شرح الموطأ - 422 - كتاب العتق والولاء: باب عِتْق الحيِّ عن المَيِّتِ، وباب مصِير الولاء لمَن أعْتَق

شرح الموطأ - 422 - كتاب العتق والولاء: باب عِتْقِ الْحِيِّ عَنِ الْمَيِّتِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العتق والولاء: باب عِتْقِ الْحيِّ عَنِ الْمَيِّتِ.

 فجر الثلاثاء 10 صفر 1444هـ.

باب عِتْقِ الْحيِّ عَنِ الْمَيِّتِ

2277 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي عَمْرَةَ الأَنْصَاري: أَنَّ أُمَّهُ أَرَادَتْ أَنْ تُوصِيَ، ثُمَّ أَخَّرَتْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُصْبِحَ فَهَلَكَتْ، وَقَدْ كَانَتْ هَمَّتْ بِأَنْ تُعْتِقَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ : لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَيَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا، فَقَالَ الْقَاسِمُ إِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أُمِّي هَلَكَتْ، فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ".

2278 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَوَفَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرٍ فِي نَوْمٍ نَامَهُ، فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ رِقَاباً كَثِيرَةً.

قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.

باب فَضْلِ عِتْقِ الرِّقَابِ وَعِتْقِ الزَّانِيَةِ وَابْنِ الزِّنَا

2279 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنِ الرِّقَابِ أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَغْلاَهَا ثَمَناً، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا".

2280 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ أَعْتَقَ وَلَدَ زِناً وَأُمَّهُ.

باب مَصِيرِ الْوَلاَءِ لِمَنْ أَعْتَقَ

2281 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوْقِيَةٌ، فَأَعِينِينِى. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَنْكِ عَدَدْتُهَا, وَيَكُونَ لِي وَلاَؤُكِ فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ، فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ إنِّي قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَىَّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ. فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".

2282 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "لاَ يَمْنَعَنَّكِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".

2283 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا، فَقَالُوا: لاَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".

2284 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ.

2285 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَبْتَاعُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُوَالِي مَنْ شَاءَ: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَذِنَ لِمَوْلاَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ مَا جَازَ ذَلِكَ، لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ، فَإِذَا جَازَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لَهُ، وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ، فَتِلْكَ الْهِبَةُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بشريعتهِ وبيانها على لسان حبيبه وصفوته، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الحق تعالى في بريّته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل الإمام مالك ذكر الأبواب المتعلقة بالعتق، ويقول: "باب عِتْقِ الْحِيِّ عَنِ الْمَيِّتِ"، وفيه ما يتقرّب إلى الله به الأحياء إذا أرادوا أن يجعلوا ثوابه لمن مات، وجاء نظر الفقهاء في العبادات وقالوا: 

  • منها عبادات بدنية محضة؛ مثل الصلاة والتلاوة ونحوها.
  • منها عبادات بدنية ومادية؛ تجوز فيها النيابة. 

فأما ما كان من الأعمال التي تقبل النيابة مثل: الصدقة، والدعاء، والاستغفار، والوقف عن الميت، وبناء المسجد عنه أو الحج عنه، إذا جعل ثوابها لأي ميت فهذا باتفاق أهل العلم: أن ذلك يصحُّ ويصل الثواب إلى ذلك الميت.

وأما بقية العبادات فقال الحنفية والحنابلة: للمؤمن أن يجعل ما شاء من عبادته لغيره، صحَّت فيها النيابة أو لم تصح. وهكذا جميع أنواع العبادات كما ورد الحديث في الصدقة وفي الحج ونحو ذلك، والعتق كذلك كما تقرأ في الموطأ.

ونُقِل عن الإمام الشافعي: أن ما عدا الصدقة ونحوها مما يقبل النيابة كالدعاء والاستغفار، مثل الصلاة عنه ونحوها فإنه لا تُفعَلُ عنه، وذهب المتأخرون من الشافعية إلى أنه يصح ذلك ويجوز كما حكى الإمام النووي في شرح مسلم وغيره في الأذكار: أن ثواب القراءة يصل إلى الميت، واختاره جماعة من أصحاب الشافعي، قال: منهم ابن الصلاح والمحب الطبري وصاحب الذخائر، قال الإمام النووي: وعليه عمل الناس، و "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" حديث أخرجه الإمام أحمد من قول ابن مسعود موقوفًا عليه بسندٍ حسن. 

فتبيّن بذلك اتفاق المذاهب الأربعة في المسألة، وألّف في ذلك الشيخ محمد العربي التبّاني -عليه رحمة الله تعالى- الذي كان صاحب التدريس بالمسجد الحرام في وقته، رسالة في: (وصول ثواب القراءة إلى الأموات) وذكر النُقُولات عن الأئمة الأربعة وغيرهم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. 

أورد لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي عَمْرَةَ الأَنْصَاري -رضي الله تعالى عنه-: "أَنَّ أُمَّهُ أَرَادَتْ أَنْ تُوصِيَ، ثُمَّ أَخَّرَتْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُصْبِحَ"؛ فجاءها الموت فماتت، "وَقَدْ كَانَتْ هَمَّتْ بِأَنْ تُعْتِقَ"؛ أي: توصي بالعتق، "فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ : لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ"؛ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد فقهاء المدينة المشهورين -الفقهاء السبعة-، "أَيَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا، فَقَالَ الْقَاسِمُ"؛ في جوابه، "إِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أُمِّي هَلَكَتْ"؛ أي: ماتت، وكان سيدنا سعد مع النبي ﷺ في غزوة دومة الجندل عندما ماتت أمه سنة خمس من الهجرة، فلما رجع وجد أمه قد توفيت، "فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ". وهكذا؛ جاء في رواية النسائي: "أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: اعتق عن أمك."؛ أعتق عن أمك. فإذًا؛ أقرَّ الرسول ﷺ عمل العبادة عن الميت والنيابة عنه في فعل هذه الطاعة والعبادة التي منها عتق الرقاب.

وذكر حديث عبد الرحمن بن أبي بكر: "أَنَّهُ قَالَ تَوَفَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرٍ فِي نَوْمٍ نَامَهُ، فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ"؛ أخته، "زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ"؛ أم المؤمنين، "رِقَاباً كَثِيرَةً". يقول مَالِكٌ: "وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ."؛ أي: في العتق عن الميت. 

فهذا دليل أن الإمام مالك يقول بذلك، وما شُهِرْ من الخلاف في مذهبه؛ فيُحمل على روايةٍ عنه، وكلامه هنا يدل على قوله بوصول ثواب العتق عن الميت، قال: أحسن مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.

وجاء أيضًا في رواية النسائي عن واثلة بن الأسقع قال: كنا عند النبي ﷺ في غزوة تبوك فقلنا: إن صاحبًا لنا قد مات، قال: فقال ﷺ: "أعتِقوا عنه، يُعتِقِ اللهُ بكلِّ عُضوٍ منه عُضوًا منه من النارِ."؛ وهذا في أواخر أيامه فهي آخر غزوة غزاها ﷺ غزوة تبوك، في السنة التاسعة من الهجرة النبوية.

 

باب فَضْلِ عِتْقِ الرِّقَابِ وَعِتْقِ الزَّانِيَةِ وَابْنِ الزِّنَا

 

ثم يذكر -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: فضل عتق الرقاب، كائنةً ما كانت، مؤمنة أو كافرة، أو كان المملوك ابن زنا أو ما إلى ذلك، كله يثاب على إعتاقهِ من عند الله تبارك وتعالى. 

يقول: "عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنِ الرِّقَابِ أَيُّهَا أَفْضَلُ؟"؛ والحديث أيضًا في الصحيحين، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَغْلاَهَا ثَمَناً"؛ وفي رواية مسلم: "أكثرها ثمنًا"، "وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا."؛ يعني: أكثرها رغبةً عند أهلها. 

ويقول الإمام النووي: إن هذا محله أيضًا في من  أراد أن يعتق واحد، أما من عنده مثلًا ألف درهم ويستطيع أن يشتري بها رقبة واحدة نفيسة أو رقبتين مفضولتين، يقول الإمام النووي: الإثنين أفضل من الواحدة، لتعدد الثواب والعتق من النار عن هذه وعن هذه، وأما إذا أراد واحدة؛ فالتي هي أنفس وأغلى هي الأفضل. 

قال الإمام النووي بخلاف الأضحية: فإن الواحدة السمينة في الأضحية أفضل، قال: لماذا؟ قال: لأن المطلوب هنا فك الرقبة وهذا تعدد فك الرقاب، وهناك المطلوب طيب اللحم، فالواحدة السمينة أفضل من اثنتين هزيلتين، أما هنا المقصود عتق الرقاب؛ ففكها يتعدد أحسن من أن يكون واحدة، "أَيُّهَا أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَغْلاَهَا ثَمَناً، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا".

وذكر: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ أَعْتَقَ وَلَدَ زِناً وَأُمَّهُ."؛ التي زنت، امتثالًا لأمره ﷺ. وعلى ذلك الجمهور: أن هذا ابن الزنا كغيره في أحكام الدنيا من البيع والشراء والعتق وغيرها. وجاء أيضًا عن ابن عمر -رضي الله عنهما يقول: أمرنا رسول ﷺ أن نمنَّ على أولاد الزنا بالعتق. وجاء عن ابن عباس أنه سئل عن مَمْلُوكَيْن، أحدهما لبغيّة والآخر لرشدة، أيهما يعتق؟ قال: أغلاها ثمنًا بدينار. فهكذا؛ قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء. 

 

باب مَصِيرِ الْوَلاَءِ لِمَنْ أَعْتَقَ

 

والولاء لمن أعتق؛ إنما يصير الولاء لمن أعتق لا لسواه. 

يقول: "عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ"؛ كانت لناس من الأنصار، وقيل من بني هلال مملوكة لهم، وقالت للسيدة عائشة: "إنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي"؛ يعني: مَالِكِيَّ ومن لي الرق لهم، "عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوْقِيَةٌ"؛ وهذه التسع الأواق عبارة عن أربعين درهم، فبقيت معلَّقة عليها خمس أواق نَجَّمَتْ في خمس سنين، قَالَتْ: "فَأَعِينِينِى"؛ بصيغة التماس الإعانة "فَأَعِينِينِى"، وفي رواية: "فَأعْيَتْنِي"؛ ما قدرت على أن أسدِّد الذي كاتبتهم عليه. 

والمُكَاتَبُون يجوز صرف الزكاة إليهم، بل هو لهم سهم: (وَفِي الرِّقَابِ) [التوبة:60]، وعليه جمهور الفقهاء. ويقول الإمام مالك: أنَّ سهم الرقاب في الزكاة تُصرف لإعتاق الرقاب، أما أن يعان منها مكاتب أو نحوه؛ فلا عنده؛ لأنه لا يزال مملوك. 

لمّا قالت لها هكذا، قالت لها السيدة عَائِشَةُ: "إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا"؛ يعني: أعطيهم الثمن كامل، "لَهُمْ عَنْكِ عَدَدْتُهَا"؛ يبيعونك لي يعني، "وَيَكُونَ لِي وَلاَؤُكِ"؛ أنا أعتقك ويكون ولاؤك لي، فهو محمول على أنها عجزت عن المكاتبة والتغت المكاتبة، وأرادت السيدة عائشة الآن أن تشتريها بباقي ما عليها من الثمن منهم وتعتقها، "فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا"؛ قالوا لها: لا، إذا سلَّمت الباقي نعم تصيرين حُرّة ولكن الولاء لنا نحن الذين اعتقناكِ، وهم ما أعتقوها وقد عجزت عن أداء النجوم الكتابة. 

"فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ، فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ إنِّي قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَىَّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ. فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهَا"؛ قال: ما هذا؟ "فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خُذِيهَا"؛ وهذا دليل على أنه بيع، أنهم يبيعونها بهذا الثمن، قالوا: نعم سوف نبيعك بباقي الثمن الذي كاتبناها عليه ولكن الولاء لنا.

قال: "خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ"؛ يعني: لا اعتبار بهذا الشرط، "فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"؛ قال: والشرط هذا باطل في اشتراط الولاء لهم، "فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ"؛ ما أمرها به النبي ﷺ.

وقال بعضهم: أن هذا الحكم خاص بالسيدة عائشة -عليها الرضوان- في هذه القضية، وأنها كانت الكتابة سارية، وبدليل أنها قالت: أعينيني، ولكن قوله ﷺ: "خُذِيهَا"؛ دل على أنها مُشترية لها، وأنها قد عجزت عن إكمال ما عليها في الكتابة.

"فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ"؛ اشترت وأعتقت، اشترتها منهم واعتقتها، "ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؛ خطيبًا  "فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ"؛ ليست في حكمه وقضائه سبحانه وتعالى، "مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ"؛ يعني: ما يؤثّر اشتراط شيء فيما خالف الشريعة ولا عبرة به، "قَضَاءُ اللَّهِ"؛ حكمُهُ، "أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ."

فبيّن ﷺ الحُكمَ في الولاء، وأنه لا يصير الولاء إلا لمن أعتق، ولو كان أعتق عن غيره مثل ما ذكرنا عن الميت، أعتق عن الميت، ثمَّ؟ الولاء للميت يرثونهُ ورثته أم للمُعْتِق؟ الولاء للمُعْتِق، وإذا أعتق عن الحي؟ كذلك بغير إذنه كذلك.. أو بإذنه؟ أو بإذنه أعتَقَ عنه بإذنه؛ صار الآن الولاء للمُعتَقْ عنه؛ لأن هذا صار كالوكيل له. 

لكن قال أبو حنيفة: لا، الولاء للمُعْتِق، لا يكون الولاء للمُعتَق عنه إلا إن كان عِوَضْ، بِعِوَضْ نعم، إذا أعتق عنه بإذنه بِعِوَضْ يصير الولاء للمُعْتَق عنه، وإن كان بغير عِوَض فللمُعْتِق وإن كان بإذنه وهو حي، أما بغير إذنه وهو ميّت فمتفق عليه: الولاء لمن أعتق، لا للمعتَق عنه. "وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، والحديث أيضًا في الصحيحين وغيرهما. 

ذكر: "أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا نَبِيعُكِهَا"؛ وهذا فيه تصريح أنه بيع؛ لأن الحادثة نفسها والجارية هذه بريرة -عليها رضوان من الله-، ففيه تصريح بأنه بيع وأن المكاتبة قد انفسخت بعجزها. 

قال: "أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا نَبِيعُكِهَا"؛ معناها: خلاص انتهت المكاتبة وسيبيعونها الآن على السيدة عائشة، "عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "لاَ يَمْنَعَنَّكِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"؛ أي: شرطهم هذا باطل. 

وذكرَ أيضًا: "أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً"؛ أدفعه عاجلًا مرة واحدة، "وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا، فَقَالُوا: لاَ إِلاَّ"؛ بشرط، "أَنْ يَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ". قال مالكٌ: "قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".

وذكر: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ"؛ فلا يصح ولا يجوز أن يُباع الولاء أو يوهَب لآخر، الولاء نفسه خاص بمن أنعمَ بالعتق، فلا ينتقل إلى غيره ببيع. كانوا في الجاهلية ينقلونه بالبيع والهبة ونحوها، فنهى عن ذلك رسول الله ﷺ، فلا يصح بيع الولاء ولا هبته ولا أن يأذن لمولاه يجعل ولاءه لمن شاء، لا، ليس في ذلك إذْنٌ في الشريعة الغراء.

 "قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَبْتَاعُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُوَالِي مَنْ شَاءَ: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"؛ نعم، ولاء المُكاتَب والمُدَبَّر لسيديهما إذا أُعتِقا، وعليه عامة الفقهاء

"وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَذِنَ لِمَوْلاَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ مَا جَازَ ذَلِكَ، لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ، فَإِذَا جَازَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لَهُ، وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ، فَتِلْكَ الْهِبَةُ"؛ التي لا تجوز فهي منهيٌّ عنها، فلا يصح ذلك، والله أعلم. 

رزقنا الله الاستقامة وأتحفنا بالكرامة، وأعتقنا من النار ومن العار ومن الذنوب ومن العيوب، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وثبّتنا على ما يحب وجعلنا فيمن يحب، ورفعنا أعلى مراتب القرب منه والدنو إليه مع خواص أهل القرب في عافية، مع صلاح الشؤون الظاهرة والخافية لنا وللمسلمين، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

22 صفَر 1444

تاريخ النشر الميلادي

18 سبتمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام