شرح الموطأ - 419 - كتاب العتق والولاء: باب القَضَاء في مَالِ الْعَبْدِ إِذَا عَتَق

شرح الموطأ - 419 - كتاب العتق والولاء: باب الْقَضَاءِ فِي مَالِ الْعَبْدِ إِذَا عَتَقَ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العتق والولاء، باب الْقَضَاءِ فِي مَالِ الْعَبْدِ إِذَا عَتَقَ، وباب عِتْقِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ وَجَامِعِ الْقَضَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ.

 فجر السبت 7 صفر 1444هـ.

باب الْقَضَاءِ فِي مَالِ الْعَبْدِ إِذَا عَتَقَ

2259- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ.

2260- قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كُوتِبَ تَبِعَهُ مَالُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ هُوَ عَقْدُ الْوَلاَءِ إِذَا تَمَّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَالُ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ لَهُمَا مِنْ وَلَدٍ، إِنَّمَا أَوْلاَدُهُمَا بِمَنْزِلَةِ رِقَابِهِمَا، لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِهِمَا، لأَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا، أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ، وَأَنْ الْمُكَاتَبَ إِذَا كُوتِبَ تَبِعَهُ مَالُهُ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ.

2261- قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً: أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمُكَاتَبَ إِذَا أَفْلَسَا أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمَا وَأُمَّهَاتُ أَوْلاَدِهِمَا، وَلَمْ تُؤْخَذْ أَوْلاَدُهُمَا، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَمْوَالٍ لَهُمَا.

2262- قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا بِيعَ وَاشْتَرَطَ الَّذِي ابْتَاعَهُ مَالَهُ، لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُهُ فِي مَالِهِ.

2263- قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَرَحَ أُخِذَ هُوَ وَمَالُهُ، وَلَمْ يُؤْخَذْ وَلَدُهُ.

باب عِتْقِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ وَجَامِعِ الْقَضَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ

2264- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: أَيُّمَا وَلِيدَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَبِيعُهَا، وَلاَ يَهَبُهَا، وَلاَ يُوَرِّثُهَا، وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ.

2265- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَتْهُ وَلِيدَةٌ قَدْ ضَرَبَهَا سَيِّدُهَا بِنَارٍ، أَوْ أَصَابَهَا بِهَا، فَأَعْتَقَهَا.

2266- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ عَتَاقَةُ رَجُلٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ، وَأَنَّهُ لاَ تَجُوزُ عَتَاقَةُ الْغُلاَمِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، أَوْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْمُحْتَلِمِ، وَأَنَّهُ لاَ تَجُوزُ عَتَاقَةُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ بَلَغَ الْحُلُمَ حَتَّى يَلِيَ مَالَهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريته سيِّدنا مُحمَّد عبد الله وصفوته، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل متابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين صفوة الله في خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعهم وعلى الملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين بمحض فضله ومِنّته. 

وبعدُ،

فيواصل سيِّدنا الإمام مالك ذكر الأحكام المتعلِّقة بالعتق، ويتكلم في هذا الباب على المال إذا عَتَق العبد وتحت يده شيء من المال، إما بتجارة أذِن له سيِّده أن يتّجر أو كان مُكاتبًا فبقي مما اكتسبه في أيام الكتابة مالٌ تحت يده، فعتق بعد ذلك. يقول: "باب الْقَضَاءِ فِي مَالِ الْعَبْدِ إِذَا عَتَقَ"، ولا خلافة في مسألة إذا كان مُبعضًا فاكتسب شيئًا ببعضه الحر، فإن ذلك لا يدخل لسيِّده بل هو خاص به. وكذلك المُكاتب إذا أدى ما عليه من كتابة. لكن الكلام في العبد القن الخالص إذا أعتقه سيِّده وتحت يده شيء من المال، هل يأخذ هذا المال معه أو يبقى المال كلّه للسيِّد -الذي هو مالكه-؟ فالذي عليه الجمهور غير ما ذهب إليه الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-. 

  • الذي عليه الجمهور: أن العبد لا يملك شيئًا بحد ذاته، بل كلُّه هو وما ملك لسيِّده. فإذا عتقه سيِّده، فالمال الذي تحت يده بإذن السيِّد يرجع أيضًا إلى السيِّد إلا أن يتصدَّق عليه بشيء، أن يعطيه شيء، فإنه الآن بعد العتق صار أهلًا لأن يملك. وهذا إنما كان قبل العتق، فهو مال سيِّده، هو كذلك عند الحنفية والشَّافعية والحنابلة، يكون المال لسيِّده.
  • وقال الإمام مالك: ما كان تحت يده فيُعتق معه كما أعتقه، فيعتق المال الذي معه. وجاءت في ذلك بعض الروايات، وأخذ الجمهور بالروايات التي فيها أن العمالة للسيِّد.

قال -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ"؛ يعني: إلا أن يستثنيه السيِّد قبل أن يعتقه، فإن استثنى السيِّد -هذا مذهب مالك-، فإن استثناه السيِّد وقال: اعتقك المال الذي تحت يدك فهو مالي، فهذا يرجع المال إلى السيِّد. فإذا لم يستثني، فما تحت يده وقبضته؛ يُعتَق معه في مذهب الإمام مالك. فعلِمت مذهب الأئمة الثلاثة، أنه إنما يكون المال لسيِّده.

"قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ"؛ أي: هذا الحُكم "أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا كُوتِبَ تَبِعَهُ مَالُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ" العبد المُكاتب لأنه أحرز نفسه وماله بالكتابة، وهذا هو الفرق عند الجمهور بينه وبين العبد القِن؛ أي: الخالص الذي أعتقه سيِّده. هذا بالكتابة صار الآن يملك، ومع ذلك فإنه إذا لم يؤدي حق الكتابة أو رفض بعد ذلك العتق؛ رجع بجميع ماله إلى سيِّده. إذًا فإنما أُذن له فيبقى مُعلَّقًا إن عتق، بان أن ما اكتسبه فلو إن لم يعتق، عاد بماله كلّه إلى سيِّده، هذا في المُكاتب، ولهذا لم يقيسه الجمهور على العبد القِن؛ أي: العبد الخالص غير المُكاتب وغير المبعَّض. 

قال: "وَذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ هُوَ عَقْدُ الْوَلاَءِ" بعينه "إِذَا تَمَّ ذَلِكَ"؛ أي: تم عتقه بأداء الكتابة، فكذلك العتق أيضًا عقد الولاء لنفسه بتمام العتق. يريد أن الكتابة عقد يقتضي ثبوت الولاء كالعتق، إذا أعتق؛ له ولاء المُعتق مُعتَق. وإذا كاتب؛ فله ولاء المُكاتب كذلك. فإذًا؛ قاس على ذلك الإمام مالك، ولم يرتضي هذا القياس بقية الأئمة. 

قال: "وَلَيْسَ مَالُ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ لَهُمَا مِنْ وَلَدٍ"، ليس مال العبد ومال المُكاتب بمنزلة ما كان لهما من ولد، بينهما فرق ظاهر، وهو أن "إِنَّمَا أَوْلاَدُهُمَا بِمَنْزِلَةِ رِقَابِهِمَا"، بمنزلة ذواتهما؛ يعني مملوكة للسيِّد. فاتفقوا على أن ولد المُكاتب، لا يدخل في كتابة المُكاتب إلا بالشرط لأنه عبد آخر لسيِّده. وكذلك اتفقوا على دخول ما ولد له في الكتابة، أيام الكتابة؛ يدخل فيها الولد، ما كان له من أمة له، من أمة لسيِّده، فهو زوّج مملوكه على أمته؛ فما تلد تلك الأمة فهو ملك للسيِّد. "لَيْسُوا"؛ يعني: الأولاد "بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِهِمَا"، بل أموالهما ملك لهما عند الإمام مالك ومَن وافقه. وهذا على القول أنه إذا ملّك السيِّد عبده مالًا؛ أنه يملكه. 

هذا عليه الحديث مَن ابتاع عبدًا وله مال… فمعناه أنه إذا ملّكه سيِّده ما ملكه، وهذا إذًا مذهب الإمام مالك والقديم عند الشَّافعي. لكن المذهب الجديد -مذهب الإمام الشَّافعي- وكذلك أبو حنيفة، أنه لا يملك شيئًا وإن ملّكه لسيِّده، هذا حق ملك لك، لا يدخل في ملكه لأنه بنفسه مملوك، فكيف ما تحت يده؟ ما يتأتى. فهو وما تحت يده كلّه ملك لسيِّده. العبد وما ملك لسيِّده.

