(535)
 (364)
 (604)
 شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الوصية، تتمة باب جَامِعِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهِيَتِهِ.
فجر الأحد 1 صفر 1444هـ.
تتمة باب جَامِعِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهِيَتِهِ
2246 – قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: مَنِ اسْتَعَانَ عَبْداً بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ بَالٌ، وَلِمِثْلِهِ إِجَارَةٌ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ الْعَبْدَ إِنْ أُصِيبَ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ وَإِنْ سَلِمَ الْعَبْدُ فَطَلَبَ سَيِّدُهُ إِجَارَتَهُ لِمَا عَمِلَ، فَذَلِكَ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
2247 - قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَعْضُهُ حُرًّا وَبَعْضُهُ مُسْتَرَقًّا: إِنَّهُ يُوقَفُ مَالُهُ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئاً، وَلَكِنَّهُ يَأْكُلُ فِيهِ وَيَكْتَسِي بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا هَلَكَ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَقِيَ لَهُ فِيهِ الرِّقُّ.
2248 – قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْوَالِدَ يُحَاسِبُ وَلَدَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِ يَكُونُ لِلْوَلَدِ مَالٌ - نَاضًّا كَانَ أَوْ عَرْضاً - إِنْ أَرَادَ الْوَالِدُ ذَلِكَ.
2249 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ دَلاَفٍ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَ يَسْبِقُ الْحَاجَّ، فَيَشْتَرِى الرَّوَاحِلَ، فَيُغْلِي بِهَا، ثُمَّ يُسْرِعُ السَّيْرَ فَيَسْبِقُ الْحَاجَّ، فَأَفْلَسَ، فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ الأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ رَضِىَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ سَبَقَ الْحَاجَّ، أَلاَ وَإِنَّهُ قَدْ دَانَ مُعْرِضاً، فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ، نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَهُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ.
الحمد لله مُكرِمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته، عبده وحبيبه وصفوته سيدنا مُحمد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أتباعه وأهل مودته ومحبته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الحق سبحانه وتعالى من بين خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مَالِكْ عليه -رحمة الله تعالى- مسائل في الباب الذي بَوّبَ له عليه رحمة الله تعالى بـ "جَامِعِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهِيَتِهِ".
ذكر عليه رضوان الله قال: "مَنِ اسْتَعَانَ عَبْداً بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ بَالٌ"؛ يعني: له شأن ومكان، يعني في عمل على مثله يستحق الأُجرة، أخذ مملوكَ غيره وشغَّلَه بشغل عنده له فيه أُجرة، فحينئذٍ يكون "ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ الْعَبْدَ"، ضامن إذا وقع على العبد شيءٌ بسبب ذلك العمل، إما هلاكٌ أو فقد عضو من أعضائه أو غير ذلك، فهو ضامن بقيمة ذلك للسيد، لأنه استعمل هذا المملوك من غير إذن سيّده. "فِي شَيْءٍ لَهُ بَالٌ" يترتب على مثله أُجرة، فهذا مذهب الإمام مَالِكْ عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
قال: "وَإِنْ سَلِمَ الْعَبْدُ" فالأُجرة لما عمل لسيده أن يطالب بها ذلك المُستعمِل الذي استعمل ذلك المملوك. قال: "فَطَلَبَ سَيِّدُهُ إِجَارَتَهُ لِمَا عَمِلَ فَذَلِكَ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا".
إذًا؛ فهذا المشهور من مذهب مَالِك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وفي رواية عنده عن ابن وهب يقول: ليس في المملوكين يستأجرون ضمان ما أصابهم.
وبعد ذلك الأعمال عندهم على أضرُب:
وهكذا يقول الشَّافعية والحَنَابِلَة: أن الغاصب إذا أصاب شيء يضمن منفعة المغصوب، وعليه أجر المثل فيما استعمله، سواء إن استوفى المنافع أو تركها هكذا، أخذ على أحدٍ شيء من بيتٍ أو سيارةٍ أو أداةٍ من الأدوات، أو مملوك وإلى غير ذلك فيضمن منفعته، يعني مقدار ما ينتفع به صاحبه ومالكه، يضمن ذلك.
وكذلك يضمن عينه إذا نقص منه شيء، أو حصل عليه سرقة أو غير ذلك، فيضمن لصاحبه؛ لأنه غاصب، و الغاصب يده يد ضمان.
وهكذا في قولٍ عند الحَنَفِية: أن الغاصب لا يضمن منافع ما غصبه، ولكن مُتأخرو الحَنَفِية قالوا بضمان أجر المثل في ثلاث مواضع، يقولون:
فَيضمن منافعه إن كان واحد من هذه الثلاثة، وإلا فلا.
وعند المَالِكْية سمعتَ الحكم فيما ذكر الإمام مَالِكْ عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
وهكذا تتوزع استنباطات الفقهاء فيما يتعلق بالأموال، لما يترتب عليها من الشأن العظيم عند الله -تبارك وتعالى- فإنه يؤدي حقوق العباد لبعضهم البعض، ولو كان مثقال حبةٍ من خردل. وأن من اغتصب من مال أخيه وأخذه ظلمًا أدخله الله النار، قالوا: يا رسول الله ولو كان شيئاً يسيراً؟ قال: ولو قضيبًا من أراك، ولو قضيبًا من أراك، أخذه بغير حق على أخيه المسلم واستحل ذلك فيتعرض للعذاب والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وبذلك جاءت اجتهاداتهم كيف يخلِّص ذمته ما دام في الحياة الدنيا، حتى لا يتعرض لجزاء الآخرة، فإنه جاء في بعض الآثار: أنه يؤخذ في مقابل الدانق، الدانق: فليس درهم، ثواب سبعين فريضة مقبولة، من أين يجيء له بفرائض مقبولة؟ في الدانق الواحد، فكم في الدرهم؟ فكم في الدينار؟ ويؤخذ من حسناته إلى حسنات المظلوم، هذا المغصوب.
كم في مقابل الدانق؟ سبعين فريضة مقبولة.. أمرٌ كبير أمر عظيم، ولهذا قال ﷺ: من كان عنده لأخيه مظلمة فليستحلها اليوم قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم إنما هي الحسنات والسيئات.
"قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَعْضُهُ حُرًّا وَبَعْضُهُ مُسْتَرَقًّا: إِنَّهُ يُوقَفُ مَالُهُ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئاً، وَلَكِنَّهُ يَأْكُلُ فِيهِ وَيَكْتَسِي بِالْمَعْرُوفِ"، فيقول: أن المُبَعَّضَ، وهو الذي بعضه حر وبعضه مملوك، يقول الإمام مَالِكْ: الذي مَلَكَه ببعضه الحر، يأكل منه، ويكتسي منه. "فَإِذَا هَلَكَ -يعني: مات- فَمَالُهُ لِلَّذِي بَقِيَ لَهُ فِيهِ الرِّقُّ" يعني: لسيده، هذا مذهب الإمام مَالِكْ عليه رحمة الله تعالى.
قال الشَّافعية والحَنَابِلَة: إنه يملك ببعضه الحر، فإن كان بعضه حرًا يملك بذلك. فلو فرضنا أن واحدًا يملك نصفه، ونصفه حر، فإذا عمل فنصف ما حصَّل لسيده والنصف له، وأنه بهذا البعض الحر يملك، وله حق التصرف فيه، ويورَث كذلك. فإذا مات فيرث ما كان ملكًا له ببعضه الحر، ورثته لو كان حرًا كامل، يُعطى لورثته. هكذا، وسمعتَ قول الإمام مَالِكْ.
إذًا؛ فقول الشَّافعية ومثلهم الحَنَابِلَة: أن المُبَعَّض يكون مشتَرَكًا بينه وبين سيده، لسيده نسبة ملكه والباقي له ملكٌ كامل لذلك المُبَعَّض، وعلى ذلك فله حق التصرف فيه، وكذلك له إرثه يرجع لورثته إذا كان له ورثة من العصَبة، فإن لم يكن له عصَبة فيرجع إلى من يملك بعضه، بل يرجع إلى من أعتق بعضه بحكم الولاء.
إذًا؛
"قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْوَالِدَ يُحَاسِبُ وَلَدَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِ يَكُونُ لِلْوَلَدِ مَالٌ - نَاضًّا كَانَ أَوْ عَرْضاً -"
"إِنْ أَرَادَ الْوَالِدُ ذَلِكَ" والمعنى: أن النفقة تجب على الوالد لأولاده بشرط أن لا يكون لهم مالٌ ولا كسب يستغنون به.
فالأصول كلهم الآباء والأجداد إذا عندهم أولاد أو أحفاد، لا مال لهم وهم في الصِبا بعد، وجبت عليهم نفقتهم، فإذا كان لهذا الصبي؛ ولهذا المولود والطفل مال بهِبة أو بإرث ورثه من أحد ممن يرثهم، فحينئذٍ ما دام معه المال فأبوه إن وجِد أو جدّه مُخيَّر بين أن يتطوّع بالنفقة عليه أو ينفق عليه من ماله فتسقط عنه النفقة.
وهكذا يقول الشَّافعية: وجوب الإنفاق على الأصول على فروعهم بشرطين: شرط:
فأما إذا بلغ وهو قادر على الكسب، وأن يُدخل ما يكفيه من النفقة، سقطت النفقة على أبيه أو على جده إن لم يكن له أب.
أما الفروع فتجب عليهم النفقة على الأصول بشرط واحد: الحاجة، أن يكون محتاج لا مال له، وإن كان قادرًا على الكسب، فلا يكلف الولد أباه أن يكتسب، من كان قادرًا على الكسب، ولكن الأب يجوز له أن يكلِّف ولده الاكتساب إذا كان قادر على الكسب ولا تلزمه نفقته. أما الأصول فبوجود الحاجة يكفي في وجوب النفقة عليهم، وإن كان أحدهم قادرًا على الكسب، فيجب على ولده أو ولد ولده أن ينفق عليه.
قال: "والأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْوَالِدَ يُحَاسِبُ وَلَدَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِ يَكُونُ لِلْوَلَدِ مَالٌ - نَاضًّا"؛ يعني: دنانير ودراهم "أَوْ عَرْضاً كَانَ - إِنْ أَرَادَ الْوَالِدُ ذَلِكَ"؛ يعني: إذا أراد المحاسبة، أما إذا تطوّع وتبرّع من عنده كما هو غالب الحال في رحمة الآباء وحنانهم والأجداد، فذلك أفضل وأجزل لثوابِهم.
إذاً؛ فأجمع الفقهاء أن:
وإن لم يكن قادرًا على الكسب فإن بلغ وهو زمِن لا يستطيع أن يعمل شيء، أو غير ذلك من موانع الكسب فيجب عليه أن يستمر على نفقته.
وقال مَالِكْ: "عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ دَلاَفٍ الْمُزَنِيِّ" نسبة إلى قبيلة مُزينة، المدني نسبة إلى المدينة المنورة ، "عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ جُهَيْنَةَ" هذه قبيلة من خزاعة في الحديث ذكر جهينة؛ أن آخر من يخرج من النار رجل يقال له جهينة، فقيل أنه من القبيلة هذه، وقيل أن أسمه الشخصي يقال له جهينة، هذا يكون في قلبه عند الموت أدنى مثقال ذرة من إيمان، فيُعَذَّب في النار على ذنوبه وسيئاته إلى سنة، سنتين، ثلاث سنين، أربع سنين، النار لا تُطاق دقيقة ولا دقيقتين، أربع، خمس سنين، ستة، سبع، عشرين سنة، ثلاثين سنة، مئة سنة، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وهو في النار يُحرق ويرجع جلده ويُحرق ويرجع جلده.
سبعة إلى سبعة ألف سنة، هذا آخر واحد يخرج من النار، لا أحد يخرج بعده، فيخرج من النار جهينة، حتى يقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين. آخر من يجيء من النار إلى الجنة هذا هو، جهينة.
وذكر ﷺ قصته في أنه: لما يريد الله اخراجه من النار واستغاثته من شدة العذاب يقول: يأمر به بأن يُخرج ويستقبل النار، يبقى مستقبل للنار، قال: فيجلس ما شاء الله ويقول: يا رب أسألك مسألة لا أسألك غيرها، يقول: ماذا تسألني؟ يقول: اصرف وجهي عن النار، فقد قشَبني ريحها ولهيبها، اصرف وجهي عن النار، قال: لعلك إن أعطيتك هذه تسألني غيرها، قال: لا وعزتك وعلي العهود والمواثيق ألا أسألك شيء غيرها. فيأمر الله بصرف وجهه عن النار ويستقبل الجنة، فيمكث ما شاء أن يمكث ، يتحرك الآن ويقول: يا رب أسألك مسألة لا أسألك غيرها، ويحك يا ابن آدم ما أغدرك! أما عاهدتني؟ قال: هذه يا رب و لا أسألك غيرها أبدًا. قال: قربني من الجنة. فيقول: لعلّي إن أعطيتك هذه تسألني غيرها يقول: لا، عليَّ العهود المواثيق بعد هذا لا أسألك شيء أبدًا. فيأمر الله به فيُقرب من الجنة. إذا قرب يزيد شوقه، ويتحرك باطنه إلى الجنة ويشم ريحها يقول: يا رب أسألك مسألة لا أسألك غيرها.. ويحك يا ابن آدم ما أغدرك! أما عاهدتني؟ قال هذه فقط وحدها يا رب ولا أسألك بعدها أبدًا، وعليَّ العهود والمواثيق، قال: ماذا؟ يقول: ادخلني عند باب الجنة خلني عند باب الجنة ،فيقول: اذهب فادخل الجنة برحمتي، أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ يقول: أوه! نعم يا رب. يقول: أترضى أن يكون لك مثل الدنيا؟ يقول:! نعم يا رب في الجنة! يقول: ادخل فإن لك في الجنة مثل الدنيا عشر مرات. يقول: يا ربي قد امتلأت، والناس أخذوا ما أخذوا! يقول: ادخل، فإذا دخل هذا آخر من يدخل الجنة، يُعطى مثل الدنيا عشر مرات، يطوف في منازله التي أعدها الله له مقدار ألف سنة حتى يصل إليها كلها ويطوفها، يقف على رأسه كل يوم ثلاثمائة من الولدان، ويُزوّج باثنتين وسبعين، هذا أقل أهل الجنة، والباقين أكثر منه كلهم فوقه.
هذا جهِينة، وهذا الرجل من جهِينة هذه القبيلة من خزاعة، "كَانَ يَسْبِقُ الْحَاجَّ"؛ يعني: في القدوم إلى مكة، يستعد لذلك "فَيَشْتَرِى" لذلك الرَّوَاحِلَ"، يعني: النوق الصالحة للرَحل، "فَيُغْلِي بِهَا"؛ يعني: يدفع فيها ثمن زائد من أجل يسرع، "ثُمَّ يُسْرِعُ السَّيْرَ"، فيصير من أول من يصل إلى مكة من الحجاج، "فَأَفْلَسَ"؛ صار مفلس، يعني: يجهد نفسه ويشتري الرواحل الغالية لهذا الغرض غير الرفيع، فتكاثرت عليه الديون وأفلس، "فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى" أمير المؤمنين سيدنا "عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"، دار عليه دينٌ حتى أفلس، فقام عُمَر على المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: لا يغرنّكم صيام رجل ولا صلاته، ولكن انظروا إلى صدقه إذا حدَّث، وإلى أمانته إذا اؤتمن، وإلى ورعه إذا استغنى.
"أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ الأُسَيْفِعَ -هذا الجهني- فَإِنَّ الأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ رَضِىَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ سَبَقَ الْحَاجَّ"، فقط، أراد سُمعة بين الناس أنه يصل مبكرًا إلى مكة، ما هذا؟ أين القلب؟ أين الإخلاص؟ أين النية مع الله؟ أين الورع عنده؟ وقام ارتكبته الديون في سبيل ذلك، قال: ورضي من الدين بهذا، قال: لا يغركم صلاة أحد ولا صيامه إذا لم يكن عنده ورع، ولا أمانة، ولا وفاء بالعهد، وصدق في الحديث، لا تظنونه صاحب دين حتى صلَّح ركوعات جم إذا ما عنده أمانة، ولا ورع، ولا صدق في الحديث، لا تظنونه دين، هو ليس صاحب دين هذا ولا يغرنكم. قال: هذا رضي من دينه أن يقول سبق فقط، "يُقَالَ سَبَقَ الْحَاجَّ" سبق الحجاج كلهم ووصل قبلهم إلى مكة "أَلاَ وَإِنَّهُ قَدْ دَانَ" يعني: اشترى بالديَّن، "مُعْرِضاً" عن أدائه، لا يبالي بقضاء الديَّن.
يقول: "فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ" أو رِين عليه، ورِين برجل إذا وقع في أمر لا يستطيع الخروج منه، وقع في وحله الآن، وقع في مأزق بسبب تصرفه هذا، "فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ" أحدٌ له ديَّن على الرجل هذا "فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ، نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَهُمْ"؛ يعني: بين غرمائه بالحصص، كم من نسبة هذا هو الموجود نقسمه بينهم، يعني ضاق ماله عن ديونه فحجر عليه سيدنا عُمَر بِنْ الخطاب رضي الله عنه، التصرف وجمع ماله ليوزعه على غرمائه بقدر حصصهم مما لهم عنده.
وهكذا قال أهل العلم: يُقسم مال المفلس بين غرمائه على قدر ديونهم، والباقي؟ ما كفى.. إلا كل واحدٍ نقص عليه شيء، نقول: هذا الآن معسر (فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ) [البقرة:280] ، أنتم ديَّنتموه ورضيتم أن يتديَّن منكم هذا وائتمنتوه الآن اصبروا، خلّوه يكتسب و يرد لكم حقكم، والمال الموجود الآن يقسم بينهم بالنِّسب، كل من كان يبلغ الديَّن الذي له ثلث مجموع الديَّن فيؤخذ من مجموع ماله ثلث لهذا، وهذا يبلغ ربع يؤخذ من مجموع ماله ربع يعطى لهذا، وهكذا على حسب نسبهم.
قال: "وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ"، يقول لهم سيدنا عُمَر، ينهى عنه لغير ضرورة ولغير حاجة.
وهكذا فيختلف الأمر، فـ "الدَّيْن شَيِّنُ الدِّين"، من مات وعليه ديَّن حبست روحه، في الأخرة لا يزور ولا يُزار حتى يقضى عنه ديَّنه، "وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ"؛ يعني: حُزن، "وَآخِرَهُ حَرْبٌ"؛ يعني: نزاع وخصام ومحاكمة.
فالأحسن ابتعد عن الدين إلا بقدر الضرورة والحاجة، أو لمصلحة عامة وخيٍر، وأنت تنوي الوفاء، وتستعين بالله سبحانه وتعالى، فهو يعينك ويؤدي عنك، وبالله التوفيق. وقد كانوا إذا جاءوا بميّت للصلاة عليه، يقول ﷺ: هل عليه ديَّن؟ إن قالوا نعم، يقول: صلّوا على ميتكم، ما يُصلِّي هو عليه، كان ذلك يشق على الصحابة، حتى وسَّع الله عليه وصار يأتيه مال الخراج، قال: "من مات وله مال فماله لورثته ومن مات وعليه دين فعلي وإليّ". إذًا؛ إذا جيء بميِّت وعليه ديِّن يقضي الديِّن أولاً ثم يُصلِّي عليه، وهكذا..
جاء سيدنا قتادة حضروا ميت، فسألوا النبي يُصلِّي عليه، قال: أعليه دين؟ قالوا: ديناران يا رسول الله. قال: صلوا على ميتكم. قال سيدنا قتادة: يا رسول الله عليّ دينه. قال: عليك دينه؟ الديناران؟ قال: نعم. صلَّى عليه ﷺ. "قال: فجعل لا يراني إلا قال: أقضيتَ الدينارين؟" وأنا ما عندي شيء، فجعلت أتخفى من رسول الله وأجلس بعيد ما أجيء قدامه، حتى بعد أيام وجدت الدينارين فذهبت فقضَيتهما ثم جئت إليه أتعرّض له. قال: "قتادة أقَضيت الدينارين؟" قال: الآن قضيتهما يا رسول الله. قال: "الآن بَرَد جلده" الآن برد جلد الميت هذا، في الوقت الذي قضيت الديَّن.
وإذا خلَّف أولاد لا يتقون الله، ما يعتنون بديَّنه، ويأكلون تركته، ويخلونه مرطوس به، وهو متحمل إثم الدَّين، والعياذ بالله.
ولهذا كان سيدنا سلمان الفارسي مع أنه يُعطى عطاء كثير، مِنْفَاق في سبيل الله، ولا يرضى يتديَّن ديَّن إلا برهن، برهن، لأنه إذا ترك المستدين رهنًا، فلا تُحبس روحه، ويقضى ديْنه من رهنه الذي رهنه. حتى نزل به ضيفٌ في ليلةٍ، وقدَّم ما عنده من الخبز، فقال: لو أن هنا زعتر، بيخصّر به، ما عند سيدنا سلمان في بيته زعتر، فأخذ مطهرته التي يتوضأ فيها، -الإناء- وخرّجه إلى عند صاحب الدكان، يبيع زعتر، وقال: أعطِنا قليل زعتر بدانقين وهذا رهن، قال: صاحب رسول الله ونأخذ منك رهن على حاجة بسيطة؟ّ قال: لا، أرأيت إن مت الليلة والديِّن في ذمتي؟ تأخذ الرهن وإلا لا آخذ منك، خُذ، فأخذ منه مطهرته حقه وأعطاه، وجاء به للضيف وتعشوا. وقال الضيف: الحمد لله الذي قنّعنا بما رزقنا، فقال سيدنا سلمان: لو قنَّعك بما رزقك ما كانت مطهرتي مرهونة! ذلك لأنك ما قنعت رحنا رَهَنَّا المطهرة وجبنا لك الزعتر، ولو كنت من القانعين ما رهنت مطهرتي!
ينبّهه إلى أن يراقب أحوال الناس، ولا يشير إلى من استضافه بشيء قد لا يكون عنده وما إلى ذلك -عليه الرضوان- مع أنه كان يُعطى مما يأتي من مال المسلمين نفقة، لكونه من السابقين الأولين، مبلغ كثير، ولكنه ينفقه في سبيل الله، عليه رحمة الله. وتقدم معنا المُكاتبة بينه وبين أخيه في الله أبي الدرداء، حكيم هذه الأمة، فيا لهم من متآخين عقد أخوّتهم سيد المرسلين، صلَّى الله عليه وآله وسلم.
الله يرينا وجوههم، و يحشرنا في زمرتهم، مع سيدهم وإمامهم وهاديهم الذي به نالوا الإسلام والإيمان والإحسان، وجميع المراتب والمواهب من الرحمن. الله يملأ قلوبنا باليقين، ويثبتنا في ديوان المتقين، ويصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، ويرقّينا مراقي قربه مع خواصّ المقربين في عافية وتمكين مكين، وإلى حضرة النَّبي مُحمد ﷺ.
22 صفَر 1444