(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب المُكاتَب، باب الْقَضَاءِ فِي الْمُكَاتَبِ.
فجر الثلاثاء 17 صفر 1444هـ.
باب الْقَضَاءِ فِي الْمُكَاتَبِ
2300 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ.
2301 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، كَانَا يَقُولاَنِ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ.
2302 - قَالَ مَالِكٌ: وَهُو رَأْيِي.
2303 - قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ هَلَكَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالاً أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَلَهُ وَلَدٌ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ، أَوْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ، وَرِثُوا مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ قَضَاءِ كِتَابَتِهِ.
2304 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِ: أَنَّ مُكَاتَباً كَانَ لاِبْنِ الْمُتَوَكِّلِ هَلَكَ بِمَكَّةَ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ بَقِيَّةً مِنْ كِتَابَتِهِ وَدُيُوناً لِلنَّاسِ، وَتَرَكَ ابْنَتَهُ، فَأَشْكَلَ عَلَى عَامِلِ مَكَّةَ الْقَضَاءُ فِيهِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ : أَنِ ابْدَأْ بِدُيُونِ النَّاسِ، ثُمَّ اقْضِ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، ثُمَّ اقْسِمْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَمَوْلاَهُ.
2305 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَداً مِنَ الأَئِمَّةِ أَكْرَهَ رَجُلاً عَلَى أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ، وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور:33] يَتْلُو هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة:2] ، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:10].
قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ.
2306 - قَالَ مَالِكٌ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور: 33] إِنَّ ذَلِكَ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ غُلاَمَهُ، ثُمَّ يَضَعُ عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ شَيْئاً مُسَمًّى.
2307 - قَالَ مَالِكٌ: فَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدْرَكْتُ عَمَلَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا.
2308 - قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَاتَبَ غُلاَماً لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلاَثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَضَعَ عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ.
2309 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ تَبِعَهُ مَالُهُ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُمْ فِي كِتَابَتِهِ.
2310 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الْمُكَاتَبِ يُكَاتِبُهُ سَيِّدُهُ، وَلَهُ جَارِيَةٌ بِهَا حَبَلٌ مِنْهُ، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ هُوَ وَلاَ سَيِّدُهُ يَوْمَ كِتَابَتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتْبَعُهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ، وَهُوَ لِسَيِّدِهِ، فَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَإِنَّهَا لِلْمُكَاتَبِ لأَنَّهَا مِنْ مَالِهِ.
2311 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَرِثَ مُكَاتَباً مِنِ امْرَأَتِهِ هُوَ وَابْنُهَا: إِنَّ الْمُكَاتَبَ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ كل يَقْضِيَ كِتَابَتَهُ اقْتَسَمَا مِيرَاثَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَإِنْ أَدَّى كِتَابَتَهُ، ثُمَّ مَاتَ، فَمِيرَاثُهُ لاِبْنِ الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ.
2312 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ قَالَ: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَرَادَ الْمُحَابَاةَ لِعَبْدِهِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا كَاتَبَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ، وَطَلَبِ الْمَالِ، وَابْتِغَاءِ الْفَضْلِ وَالْعَوْنِ عَلَى كِتَابَتِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ.
2313 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَطِئَ مُكَاتَبَةً لَهُ: إِنَّهَا إِنْ حَمَلَتْ فَهِيَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنْ شَاءَتْ قَرَّتْ عَلَى كِتَابَتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ فَهِيَ عَلَى كِتَابَتِهَا.
الحمد لله مكرمنا بشريعته العظيمة، وبيان أحكامها القويمة، على لسان عبده المصطفى محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اتبعه في مناهجه المستقيمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين خُصُّوا وأُعطوا من الله تبارك وتعالى تقديمَه وتكريمَه وتفضيله وتفخيمه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويتحدث سيدُنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في هذا الباب: عن الكتابة وحُكمِ المُكاتَب؛ بمعنى أن يقول من يملك أحدًا من الأرقاء: أنك إن سَلَّمتَ لي من المال كذا، مُنَجَّمًا على نجمين أو أكثر، يعني: مُؤقَتاً بوقتين أو أكثر، فأدَّى المملوكُ ما كتبه عليه المالكُ، صار حُرًّا.
وهذه الكتابة التي هي عبارة عن معاقدةٍ بين العبد وسيّده، أنه إذا سلَّم إليه مالًا مُعيَّنًا، مُفرَّقًا على وقتين فأكثر، يصير بذلك حُرًّا، فإذا عَلَّق تحريره بأدائه المال، فيصير هذا العبد مأذونًا له في الاكتساب، وأن يملكَ، فيكون المُلكُ مُعَلَّقاً بأداء ما عليه، فإن أدى ما عليه، نَفَذ مُلكُه وصار حُرًّا، وإن لم يؤدِّ ما عليه، صار ما مَلَكَهُ وكَسِبَهُ مُلكًا لسيده.
وهي مندوبةٌ، إذا طلب الرقيقُ من سيده أن يُكَاتِبَه، فالمُكاتَبة مندوبةٌ إن كان الرقيق أمينًا قادرًا على الكسب، وعلى النَّدب حملوا قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور:33]. (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا): الأمانةُ والقدرة على الكسب، فإذا هو مأمون وقادرٌ على أن يكتسب، وعلِمنا فيه الخير، فينبغي لنا أن نكاتبه، وحمل جماهير العلماء الأمر على النَّدب.
(فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور:33]. وذكر لنا حديث: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ." وعلى هذا أيضًا جماهير العلماء: أنه ما دام باقي شيء لم يؤده، من المُسمَّى في الكتابة، فهو لا يزال مملوكًا.
"الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ." ولو كان الباقي شيئًا قليلًا. وجاء أيضًا عن ابن عمر قال: المُكَاتَبُ عبدٌ ما بقي عليه درهم. وذكره الإمام البخاري تعليقًا في صحيحه: قال ابن عمر: هو عبدٌ إن عاش وإن مات وإن جنى ما بقي عليه شيءٌ. وجاء في روايةٍ عند أبي داود مرفوعاً إلى النبي ﷺ، وكذلك عند النسائي، من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي ﷺ: قال: "المُكاتَب عبدٌ ما بقيَ عليه من كتابته درهم". إذًا؛ فهذا هو الحكم عند جماهير العلماء. ولغير الأئمة الأربعة من السلف أقوال: أنه إذا أدَّى نصف ما عليه، أو ثلث ما عليه، أو ثلاثة أرباع ما عليه، صار بذلك حراً، ثم يستقرُّ الباقي في ذمته، حتى يؤديَه.
وأورد لنا أيضًا حديث: "عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، أنهما كانا يقولان: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ.". وجاء أيضًا في البخاري تعليقاً: قالت عائشة: هو عبدٌ ما بقي عليه شيءٌ. وقال زيد بن ثابت: ما بقي عليه درهم، وأوصلَ سندَهما ابنُ حجَرٍ العسقلاني في الفتح.
"قَالَ مَالِكٌ : وَهُو رَأْيِي." يعني: المُرجح عندي في اجتهادي. إذَا؛ فعند الجمهور: لا يُعتَق حتى يؤديَ جميع الكتابة، وإذا بقي عليه شيءٌ حتى درهمٌ واحد فلا يزال مملوكًا، إنما يستفيد من الكتابة، الإذنَ في التصرف وفي المُلك.
وجاء عن أم سلمة: كُنَّا أزواج النبي ﷺ لا يحتجبنَ من مُكاتَب ما بقي عليه دينار. وجاء في روايةٍ عند أبي بكر، قال ابن الخطاب: إذا أدَّى ثلاثةَ أرباع الكتابة، وعجز عن ربُعٍ، عَتَق؛ لأنه يجب رده إليه، فلا يُرد إلى الرق بِعَجْزه عنه، وإنه عجز عن أداء حقٍ هو له، لا حقٍ لسيده؛ فلا يُعَجَّز في ذلك. وجاء في روايةٍ عن سيدنا علي: أنه يُعتق منه بقدر ما أدَّى؛ إن أدَّى ثلث الكتابة، أعتق ثلثه ، وإن أدَّى نصفه أعتق نصفه، إن أدَّى ثلثيها اعتق ثلثاه وهكذا.
وجاء عن ابن عباس أيضًا ويُروى مرفوعًا: يؤدي المُكاتَب بِحصَّة ما أدَّى، ديةَ حُرٍ، وما بقي ديةَ عبد. جاء عند الإمام الترمذي؛ يعني: أنه يُعتَق منه بمقدار ما أدَّى من الكتابة، بحسب النسبة. وهكذا جاء عن سيدنا عمر وسيدنا عليٍّ يُروى عنهما: إذا أدَّى قدر الشطر -النصف- فلا رِقَّ عليه. يعني: ويُسلِّم الباقي بعد ذلك. وقال ابن مسعود: إذا أدى قدر قيمته، فهو غريم، وعلى ذلك كان يقضي القاضي شُريح. وجاء عن الحسن في المُكاتَب: إنه إذا عَجز استسعى بعد العجز سنتين.
"قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ هَلَكَ الْمُكَاتَبُ" توفي "وَتَرَكَ مَالاً" قبل أن يؤديَه إلى السيد، "أَكْثَرَ"؛ يعني: يزيد "مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ" من مال "كِتَابَتِهِ، وَلَهُ وُلَدٌ"، وُلْدٌ: جمع وَلَد، "وُلِدُوا في" زمن" كِتَابَتِهِ"، أي: بعد ما عقده مع السيد، "أَوْ" هو "كَاتَبَ عَلَيْهِمْ،" أيضًا سيدَه، "وَرِثُوا مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ قَضَاءِ كِتَابَتِهِ."؛ أي: بعد أداء مال المُكاتَبة إلى سيده. فهكذا المُكاتَب إذا "ترك مالاً" يزيد على كتابته "وَلَهُ وُلَدٌ"، فأولادُه يرثون الكتابة، ويؤدون الدَّينَ عن أبيهم، ويرثون بقيةَ تركة أبيهم.
قال: "وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِ: أَنَّ مُكَاتَباً كَانَ لاِبْنِ الْمُتَوَكِّلِ هَلَكَ بِمَكَّةَ"؛ أي: توفي بمكة مُكاتَبًا، "وَتَرَكَ عَلَيْهِ بَقِيَّةً مِنْ كِتَابَتِهِ وَدُيُوناً لِلنَّاسِ" عليه، ومالًا كثيرًا، "وَتَرَكَ ابْنَتَهُ"، ابنةً حرة، "فَأَشْكَلَ عَلَى عَامِلِ مَكَّةَ"؛ يعني: أمير مكة الْقَضَاءُ فِيهِ" في هذه المسألة، "فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ،" لأنه كان الخليفة، "فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَنِ ابْدَأْ بِدُيُونِ النَّاسِ"،يعني: يقضي ديون الناس أولًا، "ثُمَّ اقْضِ مَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ، ثُمَّ اقْسِمْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَمَوْلاَهُ."؛ أي: مُعتِقِه الذي كاتَبَه، لأنه لا عَصَبَة له، فتُعطى ابنتُه نصيبَها مما يبقى، وهو النصف، والنصف الآخر من الباقي، يعود إلى سيده لأنه المُعتِق، لأنه لا عَصَبَة له يرثونه، فيعود الإرثُ إلى السيد.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا : أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ"؛ يعني: بمعنى لا يجب عليه، إنما هو مندوب باتفاق؛ وليس يجب على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، يعني: بل هو مستحب له، فهو مندوب باتفاق، إذا كان أمينًا قادرًا على الكسب. "وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَداً مِنَ الأَئِمَّةِ أَكْرَهَ رَجُلاً" يعني أجبره "عَلَى أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ" إذا سأله ذلك.
وجاء عن ابن جُرَيج قال: قلتُ لعطاءٍ: أواجبٌ عليَّ إذا علمتُ له مالًا أن أُكاتِبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. قال عمرو بن جريج: قلت لعطاءٍ أتأثُرُه عن أحد؟ قال: لا. إنما هذا رأيه.
قال: أخبرني أن موسى بن أنسٍ أخبره: أن سيرين سأل أنَساً المُكاتَبَة، وكان كثيرَ المال، فأبى. فانطلق إلى عمر، فقال: كاتِبُه، فأبى، فضربه بالدُّرة، ويتلو عمر: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا). إذًا: إنما قال بوجوبها مثل ابن جُريج -وجوب المُكاتَبة- إذا طلبها العبد، وهو قادرٌ على الكسب وأمين. وحملوا ما رُويَ عن سيدنا عمر، من الضرب بالدرة وغيره، على سبيل التأديب؛ لأنه يؤدَب صاحبُ المكانة والقدر على المندوب، كما يؤدَب غيرُه على الواجب.
"وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا)" [النور:33] "يَتْلُو هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)" [المائدة:2] ، "(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:10]". هذا واجب؟! لا هذه اباحة، وهو على سبيل الندب.
ففي أمر يأتي في القرآن، لكن ليس واجب؛ ليس على من اعتمر أو حج، إذا حلَّ من العمرة أو من الحج، أن يذهب فيصطاد!. (إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)؛ يعني: يباح لكم الصيد، بعدما كان مُحرّماً عليكم مدة ما كنتم مُحرِمين، فإذا انتهيتم وتحللتم، جاز لكم أن تصيدوا، لكن لا يجب أن تصيد، وإلا صار واجبٌ على جميع المعتمرين والحجاج يذهبوا ويصيدوا!! فالمعنى: أن الأمر ليس للوجوب، وأكثرُ ما يأتي من صيغ الأمر بعد المنع، يكونُ معناه: الإباحة، إذا مُنع الصيد، ثم جاء الأمر بالصيد، يعني أُبِيح لك.
وإذا صلى رجلٌ الجمعة، وجلس محله في المسجد معتكف، هل حرام عليه؟ هل عليه يخرج من المسجد لأن الله قال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) واجبٌ بعد الجمعة نخرج ونتِّجر وندوِّر كسب ونسعى للكسب؟! (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) يعني: خلاص يُباح، كان الله قد حرَّم علينا البيع، أثناء الخطبة إذا دخل الخطيب، وأيضًا حرَّم علينا البيع، فإذا قُضيت الصلاة، ابتغوا من فضل الله، إن أردتم ان تبيعوا وتشتروا، يعني: أًبِيح لكم ذلك، لكن ليس لازماً عليكم.
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ." "قَالَ مَالِكٌ :وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)[النور:33]، إِنَّ ذَلِكَ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ غُلاَمَهُ، ثُمَّ يَضَعُ عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ شَيْئاً مُسَمًّى. قَالَ مَالِكٌ: فَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ." إذا كاتَبَ العبد سيدَه، يُندَب له أيضًا أن يضع وينقص عنه شيئًا في آخر كتابته، -شيئًا مسمىً -يسامحه فيه،(وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)[النور:33]"قال: هذا أحسن ما سمعتُ من أهل العلم" في تفسير الإيتاء هذا (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ). "وَأَدْرَكْتُ عَمَلَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا." يعني بالمدينة المنورة.
وقال غيرهم: أنه لا يجب، لقوله تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)، فاختلفوا أيضًا هل الأمر للندب أو للوجوب؟
فالأمر أيضًا في الآية عند الأكثر أن معناه: أن يَحطُّ عن المُكاتَب شيئًا من مال الكتابة، وهكذا قال به الإمام الشافعي: أنه يلزم السيد أن يَحُطَّ عنه جزءًا من المال أو يدفعه إليه، والحط أولى. قال: وفي النجم الأخير، يعني التوقيت الثاني أَلْيَق.
(فَكَاتِبُوهُمْ) كما في قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) وكذلك (وَآتُوهُمْ)، نفس الأمر حَمَلُوه على الندب، وقال الشافعي ومن وافقه: أن ذلك للوجوب.
"قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَاتَبَ غُلاَماً لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلاَثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَضَعَ عَنْهُ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ." فَسَّرَ قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ).
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ تَبِعَهُ مَالُهُ" على القول أن العبدَ يملك، مَن كاتبَ عبداً وله مالٌ تبعه مالُه. "وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ"؛ يعني: المُكاتَب، لأنه لا يدخل في الكتابة، لأنه نفسٌ مستقلة.
قال: "وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ" لم يدخل في الكتابة، "إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُمْ" المُكاتَب "فِي كِتَابَتِهِ" يدخلون فيه بشرط، بينه وبين سيده.
"قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الْمُكَاتَبِ يُكَاتِبُهُ سَيِّدُهُ، وَلَهُ جَارِيَةٌ بِهَا حَبَلٌ مِنْهُ، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ هُوَ وَلاَ سَيِّدُهُ يَوْمَ كِتَابَتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتْبَعُهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ، وَهُوَ لِسَيِّدِهِ، فَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَإِنَّهَا لِلْمُكَاتَبِ لأَنَّهَا مِنْ مَالِهِ."
"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَرِثَ مُكَاتَباً مِنِ امْرَأَتِهِ هُوَ وَابْنُهَا: إِنَّ الْمُكَاتَبَ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ كِتَابَتَهُ اقْتَسَمَا مِيرَاثَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَإِنْ أَدَّى كِتَابَتَهُ، ثُمَّ مَاتَ، فَمِيرَاثُهُ لاِبْنِ الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْء"، رجلٌ وَرّثَ مُكَاتَبًا من امرأته يعني: الزوج وابنها، يعني: ماتت المرأة وتركت مُكَاتَبَا في الميراث، وتركت وارثَين: الزوج والابن، فإن المُكَاتَب في قول الإمام مالك: "إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ كِتَابَتَهُ اقْتَسَمَا"؛ يعني: الزوج والابن مِيرَاثَهُ، -ميراث المُكَاتَب- عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، يعني: للزوج الربُع، وثلاثة أرباعٍ للابن.
"وَإِنْ أَدَّى كِتَابَتَهُ، ثُمَّ مَاتَ"؛ فإذًا مات حراً، "فَمِيرَاثُهُ لاِبْنِ الْمَرْأَةِ"، لأن الميراث حينئذٍ للولاء، وهو لأقرب العَصَبات. "وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ" لأنه ليس بعَصَبَةٍ للميت.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُكَاتَبِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ قَالَ: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَرَادَ الْمُحَابَاةَ لِعَبْدِهِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ." "وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا كَاتَبَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ، وَطَلَبِ الْمَالِ، وَابْتِغَاءِ الْفَضْلِ وَالْعَوْنِ عَلَى كِتَابَتِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ."
"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَطِئَ مُكَاتَبَةً لَهُ: إِنَّهَا إِنْ حَمَلَتْ فَهِيَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنْ شَاءَتْ قَرَّتْ عَلَى كِتَابَتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ فَهِيَ عَلَى كِتَابَتِهَا."؛ يعني: لا تصيرُ أُمَّ ولد بمجرد وطئِه لها، فإذا حملت خُيِّرَت، ما بين أن تُعجِّزَ نفسها فتصيرَ أُمَّ ولد بذلك الحمل، وإن شاءت قرَّت على كتابتها. والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة ودفع عنا الأسواء، وألهمنا الرشد في الحركات والسكنات، وكَشَفَ عنا الكُربات وأسعدنا بأعلى السعادات، في الدنيا والآخرات، وكشف كروب المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وجعلنا ممن ترعاهم عين العنايات في جميع الحالات، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
22 صفَر 1444