(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب المُكاتَب: باب بَيْعِ الْمُكَاتَبِ، وباب سعْي المُكاتَب.
فجر الثلاثاء 24 صفر 1444هـ.
باب بَيْعِ الْمُكَاتَبِ
2330 - قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي مُكَاتَبَ الرَّجُلِ: أَنَّهُ لاَ يَبِيعُهُ إِذَا كَانَ كَاتَبَهُ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، إِلاَّ بِعَرْضٍ مِنَ الْعُرُوضِ يُعَجِّلُهُ وَلاَ يُؤَخِّرُهُ، لأَنَّهُ إِذَا أَخَّرَهُ كَانَ دَيْناً بِدَيْنٍ، وَقَدْ نُهِيَ عَنِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ.
2331 – قَالَ: وَإِنْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبَ سَيِّدُهُ بِعَرْضٍ مِنَ الْعُرُوضِ مِنَ الإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ أَوِ الرَّقِيقِ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ عَرْضٍ مُخَالِفٍ لِلْعُرُوضِ الَّتِي كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ عَلَيْهَا، يُعَجِّلُ ذَلِكَ وَلاَ يُؤَخِّرُهُ.
2332 - قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ: أَنَّهُ إِذَا بِيعَ كَانَ أَحَقَّ بِاشْتِرَاءِ كِتَابَتِهِ مِمَّنِ اشْتَرَاهَا، إِذَا قَوِيَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى سَيِّدِهِ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ نَقْداً, وَذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ نَفْسَهُ عَتَاقَةٌ، وَالْعَتَاقَةُ تُبَدَّأُ عَلَى مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الْوَصَايَا، وَإِنْ بَاعَ بَعْضُ مَنْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبَ نَصِيبَهُ مِنْهُ، فَبَاعَ نِصْفَ الْمُكَاتَبِ أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ أَوْ سَهْماً مِنْ أَسْهُمِ الْمُكَاتَبِ، فَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ فِيمَا بِيعَ مِنْهُ شُفْعَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْقَطَاعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاطِعَ بَعْضَ مَنْ كَاتَبَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ شُرَكَائِهِ، وَأَنَّ مَا بِيعَ مِنْهُ لَيْسَتْ لَهُ بِهِ حُرْمَةٌ تَامَّةٌ، وَأَنَّ مَالَهُ مَحْجُورٌ عَنْهُ، وَأَنَّ اشْتِرَاءَهُ بَعْضَهُ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهُ الْعَجْزُ لِمَا يَذْهَبُ مِنْ مَالِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاءِ الْمُكَاتَبِ نَفْسَهُ كَامِلاً, إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَنْ بَقِيَ لَهُ فِيهِ كِتَابَةٌ، فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ كَانَ أَحَقَّ بِمَا بِيعَ مِنْهُ.
2333 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَحِلُّ بَيْعُ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِ الْمُكَاتَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ غَرَرٌ، إِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ بَطَلَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِلنَّاسِ، لَمْ يَأْخُذِ الَّذِي اشْتَرَى نَجْمَهُ بِحِصَّتِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ شَيْئاً، وَإِنَّمَا الَّذِي اشْتَرَى نَجْماً مِنْ نُجُومِ الْمُكَاتَبِ، بِمَنْزِلَةِ سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ، فَسَيِّدُ الْمُكَاتَبِ لاَ يُحَاصُّ بِكِتَابَةِ غُلاَمِهِ غُرَمَاءَ الْمُكَاتَبِ، وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ أَيْضاً يَجْتَمِعُ لَهُ عَلَى غُلاَمِهِ، فَلاَ يُحَاصُّ بِمَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْخَرَاجِ غُرَمَاءَ غُلاَمِهِ.
2334 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِىَ الْمُكَاتَبُ كِتَابَتَهُ بِعَيْنٍ أَوْ عَرْضٍ مُخَالِفٍ لِمَا كُوتِبَ بِهِ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ الْعَرْضِ أَوْ غَيْرِ مُخَالِفٍ، مُعَجَّلٍ أَوْ مُؤَخَّرٍ.
2335 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَهْلِكُ وَيَتْرُكُ أُمَّ وَلَدٍ وَوَلَداً لَهُ صِغَاراً مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَلاَ يَقْوَوْنَ عَلَى السَّعْيِ، وَيُخَافُ عَلَيْهِمُ الْعَجْزُ عَنْ كِتَابَتِهِمْ، قَالَ: تُبَاعُ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ إِذَا كَانَ فِي ثَمَنِهَا مَا يُؤَدَّى بِهِ عَنْهُمْ جَمِيعُ كِتَابَتِهِمْ، أُمَّهُمْ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ أُمِّهِمْ، يُؤَدَّى عَنْهُمْ وَيَعْتِقُونَ، لأَنَّ أَبَاهُمْ كَانَ لاَ يَمْنَعُ بَيْعَهَا إِذَا خَافَ الْعَجْزَ عَنْ كِتَابَتِهِ، فَهَؤُلاَءِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِمُ الْعَجْزُ، بِيعَتْ أُمُّ وَلَدِ أَبِيهِمْ، فَيُؤَدَّى عَنْهُمْ ثَمَنُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِهَا مَا يُؤَدَّى عَنْهُمْ، وَلَمْ تَقْوَ هِيَ وَلاَ هُمْ عَلَى السَّعْي، رَجَعُوا جَمِيعاً رَقِيقاً لِسَيِّدِهِمْ.
2336 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الَّذِي يَبْتَاعُ كِتَابَةَ الْمُكَاتَبِ، ثُمَّ يَهْلِكُ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كِتَابَتَهُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ الَّذِي اشْتَرَى كِتَابَتَهُ، وَإِنْ عَجَزَ فَلَهُ رَقَبَتُهُ، وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ كِتَابَتَهُ إِلَى الَّذِي اشْتَرَاهَا وَعَتَقَ، فَوَلاَؤُهُ لِلَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ، لَيْسَ لِلَّذِى اشْتَرَى كِتَابَتَهُ مِنْ وَلاَئِهِ شَيْءٌ.
باب سَعْي الْمُكَاتَبِ
2337 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلاَ عَنْ رَجُلٍ كَاتَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى بَنِيهِ، ثُمَّ مَاتَ، هَلْ يَسْعَى بَنُو الْمُكَاتَبِ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ، أَمْ هُمْ عَبِيدٌ ؟ فَقَالاَ : بَلْ يَسْعَوْنَ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ، وَلاَ يُوْضَعُ عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَبِيهِمْ شَيْءٌ.
2338 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ كَانُوا صِغَاراً لاَ يُطِيقُونَ السَّعْيَ لَمْ يُنْتَظَرْ بِهِمْ أَنْ يَكْبَرُوا، وَكَانُوا رَقِيقاً لِسَيِّدِ أَبِيهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُكَاتَبُ تَرَكَ مَا يُؤَدَّى بِهِ عَنْهُمْ نُجُومُهُمْ، إِلَى أَنْ يَتَكَلَّفُوا السَّعْيَ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا تَرَكَ مَا يُؤَدَّى عَنْهُمْ، أُدِّىَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَتُرِكُوا عَلَى حَالِهِمْ حَتَّى يَبْلُغُوا السَّعْيَ، فَإِنْ أَدَّوْا عَتَقُوا، وَإِنْ عَجَزُوا رَقُّوا.
2339 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ مَالاً لَيْسَ فِيهِ وَفَاءُ الْكِتَابَةِ، وَيَتْرُكُ وَلَدَاً مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَأُمَّ وَلَدٍ، فَأَرَادَتْ أُمُّ وَلَدِهِ أَنْ تَسْعَى عَلَيْهِمْ، إِنَّهُ يُدْفَعُ إِلَيْهَا الْمَالُ إِذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً عَلَى ذَلِكَ، قَوِيَّةً عَلَى السَّعْي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَوِيَّةً عَلَى السَّعْي وَلاَ مَأْمُونَةً عَلَى الْمَالِ لَمْ تُعْطَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَعَتْ هِيَ وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ رَقِيقاً لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ.
2340 - قَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَاتَبَ الْقَوْمُ جَمِيعاً كِتَابَةً وَاحِدَةً، وَلاَ رَحِمَ بَيْنَهُمْ فَعَجَزَ بَعْضُهُمْ وَسَعَى بَعْضُهُمْ، حَتَّى عَتَقُوا جَمِيعاً، فَإِنَّ الَّذِينَ سَعَوْا يَرْجِعُونَ عَلَى الَّذِينَ عَجَزُوا بِحِصَّةِ مَا أَدَّوْا عَنْهُمْ، لأَنَّ بَعْضَهُمْ حُمَلاَءُ عَنْ بَعْضٍ.
الحمد لله مكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان خير الورى، سيدِنا محمدٍ المصطفى، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه الكُبَراء، وعلى مَن تبعهم بإحسان سِرًّا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين ارتقَوا في الفضل أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالكٌ -عليه رحمة الله- الكلامَ المتعلق بالمُكَاتَب، وبوَّب لذلك أبوابًا كثيرة، وفرَّعَ مسائل فقال: "بابُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ"؛ وأراد هنا بيعَ كتابته أو النجومَ التي عليه، لا بيع رقبته.
فقد تقدم ما تعلق ببيع الرقبة، في حديث بريرة الذي مرّ معنا، فالمُكَاتَب لا يُباع إلا بإذنه، إذا رضي هو أن يُباع لآخَرٍ عند الإمام الشافعي، واشترط بعضُهم أن يبقى على كتابته عند مشتريه. فهكذا الجمهور على أنه لا يُباع.
ويتكلم هنا عن: بيع الكتابة؛ وبيعُ الكتابة يعني يقول له: كم على عبدِك هذا من النُّجوم المُنَجَّمةِ عليه؟ المبلغ المقدر؟ فيقول: كذا وكذا، يقول له: اشتريه منك، فيعطيه إياه.
يقول: "بيعُ المُكَاتَب"؛ وأراد به هذا: وهو بيعُ الذي على المُكَاَتب، أي الدَّين الذي على المُكَاتَب من نجومه. فهذا لا يصح عند الأئمة الثلاثة، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وعند الإمام مالك يصح، يقول: أن السيد يملِكُها في ذِمة المُكَاتَب، فجاز بيعُها مثلَ سائر أمواله.
وقال الجمهور: إنه دَينٌ غيرُ مستقرّ، فلم يَجُز بيعُه كدَين السَّلَم؛ لأنه لا يملك السيدُ إجبارَ العبد على أدائه، ولا إلزامِه بتحصيله، وللعبد أن يرجعَ عن ذلك في أي وقت، فلم يجز بيعُه، وهو أيضًا غيرُ مقبوض، ونهى النبيُ ﷺ عن بيع ما لم يُقبَض.
فهذا الخلاصة في المسائل التي ذكرها، ولكن اشترط بعضَ الشروط:
فإذا باع نقداً بنقدٍ، فما يتأتى فيه التقابض والحلول، لأن هذا دَين، فيصير مثلُ بيع الدَينٍ بالدَّين، وكذلك العَرَض بنفس العَرَض عنده، لابد فيه أيضًا، من مثليةٍ، وحلولٍ وتقابض، فلهذا قال: لا يمكن إلا أن يشتريَ دَين المُكَاتَب، إن كان دراهم ودنانير بعَرَضٍ، أو كان عَرَض بدراهم ودنانير، أو بعَرَضٍ غير العَرَض الذي هو دَينٌ على ذلك. فهذا خلاصة مذهب الإمام مالك في هذه المسألة.
وفرَّع عليها هذه المسائل -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وكما قال: "إِنْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبَ سَيِّدُهُ بِعَرْضٍ مِنَ الْعُرُوضِ مِنَ الإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ أَوِ الرَّقِيقِ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ عَرْضٍ مُخَالِفٍ لِلْعُرُوضِ الَّتِي كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ عَلَيْهَا، يُعَجِّلُ ذَلِكَ وَلاَ يُؤَخِّرُهُ."
؛قَالَ مَالِكٌ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُكَاتَبِ: أَنَّهُ إِذَا بِيعَ كَانَ أَحَقَّ بِاشْتِرَاءِ كِتَابَتِهِ مِمَّنِ اشْتَرَاهَا"؛ أي: هو الأحقُ بذلك، أن يَنقُدَ سيدَه ما اشتراه به، ويصيرُ حُرًّا، لأن هذه تصير عَتاقة. ولابد عنده أيضًا من شراء الباقي كله، -الدَّين كله- أمَّا يشتريَ واحد من النجوم فلا، لابد من نجمين أيضًا، فإذا كان واحداً من النجوم، فلا يصح؛ "لاَ يَحِلُّ بَيْعُ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِ الْمُكَاتَبِ" ليه؟ قال: "وذلك أَنَّهُ غَرَرٌ إِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ بَطَلَ مَا عَلَيْهِ" وبعدين، أين يروح؟ يملك من؟ "وَإِنْ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِلنَّاسِ، لَمْ يَأْخُذِ الَّذِي اشْتَرَى نَجْمَهُ بِحِصَّتِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ شَيْئاً"؛ فلا يمكن أن يشتريَ بعضَ الدَّين، ولكن يشتري باقي الدَّين كلِه، بما ذكر لنا سابقًا أو يتركَه كله.
وقال في المملوك المُكَاتَب "لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِىَ الْمُكَاتَبُ كِتَابَتَهُ بِعَيْنٍ أَوْ عَرْضٍ مُخَالِفٍ لِمَا كُتِبَ بِهِ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ الْعَرْضِ أَوْ غَيْرِ مُخَالِفٍ، مُعَجَّلٍ أَوْ مُؤَخَّرٍ"، يُبيحُ في المعاملة بين العبد والسيد، ما لا يُبيحُه في المعاملة مع الآخرين، من بعض الشؤون التي تُعدُّ رُبوية، فبَيعُ ما كان من جنس الربا، لا يجوز بين الأجنبي والأجنبي، مِن مثل الطعام بالطعام، كما تقدم معنا، ولكن الإمامَ مالك -عليه رحمة الله تعالى- يجعل ما بين العبد والسيد، أن الأمر مغتفرٌ فيه، لأنه شِبهُ مُلكِه وما إلى ذلك.
يقول: "وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ كِتَابَتَهُ إِلَى الَّذِي اشْتَرَاهَا وَعَتَقَ، فَوَلاَؤُهُ لِلَّذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ، لَيْسَ لِلَّذِى اشْتَرَى كِتَابَتَهُ مِنْ وَلاَئِهِ شَيْءٌ."
وفي السعي، ومَن الذي يسعى له، وكيفية السعي لإنجازِ وأداء دَين الكتابة. يقول: "أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلاَ عَنْ رَجُلٍ كَاتَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى بَنِيهِ، ثُمَّ مَاتَ" قبل أن يسعى، "هَلْ يَسْعَى بَنُو الْمُكَاتَبِ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ، أَمْ هُمْ عَبِيدٌ ؟ فَقَالاَ: بَلْ يَسْعَوْنَ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ، وَلاَ يُوْضَعُ عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَبِيهِمْ شَيْءٌ."
"يقول مَالِكٌ: وَإِنْ كَانُوا صِغَاراً لاَ يُطِيقُونَ السَّعْيَ لَمْ يُنْتَظَرْ بِهِمْ أَنْ يَكْبَرُوا، وَكَانُوا رَقِيقاً لِسَيِّدِ أَبِيهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ" أباهم "الْمُكَاتَبُ تَرَكَ" لهم "مَا يُؤَدَّى بِهِ عَنْهُمْ نُجُومُهُمْ" نعم "إِلَى أَنْ يَتَكَلَّفُوا السَّعْيَ،" ترك لهم مقدارًا يكون كافي لأداء نجومهم في صغرهم.
فإذا كاتَبَ على ألفِ دينارٍ، في كل سنةٍ مائة دينار، والأبُ توفي وترك لهم خمسمائةَ دينار، يقدرون يقوون على السعيِ؟ بعد خمس سنين، لأنهم يكونون قد بلغوا، -بعد خمس سنين-، فالأب حينئذٍ ترك مقدارَ أداءِ النجوم، إلى أن يَقدِروا، فهذه الخمسمائة حق الخمس سنين، لأنه في كل سنةٍ مائةُ دينار، أو لا؟ وهم بعد خمس سنين يصيروا بالغين قادرين على السعي، فإذا كان مثلَ هذه الحالة تستمر الكتابة، وأما إن لم يترك لهم شيئاً انفسخت، وعلى كل حالٍ فالذي عند الجمهور: أنه إذا مات المُكاتَب انفسخت الكتابةُ، وصار البقيةُ أرقاءَ للسيد.
و"يقول: فِي الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ مَالاً لَيْسَ فِيهِ وَفَاءُ الْكِتَابَةِ، وَيَتْرُكُ وَلَدَاً مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ، وَأُمَّ وَلَدٍ، فَأَرَادَتْ أُمُّ وَلَدِهِ أَنْ تَسْعَى عَلَيْهِمْ، إِنَّهُ يُدْفَعُ إِلَيْهَا الْمَالُ إِذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً عَلَى ذَلِكَ" وتكمل السعي، "وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَوِيَّةً عَلَى السَّعْي وَلاَ مَأْمُونَةً عَلَى الْمَالِ لَمْ تُعْطَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَعَتْ هِيَ وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ رَقِيقاً لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ".
وهكذا "يقول مالك: إِذَا كَاتَبَ الْقَوْمُ جَمِيعاً كِتَابَةً وَاحِدَةً، وَلاَ رَحِمَ بَيْنَهُمْ، فَعَجَزَ بَعْضُهُمْ وَسَعَى بَعْضُهُمْ، حَتَّى عَتَقُوا جَمِيعاً، فَإِنَّ الَّذِينَ سَعَوْا يَرْجِعُونَ عَلَى الَّذِينَ عَجَزُوا بِحِصَّةِ مَا أَدَّوْا عَنْهُمْ."؛ لأنه تقدم معنا أن مذهب الإمامِ مالك: الحُملانُ والكفائلُ لبعضِهم البعض، أنهم إذا كُوتِبوا في عقدٍ واحد، لا يعتق واحدٌ منهم، كلُهم يُعتَقون أو كلهم يُسترقون، فإذا سعى الذين قدَروا على السعي، لتحصيل نصيبِ الذين عجزوا، فعَتَقَ الجميع، يرجِعُ بعد ذلك الذين سعَوا على الذين عجزوا، يقولون لهم: هاتوا حقنا الذي قدمنا عليكم لأجل الخروج من هذا.
وأما عند غير مالك: فالذي سلَّمَ هو الذي يُعتَق، والذي ما سلَّم يبقى على رِقه، ولا يختلط هذا بهذا.
ولكن عند الإمام مالك: كُفلانٌ بينهم، وبينهم حُملان، يَكفُل بعضُهم بعضًا، ولا يُعتقون إلا جميعًا أو يُسترَقون جميعًا، فإذا عجزوا، -عجز أحد منهم- ولم يسعَ الآخرون له، بقي الرقُ عليهم كلُهم، هذا مذهب مالك. وقال غيره: لا؛ من سلَّم الذي عليه، عَتَق. والله أعلم.
اجعلنا في الهداة المهتدين، وترقينا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين مع الاستقامة، والإتحاف بأنواع الكرامة، ودفع عنا ما أحاط به علمه في الدارين، وأصلح شؤوننا والمسلمين أجمعين وإلى حضرة النبي ﷺ.
29 صفَر 1444