 والعبد ليس يملك شيئًا مع مولاه؛ يقول سيِّدنا الحداد عن نفسه، بينه وبين الله -تبارك وتعالى- لمَّا بنى المسجد، قال: أنه لله من الله والعبد ليس يملك شيئًا مع مولاه، بناه لله من عطاه، قال: عطاؤك هذا ملكك، وأنا ما أملك شيئًا معك، لا إله إلا الله…

 هكذا ولمَّا أرادوا كتابة الورقة في أرض اشتراها شيخنا الحبيب أبو بكر العطاس بن عبد الله الحبشي -عليه رحمة الله-، وجاءوا له بصيغة بعد وقت اشتراه تملّكها لنفسه أبوبكر، وكان في أيام في أيام شهود عبوديته، قال: إيش هذا؟ قال: كيف اشتراها؟ أنا عبد ماذا أملك؟ لا شيء تملكه نفسي… كيف نعمل؟ أخذوها كتبوها باسم واحد من المحبين والقائمين وكتبوه باسمه. قال أنا عبد ما أملك شيء! ماذا أملك كيف اشتراه وتملكه لنفسه!.. أتملك إيش مع ربي المُلك ملكه، والأرض أرضه والسَّماء سماؤه أنا أملك إيش؟!.. فما رضي يكتبون هذا وهو في تلك الحالة فرجعوا وكتبوه باسم واحد من أصحابه، قال: أما أنا ما أملك شيئًا، لا إله إلا الله… العبد وما ملك لسيِّده، وهذا عليه مذهب الجمهور. 

قال: وَلَيْسَ مَالُ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ لَهُمَا مِنْ وَلَدٍ، إِنَّمَا أَوْلاَدُهُمَا بِمَنْزِلَةِ رِقَابِهِمَا، لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِهِمَا، لأَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا، أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَتَقَ تَبِعَهُ مَالُهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ"، بل الولد يبقى في ملك السيِّد لأن الولد ذاتٌ مثل الأصل. قال مالك: "وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ" الفرق بين المال والولد، "أَنَّ الْعَبْدَ" المأذون له في التجارة "وَالْمُكَاتَبَ إِذَا أَفْلَسَا" بكثرة الديون عليهما، "أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمَا" لأهل الدّين "وَأُمَّهَاتُ أَوْلاَدِهِمَا"، وتؤدى بهم الديون "وَلَمْ تُؤْخَذْ أَوْلاَدُهُمَا"، كيف أمهات أولادهما؟ أم الولد إذا كان يملكها، ولدت منه وهو مالك لها، هذه أم الولد. "وَلَمْ تُؤْخَذْ أَوْلاَدُهُمَا، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَمْوَالٍ لَهُمَا". فالعبد المفلس المأذون له في التجارة، هل يتبع في الدين في رقابته أم لا؟ عند الإمام مالك أنه يتبع بما في يديه لا في رقبته.

"قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً:" أي وجه الفرق بين الأولاد والأموال "أَنَّ الْعَبْدَ" إذا بيع واشترط الذي بتاعه ماله، لم يدخل ولده في ماله لأنه ليس بماله. قال مالك: "وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضاً: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَرَحَ" إنسانًا "أُخِذَ هُوَ وَمَالُهُ، وَلَمْ يُؤْخَذْ وَلَدُهُ"، فالولد ليس في حكم ماله، وهكذا.

 

باب عِتْقِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ وَجَامِعِ الْقَضَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ

 

 يقول: "باب عِتْقِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ وَجَامِعِ الْقَضَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ"؛ أمهات الأولاد؛ يعني: الجارية الأمة المملوكة إذا وطئها سيِّدها بملك اليمين، فأتت له بولد، ولدت له ذكرًا أو أنثى، صارت أم ولد. أم الولد ما يجوز أن يبيعها أو يهبها لغيره، بل تبقى في ملكه إلى أن يموت، فبمجرد موته تُعْتَق؛ فتصير حرة وَتُعْتَقْ من أصل المال؛ تُعتق أم الولد من رأس المال وإن لم يملك سواها، وإن كان ما عنده إلا هي. ما نقول إلا ثلث، ما شي ثلث، عنده جارية، وطئها، فولدت له ولد، صارت الآن أم ولد، مات ما عنده مال إلا هي، ذي الولد الذي جاءت به حر ابنه، ولا عنده مال إلا هذه الجارية؛ صارت حرة، ما نقول ثلث، ليس ثلث، كلَّها تصير حرة لأنها لها حكم آخر منصوص عليه، بأن صارت أم ولد. 

بخلاف إذا أعتقها ولم تكون أم ولد في مرض موته، فما يعتق إلا ثلثها، كما تقدَّم معنا. أما إذا كانت أم ولد، فإنها من نفسها تعتق تلقائيًا بمجرد موته، وإن لم يكن له مال إلا هي. وإذا صارت أم ولد، قال جماهير أهل العلم: إنه عندئذ لا يجوز له أن يبيعها، ولا أن يتصرَّف فيها لأنها صارت معلَّقة العتق بموته. إذا ماتَ عتقَت، فلا يجوز له أن يبيعها ولا أن يهبها لأحد، ولا أن يتصرَّف يخرجها عن ملكه لأنها منوط عتقها بوفاته، فمهما توفي، فصارت حرة بمجرد وفاته، وهذا حكم أمهات الأولاد.

قال مَالِكٌ: "عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: أَيُّمَا وَلِيدَةٍ؛ يعني أمة وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، فَإِنَّهُ"؛ يعني: سيِّدها "لاَ يَبِيعُهَا، وَلاَ يَهَبُهَا" أحدًا، "وَلاَ يُوَرِّثُهَا"؛ يعني: لا يرثها أحد بعد موت السيِّد. "وَلاَ يُوَرِّثُهَا"؛ ما تكون إرث لأولاده من بعده ولا إلى غيره. يُعتقها بعد موته، والحرة ما تورث لأنّ بالموت تصير حرة، "وَهُوَ"؛ أي السيِّد لا تزال مملوكة ما دام لم يُنجّز عتقها فهي مملوكة الآن، "يَسْتَمْتِعُ بِهَا"، بالوطء والخدمة وغيرها لأنها لا تزال في ملكه إلى أن تفيض روحه، وتخرج من حلقومه، "فَإِذَا مَاتَ" السيِّد "فَهِيَ حُرَّةٌ". 

وهكذا، أمهات الأولاد لهن أحكام الإماء ما دام سيِّدها حي في جميع أمورهن، إلا أنه لا يُبعنَ، ولا يتصرف بتصرف يزيل الملك عنها. أمَّا إن نجَّز عتقها فقد نجَّز؛ فتصير حرة. وهكذا، فتكون لا تزال أمة إلا التصرف فقط فيما يزيل ملكه، بخلاف ما لا يزيل ملك من تزويجها أو إجارتها، فهي تعتبر الآن أمة، وتنجز عتقها، كلّه يجوز لها، حكمها حكم الأمة. ما نقول خلاص معلّقة وعتقها بالموت؛ لا يجوز لك الآن أن تعتقها، بل يجوز لك أن تعتقها، تعتقها يجوز لك، تأجرها يجوز لك، تزوجها، أمة باعتبارك وليها إلا في التصرف الذي يزيل ملكك؛ فلا، فبمجرد الموت تصير حرة. إذًا فهذا الذي عليه جماهير السَّلف، وجماهير أهل العلم في الشَّريعة المُطهرة. 

ويُروى عن بعضهم: جواز بيع أم الولد وكما ذكروا ولكن الجمهور على خلاف ذلك، أنه يُمنع عليه بيعُها. يقول: فروى عبد الرزاق  عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليا يقول: " اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن. قال: ثم رأيت بعد أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي… على كل حال، الجمهور على أنه ما يجوز له التصرف بالبيع.

قال "مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَتْهُ وَلِيدَةٌ قَدْ ضَرَبَهَا سَيِّدُهَا بِنَارٍ"، -والعياذ بالله تعالى-، تجاوز حدّه، وفعل ما يحرم عليه من التعذيب بالنار، "أَوْ أَصَابَهَا بِهَا"، أصاب الأمة بالنار، "فَأَعْتَقَهَا" عُمَر؛ يعني حكم عُمَر بعتقها.

وجاء في رواية: أقعد سُفيان بن الأسود أمة له على مقلاةٍ له، فاحترق عجزها، فأتت عُمَر -رضي الله عنه- تشكوه، فأعتقها، حكم بأنها عتقت عليه. وجاء في رواية ابن عباس، قال: جاءت الجارية إلى عُمَر بن الخطاب فقالت: إن سيِّدي اتهمني فأقعدني على النَّار، فقال عُمَر -رضي الله عنه-: عليَّ به، فقال عُمَّر: أتعذِّب بعذاب الله؟ قال يا أمير المؤمنين: اتهمتها في نفسها، قال: رأيت ذلك عليها؟ شهدت عليه؟ قال: لا، قال: فاعترفت لك به؟ قال: لا، قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمعَ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: لا يقاد مملوك من مالكه لأقدتها منك، فضربه مائة سوط، وقال لها: اذهبي يا جارية فإنك حرة لوجه الله  وأنت مولاة الله ورسوله. لأنه اتهمها، وقام يتصرف هذا التصرف بلا بصيرة في الدين، ولما جاء قال له: أني اتهمتها، قال سيِّدنا عُمَر رأيت بعينك؟ قال: لا، أقرّّتً هي؟ اعترفت؟ قال: لا، قال: لو لم أسمع النَّبي أنه يقول ما يقاد المملوك من مالكه وإلا وضعتك أنت على النَّار وأحرقك كما حرقتها لكن ما دام هي مملوكة لك، هيا خذ عذاب، ضربه مئة سوط، عزّره وحكم بعتقها وأنها صارت حرة، وأخرجها منه لأن التصرف هذا تصرف ما يجوز. 

وعلى هذا مذهب بعض الأئمة، ومن جملته الإمام مالك يرى أنه إذا تصرف تصرف بإصابة المملوك بنار ونحوه؛ أنه يصير معتوقًا عليه ما دام متعمدًا، يقول: فإذا تعمَّد فيأثر إنجاز العتق. بخلاف الخطأ، ما كان لا على وجه الخطأ عند مالك أيضًا. وأما إن قصد ضربه فأخطأ، فأصاب عينه مثلًا ففقأها؛ فما يعتق. أما إذا تعمَّد، فقأ عينه، عتق عليه عند الإمام مالك. وعند الأئمة الآخرين يقولون: ما يعتق ولكن إثمه شديد وعقابه عظيم، ويجب أن يعزّر، وحسابه على الله -تبارك وتعالى- وهكذا…

إذًا؛ أيضًا فهذه المسألة مما رآه الإمام مالك دون الجمهور، ودون الأئمة الثلاثة. وبعد ذلك جاؤوا في الاختلاف إذا قطع عضو من أعضاء مملوكه كذلك، فعندهم ما دام متعمّد؛ فإنه يعتق، إذا قطع عضو كامل، أما قطع إصبع ونحوه؛ فلا. هذا عند الإمام مالك. كذلك وقلع الأسنان عنده، إذا قلع سِنُّه، فإنه عند الإمام مالك أيضًا مُثْلَه، توجب العتق، واستدلوا بأن رجل خصى مملوكًا له، فرفع إلى النبي ﷺ فأعتقه؛ حكم بعتقه. لأجل المثلة به لأنه مثَّلَ به، فكان عقوبة له كالمتسبب في القتل ما يرث من القتيل، وهذا إذًا قد تسبب في المثلة به وهذا أيضًا مذهب الإمام مالك. 

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ عَتَاقَةُ رَجُلٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ"، الأمر المختار عند الإمام مالك، والحال أنه تجب عليه دين ويحيط بماله؛ أي يستغرق جميع ماله لأن هذا حق الغُرماء من أحاط الدّين بماله فإنه لا يبتدأ عتق عبده، فإن فعل ذلك وعتق عبده فإن للغُرماء ردُّ ذلك بحكم حاكم، وليس لهم رده بدون الإمام، إذا أحاط بماله الدّين. إذًا؛ إذا أحاط بماله الدّين أكثر أهل المدينة، سيِّدنا مالك وغيره قالوا: لا يجوز ذلك، وهو أيضًا عليه عدد من أهل العلم لأنه في تلك الحال ماله مستحق للغرماء، فليس له أن يخرج منه بشيء. 

"وَأَنَّهُ لاَ تَجُوزُ عَتَاقَةُ الْغُلاَمِ حَتَّى يَحْتَلِمَ"؛ يعني: الصّبي "أَوْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْمُحْتَلِمِ، وَأَنَّهُ لاَ تَجُوزُ عَتَاقَةُ" المحجور "الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ بَلَغَ الْحُلُمَ حَتَّى يَلِيَ مَالَهُ" بفك الحجر عن نفسه، والله أعلم.

رزقنا الله الإيمان واليقين والإخلاص والصِّدق، وألحقنا بخيار الخلق، ونقّانا عن الشوائب ورفعنا عليّ المراتب، ونظمنا في سلك أهل الإنابة إليه، حققنا بحقائق العبودية له، وأكرمنا بعتق رقابنا من النَّار ومن الغضب ومن العذاب ومن الذُّنوب والسِّيئات، ومن جميع المخالفات، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين والصَّالحات. بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي خير البريات ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

22 صفَر 1444

تاريخ النشر الميلادي

18 سبتمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام