(535)
 (364)
 (604)
 شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الوصية: باب جَامِعِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهِيَتِهِ.
فجر السبت 29 محرم 1444هـ.
باب جَامِعِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهِيَتِهِ
2245 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: أَنْ هَلُمَّ إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: إِنَّ الأَرْضَ لاَ تُقَدِّسُ أَحَداً، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ جُعِلْتَ طَبِيباً تُدَاوِي، فَإِنْ كُنْتَ تُبْرِئُ فَنِعِمَّا لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُتَطَبِّباً فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ إِنْسَاناً فَتَدْخُلَ النَّارَ. فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ أَدْبَرَا عَنْهُ نَظَرَ إِلَيْهِمَا وَقَالَ: ارْجِعَا إِلَيَّ أَعِيدَا عَلَيَّ قِصَّتَكُمَا، مُتَطَبِّبٌ وَاللَّهِ.
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة الغراء، وبيانها على لسان خير الورى، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه طرًّا، وعلى من والاهم في الله واقتدى بهم سِرًّا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الراقين في الفضل أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر لنا الإمام مَالِكْ -عليه رحمة الله-: "باب جَامِعِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهِيَتِهِ". والقضاء في الحكم بين الناس من الولايات التي يحتاج إليها الناس، وفي القيام بها على وجه الحق والعدل والقسط، خيرٌ كبيرٌ كثيرٌ للناس وللقائم بذلك، فيعظم بذلك ثوابه.
وإنّما يعظم ذلك الثواب لما يترتب على الحكم بالعدل والقسطِ من مُغالبة للنفس الأمّارة، ومن خيرٍ كثيرٍ في واقع، يُتوصل إليه بجهدٍ ومشقة؛ فلذلك عَظُمَ الثواب في القيام فيه على وجه الحق، وعلى وجه القِسط، وإنما يكون المعونة في ذلك لمن طُلِب له ولم يطلبه بنفسه، ولم يمِل إليه بدافع هواه، فإن أيّ نوعٍ من أنواع الولاية والإمارة طلبها الإنسان لنفسه، وُكِلَ إليها وانقطع عنه عون الله تبارك وتعالى.
وإن طُلِب لها وهو أهل لها يقدر أن يقوم بحقها، فأجاب فله من الله معونة وتأييدٌ وإمدادٌ بالتوفيق منه سبحانه وتعالى. فلما عظُمَ الثواب في القيام بالقسط، عظُمَ الإثم والعذاب والعقاب في الجور والحيف والظلم، وإنّ كل شيء يعظُم فمقابله يعظُم، فما عظُمَ ثوابه فمقابله يعظُم عقابه.
ولأجل خطر الولايات بأصنافها؛ دُعينا في الشرع إلى أن لا نتطلّبها، ولا نلتفت إليها ولا نسعى لتحصيلها، وما قدرنا أن لا نتحمّله من الولاية على الغير، فذلك السبيل أقوَم وأسلم، وما اضطررنا إليه وجُعِلْنا فيه، فإننا نستعين بالله تعالى، ونصدق بعد ذلك في القيام بالأمر، كما شرع وكما أحبّ سبحانه وتعالى.
فتحدث الإمام مَالِكْ عن القضاء؛ وهو الذي لأجله أوذيَ كثير من العلماء والصالحين، وامتنعوا عن تولّي القضاء، ولم يرضوا لأنفسهم بمثل ذلك، من ولاية القضاء على الخصوص، وجميع الولايات على الآخرين على وجه العموم، كما قال ﷺ في الإمارة: "إنا لا نعطيها من سألها، ومن سألها، -أو من طلبها- وُكِلَ إليها، ومن طُلِبَ لها أُعينَ عليها". وممن امتنع عن تولي القضاء بعد أن طُلِبَ لذلك: سفيان الثوري، وأبو حَنِيفَة، والشَّافعي وعدد لا يُحصى من أكابر خيار هذه الأمة، طُلِبوا للقضاء فامتنعوا ورفضوا ذلك، حتى منهم من كُلِّفَ عليْه فأبى ومنهم من حُبِسْ من أجل أن يتولى القضاء، فاختار الحبس ولا أن يتولى القضاء، إلى غير ذلك، مما كان منهم من خشية الله جل جلاله وتعالى في علاه.
وصار النَّاس -القضاء وغيره من الولايات- يتباهون بها، ويرملون إليها ويرشحون أنفسهم لها، بل يعمل لنفسه الدعايات من أجل يصل إليها، ويبذل المال لأجل الوصول إليها، ويدخل الداخل من ناشئتنا وشبابنا إلى معهد القضاء العالي لأجل أن يكون قاضيًا، ونيّته من أول يوم الرغبة في أن يتولى وأن يقوم بذلك! وقليلٌ من يكون مع ذلك موفيًا بحقّ الله وقائمًا بأمره، فهو أمرٌ لا بد منه، وأكثر أهله يتعرّضون للعذاب، إلا من رحم الله، فلهم عظيم الثواب بقسطِهم وعدلهم وصدقهم، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم.
وهكذا نرى في الأحاديث الشريفة ذكر الثواب العظيم لمن قسط وعَدَل وحكم بالحق، ولم يحابي ولم يظلم أحد واجتهد رأيه، والإثم والعقاب العظيم لمن تساهل ولم يبالي. فجاءنا في ذلك: "إِنَّ اللهَ مع القاضي ما لم يَجُرْ. فإذا جارَ تَخَلّى عنْهُ ولَزِمَهُ الشيطانُ". في رواية الإمام الترمذي وقال حديث حسن. "إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جارَ تخلى عنه ربه سبحانه وتعالى ولزمه الشيطان". وكذلك: "مَن ولِيَ القضاءَ فقَدْ ذُبحَ بغيرِ سِكِّينٍ"، أيضًا جاء عند الترمذي وحسّنه. وكذلك جاءنا في الحديث: "القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك، فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة".
وهكذا نجد الترغيب للمقسِط الذي لا يُتوصَّل إلى القسط إلا بمجاهدة نفسه ومخالفة هواه، وهكذا.. حتى قال بعض العلماء: من وَلِيَ القضاء ثم لم يفتقر فهو لص. فإنه في الغالب يحتاج ويضطر إلى أن يبذل من ماله لأجل الإصلاح بين الناس وتقريبهم، ويضطر إلى أن يناله بذلك فقرٌ في حاله وماله. على عكس ما يرى الناس أن في هذا وسيلة وسبب لتوفير المال، وهكذا لم يزل خيار الأمة يتورّعون عن مثل ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا إلى المتأخرين.
ولما طُلِبَ الوالد -عليه رحمة الله- للقضاء في تريم، ورفض ذلك، فألحَّ عليه بعض كبار أهل البلد بأنه يتعيّن عليه وأنَّه للضرورة وأنَّه سيقيم شرع الله وحكمه، فكان يتوسّّل بكلِّ وسيلة للتخلّص من ذلك، قالت الوالدة شاهدته يبكي ليالي عديدة متضرّع إلى الله ليردّ عنه هذا الأمر، حتى جاء الله ببعض أهل العلم والخير فوفد إلى البلد فولّوهُ ذلك وصُرِفَ عن الوالد، وهكذا فيمن قبلهم ومن قبلهم ومن قبلهم إلى القرون الأولى، هربوا عن الولايات وخافوا على أنفسهم، ومع ذلك علموا ما فيها من الفضل، ولكن خافوا أن لا يقوموا بالأمر على وجه الصدق والعدل كما ينبغي.
ولذا قال سيدنا علي: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيًا حتى تكمل؛ تجتمع فيه خمس خصال:
إذا وُجِدت هذه فحقَّ له أن يكون قاضي، وإذا قام بالصدق والإخلاص فله الثواب العظيم، ويترتب عليه منفعة كبير للناس.
في هذا الثواب كان مسروق -عليه رحمة الله- يقول: لأن أقضي يومًا واحدًا بحقٍّ وعدل أحب إليّ من أن أغزو سنة في سبيل الله، أحب لي من أن أغزو سنة في سبيل الله! لكن يوم واحد بحق وعدل، ويقيم الأمر فيه أعظم من غزوة سنة كاملة في سبيل الله، وقليل من يقوم بذلك.
وهكذا جاء أيضًا في كلام سيدنا علي: حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك كان حقًا على الناس أن يسمعوا ويطيعوا ويُجيبوا إذا دعوا. قال سيدنا عمر بن عبد العزيز: لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا أنَّ يكون عالمًا بما مضى من السُّنة مستشيرًا لذوي العلم.
وهكذا، وكانت تُعرض المسألة على سيدنا عمر بن الخطاب فيتوقّف فيها، وقد يجمع لها أهل بدرٍ يستشيرهم فيما يفهمون من كلام الله ورسوله ﷺ في هذه المسألة وهذه القضية. وهكذا، المقسِطون على منابر من نور يوم القيامة، (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن:15].
فـالمقسِطون على منابر من نور يوم القيامة، (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) كما جاءنا في القرآن.
وفي الحديث المشهور: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ -ظل عرشه- يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ"، فذكر أولهم "الإِمامٌ العادِل"؛ حاكم ووالي وقاضي يحكم بالعدل ويقضي بالحق، فهذا ممن يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظل عرشه يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه.
والحاكم العادل والقاضي العادل إجلاله من إجلال الله، يجب إجلاله على المسلمين وإكباره فيكون ذلك من إجلال الله سبحانه وتعالى. وذكر لنا الإمام مَالِك -عليه رضوان الله- ما كان بين أبي الدرداء وهو من الفقهاء العلماء الحكماء، حتى جاء عن النبي ﷺ أنَّه قال: "حكيم أمّتي أبي الدرداء"، حكيم الأمة، هو يُلقب بحكيم الأمة. وسيدنا معاذ كان يقول: كان أبو الدرداء من الذين أوتوا العلم. ويقول أبو ذر: ما حملت ورقاء ولا أظلّت خضراء أعلم منك يا أبا الدرداء. والنبي ﷺ آخى بينه وبين سيدنا سلمان الفارسي، فكانا متآخيين متحابين اجتمعا على ذلك وتفرّقا على ذلك.
كان سلمان عالِم فاضل زاهد في الدنيا. مات سيدنا أبو الدرداء بدمشق قاضيًا عليها في أيام سيدنا عثمان، قبل وفاة سيدنا عثمان بنحو سنتين. وسيدنا سلمان مات بالمدائن من أرض العراق. ذكر لنا ما كان من التناصح بينهما، وما كان من أداء حقّ الأخوّة في الله بين الاثنين، سيدنا سلمان الفارسي وسيدنا أبو الدرداء، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولما مرض يومًا أبو الدرداء -في حكمته، حكيم هذه الأمة- عادهُ بعض أصحابه فقالوا: له ما تشتكي؟ إيش المرض الذي بك والعلة؟ قال: ذنوبي، ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قالوا: فما تشتهي؟ إيش نجيب لك؟.. قال: الجنة. قالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد حضر! قالوا له: فما قال؟ قالَ: قال إني فعّال لما أريد. يقصد الطبيب ربه تعالى حاضر معه، ويفعل ما يشاء -جل جلاله-. هذا أبو الدرداء عليه رحمة الله ورضوانه.
كان قد ذهب إلى الأرض المقدسة، وأقام بالشام ووُلّيَ القضاء، وكان بينه وبين سيدنا سلمان المودة في الله، والمحبة في الله والتناصح في الله، فذكر مما جرى بينهم، أنَّه قال: له في بعض ما كتب إلى أخيه في الله سلمان الفارسي. يقول: "إنَّ أبا الدرداء كتب إلى سلمان أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ"، ومعلومٌ فضل الأرض المقدسة، والحق يقول في بيت المقدس: (الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء:1]. ويقول سبحانه وتعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)[الأعراف:137]. فهو محل مبارك. والكل يعلم ذلك من الصحابة ومن بعدهم، ولكن أداء لحق النصيحة، قال سيدنا سلمان: يوصي أخاه قال له: ما تغتر بأنك في أرض مقدسة ومباركة فقط، انتبه لأعمالك، انتبه من أحوالك، فكما أنه يضاعف العمل الصالح في هذه الأماكن، فكذلك التقصير والزلل يضاعف إثمه فيها، فانتبه لنفسك، ولا تقل أني في أرض مقدسة.. أنت في أرض مقدسة إن قمت بحق الله فيها فيا نعم التقديس ويتضاعف لك الثواب.
فبينهم النصيحة، وبينهم أداء الأمانة في أخذِ بعضهم بيد بعض، ولهذا لما كتب إليه هلمَّ إلى الأرض المقدسة كتب إليه سيدنا سلمان فيما كتب إليه: "إِنَّ الْأَرْضَ" وحدها "لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ"؛ يعني: يطهره ويزكّي "عَمَلُهُ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ جُعِلْتَ طَبِيبًا"؛ يعني: قاضيًا؛ وُلّيت القضاء، جُعلت طبيبًا؛ فشبّه بالطبيب الذي يعالج الأبدان، فهو طبيب يعالج أديان الناس، يعالج الدين.
فقال له: "بَلَغَنِي أَنَّكَ جُعِلْتَ طَبِيبًا تُدَاوِي فَإِنْ كُنْتَ تُبْرِئُ"؛ أي: على بصيرة وبيّنة تؤدي إلى صحة الناس وسلامتهم. "فَنِعِمَّا لَكَ"؛ يعني: ما أحسن ذلك وهو خير لك وثواب. "وَإِنْ كُنْتَ مُتَطَبِّبًا" تقدَم على غير بصيرة فتجرِّب على خلق الله، وتتعلم تقضي في المسألة من دون بصيرة وبيّنة واحتياط. "وَإِنْ كُنْتَ مُتَطَبِّبًا فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ إِنْسَانًا فَتَدْخُلَ النَّارَ"؛ تقتل الإنسان؛ تغرُّه في دينِه وتعطيه ما ليس له، أو تحكم على أحد بما ليس عليه.
"فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ" معتبر بنصيحة أخيه هذا، متذكر لها "إِذَا قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ أَدْبَرَا عَنْهُ نَظَرَ إِلَيْهِمَا وَقَالَ: ارْجِعَا إِلَيَّ أَعِيدَا عَلَيَّ قصتكما" ويتأمَّل، ويراجع حسابته ونفسه، ليصيبَ الحق والعدل، "ويقول: متطبب والله"، ما أنا بالطبيب.. يعني: يتذكّر نصيحة أخيه، ومن مثل أبي الدرداء في ورعه وفي علمه وفي حِكمته، وقد أخذوا معاني الشريعة وأحكامها، مباشرة من المعدن والمصدر من رسول الله ﷺ، أخذوا ذلك وقاموا به. فهكذا كان الشأن بين هؤلاء الأكابر عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
"يقول: بَلَغَنِي أَنَّكَ جُعِلْتَ طَبِيبًا"؛ يعني: أنك تُسْتفتى في الدين، فتُفتي ويُعمل بقولك، كما يُعمل بقول الطبيب في أمر الأدوية وأمر الصحة، "فَإِنْ كُنْتَ تُبْرِئُ فَنِعِمَّا لَكَ"؛ يبرأ؛ يعني: إصابة الحق ودفع الباطل، "وَإِنْ كُنْتَ مُتَطَبِّبًا"؛ يعني: متخرِّص فيما تفتيهم به غير عالم بوجه الصواب تخاف الخطأ و المخالفة، "فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ إِنْسَانًا فَتَدْخُلَ النَّارَ"؛ يعني: تحكم بغير الحق، فيزيد الباطل بسببك، لا إله إلا الله!...
وجاءنا أيضاً في حديث: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ"؛ وفي بيانه في الرواية الأخرى: "واحدٌ في الجنة، واثنان في النار، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ"؛ هذا في الجنة. "وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ" ما يدر حكم موافق للشرع أو لا فقط مشّي المسألة!.. سواء صادف حكم الشرع أو خالفه؛ لأنه على جهل "فهو في النار"، والعياذ بالله تعالى.
"الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ؛ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ" والثاني "ورَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ" أصاب أو أخطأ، بخلاف المجتهد في دين الله المتحرّي قدر استطاعته فإن اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر؛ هذا على بصيرة.
يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: كتب أبو الدرداء من دمشق حين صار قاضيًا هناك إلى أخيه في الله سيدنا سلمان الفارسي، وقيل أنه كتب إليه من رامهرمز، وقيل أن سيدنا سلمان أصله من رامهرمز، وقبل من أصبهان، أول ما شهد مع النبي ﷺ الخندق، وكان قد بيع من قبل الإسلام ووقع في يد يهودي في المدينة المنورة، إلا أنه من خلال ما جالس علماء أهل الكتاب من بقايا النصارى الذين عندهم شيء من الإنجيل غير محرَّف، عرف مكان هجرة النبي ﷺ من العلامات، فلما جيء به إلى المدينة تفرج فعرف أن هذا المكان الذي سيهاجر إليه النبي، فلما جاء النبي ﷺ تقرّب إليه حتى يتأكد من العلامات التي أخذها، فوجدها فيه، فتخلص من الرِّقِّ بعد ذلك واتبع النبي فشهد الخندق وما بعدها -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
فكتب إليه من دمشق سيدنا أبو الدرداء "يقول: أن هلُمَّ أي تعال إلى الأرض المُقدَّسة"؛ أرض الجهاد يقصد به الأرض المُطهرة، وعلمنا أن النبي موسى -عليه السلام- لما أدركه الموت قال: يا ربِّ أدنني من الأرض المُقدَّسة رمية حجر. وعلمنا ما في القصة التي ذكرها ﷺ في الصحيحين وغيرهما، عن الذي تاب بعد قتل مئة نفس وأقبل على الله، وأن الله لما توفي بين الأرضين؛ أرض الأشرار أصحابه الفسَّاق وبين أرض الأخيار، قال الله للملائكة: قيسوا ما بين الأرضين كان أقرب إلى أرض الأخيار فلتأخذه ملائكة الرحمة، وإن كان أقرب إلى أرض الأشرار فلتأخذوا ملائكة العذاب. وقرّب الله هذه الطريق رحمة به لما علم من صدقه، فلما قاسوا وجدوه أقرب إلى أرض الأخيار بشبر فأخذته ملائكة الرحمة، هذا كله معلوم ولكن ما يجوز في ذلك الاعتماد والتساهل بكونه في أرض مقدَّسة، ثم ينسى مهماته وواجباته، وهذا معنى كلام سيدنا سلمان الفارسي لأخيه في الله أبو الدرداء.
"إِنَّ الأَرْضَ لا تُقَدِّسُ" لا تطهر "أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ" الصالح، "وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ جُعِلْتَ طَبِيبًا"؛ يعني: قاضيًا في خلافة سيدنا عثمان -عليه الرضوان- ومات هناك في سنة 32هـ ، وبعده مات سيدنا سلمان الفارسي في سنة 35 هـ، من الهجرة النبوية إلا أن سلمان الفارسي سنه كبير، فقد قضى نحو 60 سنة قبل الإسلام، وبعد الإسلام نحو 60 سنة وقيل أكثر من ذلك.
وهذا سيدنا أبو الدرداء أول من ولي القضاء بدمشق، وكان استُشير فيمن يولّى بعده فأشار إلى فضالة بن عبيد الأنصاري، ولما حضرته الوفاة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وسأله معاوية قال: له من ترى لهذا الأمر فقال له: فضالة بن عبيد.
يقول: "تُدَاوِي"؛ يعني: من الأمراض المعنوية، "فإن كنت تبرئ"؛ يعني: تصيب الحق بصدق واجتهاد ووعي "فنعمّا لك"؛ أي: ما أحسن هذا الأمر، "وإن كنت متطبّباً، فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ إِنْسَاناً"؛ يعني: تحكم بغير الحق، ويزيد الباطل "فَتَدْخُلَ النَّارَ".
"وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ" في خصومة "ثُمَّ أَدْبَرَا عَنْهُ نَظَرَ إِلَيْهِمَا وَقَالَ: ارْجِعَا إِلَيَّ أَعِيدَا عَلَيَّ قِصَّتَكُمَا"؛ قصتكما؛ يعني: كي أتثبّت مرة أخرى، وأنظر الأمر باستيعاب كامل، ثم يقول: أنا "مُتَطَبِّبٌ وَاللَّهِ".. "مُتَطَبِّبٌ وَاللَّهِ"، يصف نفسه بذلك إشفاقًا وخوفاً من الله عزّ وجل.
ثم انتقل إلى مسألة من استعان بآخر من غير حق وما يترتب على ذلك من الضمان، والله أعلم.
نسأل الله أن يكرمنا بالصدق والإخلاص ويلحقنا بالخواص ويجنّبنا فتن الدنيا وآفاتها، ويسعدنا في الدنيا والآخرة، ويرعانا بعين العناية حيثما كنّا، ويتولانا بما تولى به الصالحين من عباده أهل ودادِه بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
18 صفَر 1444