِّجالِ أو العَصَبة،" ينتقل إليهم الولاء بعد أبيهم، فيرجعُ إلى عصبته المتعصبين بأنفسهم.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِطُ عَلَى مُكَاتَبِهِ أَنَّكَ لاَ تُسَافِرُ وَلاَ تَنْكِحُ وَلاَ تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِي إِلاَّ بِإِذْنِى، فَإِنْ فَعَلْتَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَمَحْوُ"؛ يعني: أبطلنا الكتابة، "محو كِتَابَتِكَ بِيَدِى، قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ مَحْوُ كِتَابَتِهِ بِيَدِهِ إِنْ فَعَلَ الْمُكَاتَبُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ."؛ يعني: إذا فعل المكاتَبُ خلاف الشرط المذكور، ما تبطل المكاتبة، فالشرط هذا غيرُ لازم، وليس للسيد محوُ الكتابة، بإخلال هذا المكاتَب بهذا الشرط.
قال: "وَلْيَرْفَعَ سَيِّدُهُ ذلِكَ" أمر المُخَالَفَةِ "إِلَى الْسُّلْطَانِ،" يعني ليس له فسخ كتابته، إنما يرفع ذلك إلى السلطان، والسلطان ينظر في ذلك، فإن كان مما له المنع منه منَعه، وإن كان مما ليس له منعُه أباحَه له، "وليس لِلْمُكَاتَبِ" يعني: لا يجوز له "أَنْ يَنْكِحَ وَلاَ يُسَافِرَ وَلاَ يَخْرُجَ مِنْ أَرْضِ سَيِّدِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ،"
فإذا قال لمملوكه: أعتقتك على أن تخدمني سنةً مثلا، قَبِلَ، فإذا قَبِل، قال: أعتق في الحال، ولزمه خدمةُ سنة، بدأ يخدمه شهرين أو ثلاثة أشهر، مات سيده، بعدين وباقي الخدمة؟
يقول: كم قيمة العبد؟ قال: مائة ألف، مائة وعشرين ألف وزعها على سنة، كم أشهر مضت؟ مضت ثلاثة أشهر ربع السنة، قال: خلاص سقطت ربع قيمته، يُسلِّم الباقي، مضى نصف من السنة، فسقطت نصف قيمته، يُسلِّم الباقي وهكذا، هذا التقسيط في مذهب الإمام أبو حنيفة.
"قال مالك: لَيْسَ مَحْوُ كِتَابَتِهِ بِيَدِهِ إِنْ فَعَلَ الْمُكَاتَبُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَلْيَرْفَعْ سَيِّدُهُ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَنْكِحَ وَلاَ يُسَافِرَ وَلاَ يَخْرُجَ مِنْ أَرْضِ سَيِّدِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، اشْتَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ".
"وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَنْطَلِقُ فَيَنْكِحُ الْمَرْأَةَ، فَيُصْدِقُهَا الصَّدَاقَ الَّذِي يُجْحِفُ بِمَالِهِ، وَيَكُونُ فِيهِ عَجْزُهُ، فَيَرْجِعُ إِلَى سَيِّدِهِ عَبْداً لاَ مَالَ لَهُ، أَوْ يُسَافِرُ فَتَحِلُّ نُجُومُهُ وَهُوَ غَائِبٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَلاَ عَلَى ذَلِكَ كَاتَبَهُ، وَذَلِكَ بِيَدِ سَيِّدِهِ إِنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ". المُكاتَب لا يتصرّف هذه التصرفات إلا بإذنِ سيّده، لأنه لا يزال مملوكًا، ما بقي عليه شيء من الكتابة.
يقول: "باب وَلاَءِ الْمُكَاتَبِ إِذَا أعتقَ"، "قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ، إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ"، هو مملوكٌ الآن لا يزال ولكن ملكَه معلقٌ، لأنه مكاتَبٌ، فملَكَ عبدًا، فأراد أن يعتقه، وهو لا يزال رقبتُه معلقةً بنجوم الكتابة، وقد يعجز عنها، فقال: "إن ذلك غيرُ جائزٍ له إلا بإذنِ سيدِه"، إذا أراد أن يُعتِقَه. وهذا قول عند الشافعية، أنه لا يجوز له أن يعتقَ إلا بإذنه.
والقول الثاني: كما هو عند الأئمة الثلاثة، هذا من التبرّعات التي لا تصحُ من المكاتَب إلا بإذن سيده، فلا يجوز للمكاتَب عتقُ رقيقه بغير إذنه، وهكذا..
قال: "فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ سَيِّدُهُ لَهُ، ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، كَانَ وَلاَؤُهُ لِلْمُكَاتَبِ"؛ لأنه ثبت له في وقتٍ أحرز فيه مالَه بعتقه، "وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ، كَانَ وَلاَءُ الْمُعْتَقِ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ"؛ لأن المكاتَب مات مملوكًا، -لا يزال مملوكًا- فلا يصير له الولاء.
يقول: "وَإِنْ مَاتَ الْمُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ الْمُكَاتَبُ وَرِثَهُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ." إن مات المكاتَب، أو مات معتَق المكاتَب، قبل أن يتحررَ هذا المكاتب بأداء النجوم،، فالولاءُ يرجع إلى السيد.
"قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ أَيْضاً لَوْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْداً، فَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ الآخَرُ قَبْلَ سَيِّدِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ، فَإِنَّ وَلاَءَهُ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ، مَا لَمْ يَعْتِقِ الْمُكَاتَبُ الأَوَّلُ الَّذِي كَاتَبَهُ، فَإِنْ عَتَقَ الَّذِي كَاتَبَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ وَلاَءُ مُكَاتَبِهِ الَّذِي كَانَ عَتَقَ قَبْلَهُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ الأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ، أَوْ عَجَزَ عَنْ كِتَابَتِهِ وَلَهُ وَلَدٌ" اسم جنس يعني جمع، "أَحْرَارٌ، لَمْ يَرِثُوا وَلاَءَ مُكَاتَبِ أَبِيهِمْ، لأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لأَبِيهِمُ الْوَلاَءُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ الْوَلاَءُ حَتَّى يَعْتِقَ." فما يتأتَّى ملكُ الولاء إلا بالعتق، وقبل العتق يرجع الولاءُ لمالك ذلك المكاتِب أو المعتِق بالإذن، وهو مكاتَب هذا السيد. فإذًا؛ إذا لم يتم عتقُ ذلك المكاتب، فالولاء راجعٌ إلى سيد المكاتِب.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَيَتْرُكُ أَحَدُهُمَا لِلْمُكَاتَبِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، وَيَشِحُّ الآخَرُ، ثم يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ مَالاً"، كان عليه نجومٌ لسيدين كانا يملكانه، أحدهم قال: خلاص أنت مسامَحٌ بالنجوم التي جعلت عليك، وحصتي منك أنت فيها حرٌّ، خلاص أعتقتك في حصتي التي لي عليك. "وَيَشِحُّ الآخَرُ" يبخل، بعد ذلك، "يَمُوتُ الْمُكَاتَبُ وَيَتْرُكُ مَالاً" فلمن؟ "قَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ لَهُ شَيْئاً مَا بَقِيَ لَهُ عَلَيْهِ"، كم بقي من نجوم الكتابة؟ أنت ما سامحته، قال: كذا كذا، نعطيه إياها، وباقي المال يرجعُ بالولاء إرثاً بينهما، "ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْمَالَ كَهَيْئَتِهِ لَوْ مَاتَ عَبْداً" لماذا؟ "لأَنَّ الَّذِي صَنَعَ" يعني: ترك ماله على العبد "ليس" له؛ أي للعبد "بعتاقة، وَإِنَّمَا تَرَكَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ." وهذا ليس بعتقٍ كامل.
وهكذا يقول الإمام الشافعي في هذه المسألة، يكون نصفُ نصيبه للمتمسك بحقه، وهو ما يقابل النصيبَ الحر بالأداء أو الترك. فإذا أبرأ السيدُ المكاتَب من مال الكتابة، برىء وعتق، لأن ذمته خلت من مال الكتابة، وإن أبرأه من بعضه، برأَ من البعض، وكان على الكتابة فيما بقي.
وهكذا إذا أعتق أحدُ الشريكين نصيبَه من المكاتب، فإذاً يُوضَعُ عنه مقابل ذلك، وهذا عاده ليس عتق حقيقة، كما ذكَر الإمام مالك.
"قال: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ مُكَاتَباً، وَتَرَكَ بَنِينَ رِجَالاً وَنِسَاءً، ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُ الْبَنِينَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُكَاتَبِ: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يُثْبِتُ لَهُ مِنَ الْوَلاَءِ شَيْئاً، وَلَوْ كَانَتْ عَتَاقَةً لَثَبَتَ الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ مِنْهُمْ مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ."؛ ترك مكاتَباً وترك أولاد، والأولاد بعضهم أعتق في نصيبه ، فسواءً كان من الورثة رجلاً أو امرأةً، يصير حكمُه حكمَ إذا كان له شركاء، فأعتق بعضُهم نصيبَه منه، فلا تكون عتاقةً كاملة، ولكن يسقط حقُه في مقابل نصيبه من هذا العبد، يسقط على العبد في مجموع المال، نصيبَ هذا الذي سامحه من الشركاء. إذاً؛ الكتابة لا تنفسخُ بموت السيد، وتبقى الكتابة بعد ذلك للورثة.
"قال: مِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً: أَنَّهُمْ إِذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَى الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُكَاتَبِ، وَلَوْ كَانَتْ عَتَاقَةً قُوِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ فِي مَالِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"." إذا كانوا شركاء في مملوكٍ، وأحدهم عتق نصيبه، يسري العتق إليه كله، وعليه أن يسلِّم المال، فإن كان عاجزاً وما عنده شيء، عتقَ النصيبُ، سواءً كان رُبعاً أو نصفاً أو أقل، وبقي الآخرُ مملوكاً فيه، لكن في مثل هذه المسألة، يقول: إذا عجز بعد ذلك المكاتَب، وبعضُ الورثة قد سامحه، ولم يُقوَّم على الذي سامح، ويسلِّم للباقين، فهذا فرقٌ بينه وبين الأول، فرَّق مالك بين هذا وذاك.
قال: في تبيين المسألة نفسها، "قَالَ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا: أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً"؛ أي: نصيبًا "لَهُ فِي مُكَاتَبٍ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ" إن كان مسلمًا "ولو عتق" العبد "عليه" على المعتِق "كَانَ الْوَلاَءُ لَهُ "خاصة "دُونَ شُرَكَائِهِ.". بخلاف ما لم يكن مكاتَب، فإذا لم يكن مكاتَب سرى العتقُ إليه، أما إذا كاتبَ فما سامحَه فيه مما يتعلق به، يسقط عن العبد.
"قال: وما يبين ذلك أَيْضاً: أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ عَقَدَ الْكِتَابَةَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ وَرِثَ سَيِّدَ الْمُكَاتَبِ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ وَلاَءِ الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ أَعْتَقْنَ نَصِيبَهُنَّ"؛ لأن العتقَ إنما سرى بمكاتبةِ مورِّثِهن من قبلهن، "إِنَّمَا وَلاَؤُهُ لِوَلَدِ سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ"؛ لأن الولاءَ ينتقل من المعتِق إلى أولاده الذكور المتعصبين بأنفسهم، "لِوَلَدِ سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ الذُّكُورِ"، المذكور "أو عصبته من الرجال" فقط، لا من النساء، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، وأعتق رقابنا من النار، وأذِن بعِتقنا من الذنوب والمعاصي، وأذِن بعِتقنا سبحانه من الالتفات إلى من سواه والتعلق بمن عداه، وحرّرنا من رِق المعصية، ورفعنا مراتب القرب الراقية، مع خواصّ أهل الصدق معه، في لطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
01 ربيع الأول 1444