شرح الموطأ - 412 - كتاب الوصية: باب الوَصِيَّة للوَارِث والحِيَازَة

شرح الموطأ - 412 - كتاب الوصية: باب الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالْحِيَازَةِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الوصيةK باب الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالْحِيَازَة.

فجر الثلاثاء 25 محرم 1444هـ.

 باب الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالْحِيَازَةِ

2240 - قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ مِيرَاثَهُ، ثُمَّ أَنْفَذَ الْهَالِكُ بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضٌ، فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الَّذِي وَهَبَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاةِ الَّذِي أُعْطِيَهُ.

2241 – قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِيمَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْطَى بَعْضَ وَرَثَتِهِ شَيْئاً لَمْ يَقْبِضْهُ، فَأَبَى الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ مِيرَاثاً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، لأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ, وَلاَ يُحَاصُّ أَهْلُ الْوَصَايَا  وَلاَ يُحَاصُّ أَهْلُ الْوَصَايَا في ثُلُثِهِ بشَيءٍ مِنْ ذلك. 

باب مَا جَاءَ فِي الْمُؤَنَّثِ مِنَ الرِّجَالِ وَمَنْ أَحْقُّ بِالْوَلَدِ

2243 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ فَارَقَهَا، فَجَاءَ عُمَرُ قُبَاءً، فَوَجَدَ ابْنَهُ عَاصِماً يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلاَمِ فَنَازَعَتْهُ إِيَّاهُ، حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقَالَ عُمَر: ابْنِى. وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: ابْنِى. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ. قَالَ: فَمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ الْكَلاَمَ.

قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: وَهَذَا الأَمْرُ الَّذِي آخُذُ بِهِ فِي ذَلِكَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته ودينه، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وأمينِه، سيدِنا محمدٍ صلى الله وسلم وباركَ وكرّم عليه وعلى آله المطهرين وأصحابه الواعين لتبيينِه، وعلى آبائه وإخوانه، وعلى أتباعه وأحبابه، إلى يوم الوقوف بين يدَي عالمِ ظاهرِ الأمر وبطونه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين محلِ نظر الله تبارك وتعالى وتخصيصه وتعيينه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

يواصل الإمام مالكٌ عليه رحمة الله، ذكرَ سؤال بعض الورثةِ أن يهب له مورّثُه شيئًا من المال، حين تحضُره الوفاة.

قال سيدنا الإمام مالكٌ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "فَإِنْ سَأَلَ" المورِّثُ المريضُ "بَعْضَ وَرَثتِهِ؛ أنْ يَهَبَ لَهُ مٌيراثَهُ حيْنَ تَحْضُرُهُ الوَفاةُ"، ليصير إليه حين تحضره الوفاة، قال : نصيبي منك كذا وكذا فتعطيني إياه، "فَيَفْعل، ثُمَّ لا يَقْضِي فيْهِ"، يعني: لا يُحكَّمُ في المال الموهوب، بمعنى: لا يقبضُه، "ثُمَّ لاَ يَقْضِي فِيهِ الْهَالِكُ شَيْئاً" لا يُحكَّم بشيءٍ، "فَإِنَّهُ رَدٌّ عَلَى مَنْ وَهَبَهُ"، أي: على زيدٍ، "إلا أن يقول له الميتُ" المورِّثُ "فلانٌ" لبعض ورثته "ضعيفٌ" لا يقدر على مزيد كسبٍ، "وقد أحببتُ أن تهبَ له ميراثَك، فأعطاهُ إياه، فإن ذلك جائزٌ، إذا سمّاه" يعني: الموهوب له "الميتُ له"، أي: للواهب؛ لأن الهبة صارت هبةً لمعين، وما كان من هبةٍ فقبَضَها الموهوب له، ثبت حكمُ انتقالِها من الواهب إلى الموهوب له.

 "وَإِنْ وَهَبَ" بعضُ الورثةِ "لَهُ مِيرَاثَهُ،  ثُمَّ أَنْفَذَ الْهَالِكُ بَعْضَهُ"؛ أي: تصرَّف في بعضه وبقي وهذا معنى قوله هناك: "ثم لا يقضي فيه الهالكُ شيئاً،" يعني: تركَه له، هذا معنى قولِه:  "ثم لا يقضي فيه الهالكُ" الميت "شيئاً" فتركه، "فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الَّذِي وَهَبَ" له، في مذهب الإمام مالك.

 "وَإِنْ وَهَبَ"؛ يعني: هذا الذي قد مات، وهب "له" أي "مِيرَاثَهُ"، يعني: ما يستحقُه من الإرث، "ثُمَّ أَنْفَذَ الْهَالِكُ" تصرَّف في بعضه، "وبقي بعضٌ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الَّذِي وَهَبَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ" إلى زيد "مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاةِ الَّذِي أُعْطِيَهُ"؛ أي: بعد وفاة المُورِّث، أو الوارث المُعطَى له.

 يعني يقول: "إن فُلاناً" - يقول لبعض ورثته- "ضعيفٌ، وأحبُ أن تهبَ له ميراثَك،  فيفعل، فإن ذلك جائز"، ووجه ذلك أنه استوجب ميراثه دون تسمية، فإنما يستأذنُه في أن يصرفَه في وجوهٍ يريدُها الوارث أو غيرُه، لا ليبقى على ملكه بعد موته، فإن ذلك لا يصحُ فيه.

 فإذا مات الميت ولم يُحدثِ فيه حدثًا، فقد مات قبل أن يُنفِّذَ ما استأذنَ فيه، فيرْجِعُ إلى مستحقِّه، إلا أن يُسمِّيَ له الموهوب، فقد بيّن الوجهَ الذي سأله إنفاذَه فيه.

 الكلام كله مبنيٌ على مسلك الإمام مالك؛ إذنَ  الوارثَ في المرض المَخوف، مُلْحَقٌ عنده  بما بعد الموت.

 لكن لا عبرة عند جماهير أهل العلم بالإذن في الحياة، وإنما يكون الإذنُ إذا أوصى بأكثر من الثلث، أو أوصى لوارثٍ، يكون الإذن بعد وفاته، أما في حال الحياة وإن أذنوا، فإن ذلك لا يُجيزُ للموهوب له أن يأخذَ الهبةَ من الميتِ، أو الوصيةَ التي أوصى بها الميت. 

 "يَقُولُ فِيمَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْطَى" في صحته "بَعْضَ وَرَثَتِهِ شَيْئاً لَمْ يَقْبِضْهُ، فَأَبَى الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا ذَلِكَ"؛ يعني: يُنَفذوا قول المورِّث، "فَإِنَّ ذَلِكَ" يعني: المال الموهوب "يَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ" ويكونُ "مِيرَاثاً عَلَى وفق كِتَابِ اللَّهِ"، لماذا؟ 

"لأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ" الذي قاله "فِي ثُلُثِهِ"؛ يعني: ليست بوصيةٍ حتى يُنظرَ فيه إلى الثلث.

 "وَلاَ يُحَاصُّ" زيدٌ "أَهْلُ الْوَصَايَا" هذا الذي وُهِب، "في ثُلُثِهِ بشَيءٍ مِنْ ذلك"؛ يعني: من أوصى بوصيةٍ -يُريد في مرضه- فذكر في وصيته أنه كان قد أعطى بعضَ ورثته شيئًا، فذِكرُه أنه قد أعطى فلان كذا وكذا ولم يقبضُه، فإن ذلك ليس لمَن ذُكِرَ أنه كان أعطاه إياه.

هذا تمام الباب الذي تقدم معنا.

 

باب مَا جَاءَ فِي الْمُؤَنَّثِ مِنَ الرِّجَالِ وَمَنْ أَحْقُّ بِالْوَلَدِ

 

ويتكلم على: "مَا جَاءَ فِي الْمُؤَنَّثِ مِنَ الرِّجَالِ"؛ والمؤنثُ من الرجال :هو الذي يشبه النِّساء، إما بأصل خلقته، أو بتخَلُّقه بذلك، في تَكسُّره ولينه ولين كلامه وما إلى ذلك، فهذا الذي يشبه النساءَ من الرجال في حركته ورِقِّة صوته وتَثَنِّيهِ وما إلى ذلك، قد يكونُ  معدومَ الشهوة، لا التفاتَ له إلى النساء، وقد يكون غيرَ ذلك، فالحكمُ يدور مع العلة.

 "باب مَا جَاءَ فِي الْمُؤَنَّثِ مِنَ الرِّجَالِ وَمَنْ أَحْقُّ بِالْوَلَدِ"؛ مسألتين: 

فالمسألة الأولى: ذكر فيها حديثَ "هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ" أنَّ بعضَ هؤلاء الذين يُشِبهون النساء، "كَانَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ" أم المؤمنين "زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أُمَيَّةَ" المخزومي "وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْمَعُ" كلامه له: "يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَداً"، وهذا في اليوم الذي كان فيه محاصِر للطائف، "فَأَنَا أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلاَنَ"؛ إمرأةٍ من نساء الطائف، "فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ"، يصفُ سِمَنها، وكانوا يحبون ذات السِّمَن، إنها تُقبل بأربعةٍ يعني: من العُكَن في بطنها، وتُدبر بثمانٍ، فلما رآه النبيُ يصفُ هذا الوصف اسْتنكَر منه هذا الأمر، ومَنع أن يدخلَ على النساء.

  • وفي هذا بيانٌ لِتَوَقِّي الشُّبهة والحذرُ، من كل مُؤدٍّ إلى سوءٍ أو إلى شر.

جاء في الحديث أنه ﷺ نفاه بعد ذلك، وبقي منفيًّا في خلافة سيدنا أبي بكر، وطُولِب سيدُنا أبو بكر أن يَرجَع إلى بلاده فأبى، ثم في آخر خلافةِ سيدنا عمر أخبروه أنه كَبُرَ وأنه ضَعُف، وأنه عاد من (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ)، فأَذِن له أن يدخلَ إلى المدينة في يوم الجمعة فقط، ويسألُ حاجتَه، ويعودُ إلى مكانه الذي نفاه إليه رسول الله ﷺ، حراسةً للمجتمعات المؤمنة، من موجِب الإلتفات إلى السوء، كائنًا ما كان.

"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ يَدْخُلَنَّ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُمْ". أَمَر النساء أن يَحتجبن منه، ويَعتَزِلْنه. وذلك أنَّ مَن كان من غيرِ أولي الإِرْبة -الذي لا يجد الميلَ للنساء أصلاً-، يمكنُ أن يكون بين النساء فلا يُمنَع، لمكانِ الأمنِ من إلتفاته إلى النساء، ولكن إذا تبينَ أنَّ له ميلٌ أو معرفةٌ بشؤون ما يحصل بين الرجال والنساء، فيجبُ أن يُمنعَ من ذلك. وهكذا يقول الحنفية وسواهم: أن هذا لا تُقبلُ شهادتُه، وأنه يُعزَّرُ ويُحبَس حتى يُحْدِثَ توبة.

وحديثُ أم سلمة يدل على أنه كان مَن يُرى أنه ليس له ميلٌ إلى النساء، أنه كان يدخلُ على النساء، ولما بدت الباديةُ والعلامة، فمُنعَ من ذلك، ومُنع النساءُ أن يَظْهرن عليه.

 وفي الآية الكريمة: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ ) بَعْدَ مَا ذَكَرَ المَحَارِم قال: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ)[النور:31]

  • قال الحنفية: أن قوله (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) من المتشابه، فيُرَدُّ إلى المُحْكَم، وهو قولُه: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ) [النور:30] فلا حُكمَ لهم لهذه الآية، لأنها عندهم من المتشابه، وأن الذين اختلفت أقوالُ العلماء  في مَن هم غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ، قال كلُهم داخلون في المؤمنين الذين أُمروا بغضِّ البصر، فلا معنى له عندهم، فهو عندهم من المتشابه. (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ).

ولكن ذهب غيرُهم إلى أن (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) يعني: غيرِ أولي الحاجة، والذين لا يجدون الشهوةَ إلى النساء.

  • فيَذكُر من أمثال الشافعية يقولون: إن الممسوحَ- وهو ذاهبُ الآلة مع الخصيتين-، هذا ممسوحٌ نهائيًا، يجوزُ نظرُه إلى الأجنبية، سوى ما بين السُّرة والركبة، جعلوهن له  كالمحارم.
  • وهكذا يقول الحنابلة في تفسير قوله (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ): كلُ من ذهبت شهوتُه لِكبرٍ، أو عنّةٍ أو مرضٍ لا يُرجى بُرؤه، ومنه الخَصِيّ عندهم، ومن لا شهوةَ له، فهذا حكمُه في النظر إلى النساء عند الحنابلة حكمُ المحارم، -مثل المحارم- بالنسبة له. وهكذا استدلالهم بما جاء في الحديث.

 وعلِمنا نفيَه ﷺ لهذا الذي وصَفَ النساء، وجاء في روايةٍ أنه لما سمع منه كلماتٍ تصف بدقة يقول: غَلْغلتَ النظرَ يا عدو الله! .يقول له ﷺ، وأمَر بنفيه. وفيه حراسةُ ديار وأُسر ومجتمعات المؤمنين، من أن تشيعَ الفاحشةُ بينهم أو الذكرُ السيئ، وهذا الذي يتناقض معه في سُمُوِّ هذا المبدأ وشرفه الكريم، ما فعَل أعداءُ الله في زماننا من نشر السوء، وإدخالِه إلى كل بيتٍ، وإلى كل دارٍ من ديار المسلمين، وحَقَّ ما قال ﷺ: "إنِّي أَرى الفِتنَ تَتخلَّلُ بيوتَكم كَمَواقِعِ القَطْرِ".

فترتب على ذلك: 

  • أنواعٌ من الشرِ والفساد والضُّر. 
  • وضَعْفِ الإيمان. 
  • والانقطاعِ عن الله سبحانه وتعالى. 
  • وحرمانِ ذَوق الطاعات. 

وكثيرٍ من المواهب الشريفات، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وذَكر عن القاسم بن محمد "يَقُولُ: كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ"، وهي بنتُ ثابت بن أبي الأَقْلَح، وقيل بنتُ عاصم بن ثابت، وأكثرُهم يقول: إنها بنت ثابت بن أبي الأَقْلَح، كان اسمُها عاصية، فاستُنكِر الاسم، فسماها ﷺ جميلة.

تزوجها سيدُنا عمر سنة سبع، "فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ"، وعاصمُ بن عمر وُلد في حياة النبي ﷺ، توفي النبي ﷺ وهو ابن سنتين، "ثُمَّ إِنَّهُ" سيدنا عمر "فَارَقَهَا"، طلقها، فتزوجها يزيدُ ابن جارية، ولدت له عبد الرحمن،  "فَجَاءَ عُمَرُ"رضي الله عنه في خلافة سيدنا أبي بكر "قُبَاءً، فَوَجَدَ ابْنَهُ عَاصِماً" جاء سيدنا عمر إلى قُباء في خلافة سيدنا أبوبكر وجد ولده هذا عاصم، وهو إذ ذاك ابنُ أربع سنين، "يَلْعَبُ" مع الصبيان "بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ،" يعني: في صحن مسجد قباء، يعني: كان عند أمه أو عند جدته، ويمكن أن يكون جاء زائر لجدته، أو كانت أمُّه تزوجت فانتقلت الحضانةُ إلى أم أمِّه. "فَأَخَذَ" عمر بن الخطاب "بِعَضُدِهِ"- بعضُدِ ابنه عاصم، "فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ"، التي كان راكبها،  "فأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلاَمِ" أمُّ أمِّه، للغلام.

"فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلاَمِ"وهي يسمونها: الشَّمُوسُ بنت أبي عامر بن صيفي، أدرَكت سيدَنا عمر لتستردَ منه الولد، "فَنَازَعَتْهُ إِيَّاهُ"، يعني: نازعت الشَّمُوسُ عمرَ فطلبته منه، وأبى سيدُنا عمر، وأراد أن يأخذَه معه، أبى أن يُعطيَه، فكأنه ظنَّ أنه أَولى بِحَضانته، "حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ"، وهو لا يزال ابنُ أربع سنينٍ في الحضانة، والحضانة تنتقلُ من الأمِّ إلى أم الأم، فلما جاؤوا سيدَنا أبا بكر الصديق،  "فَقَالَ عُمَر: ابْنِى." فأنا أحق به.

"وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: ابْنِى" يعني:أنا أحق بالحضانة. "فقال أبو بكر": لما رأى أنه لم يزل في سن الحضانة، والحضانة حق لأم الأم،"خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ".يعني أن المرأةَ أحقُّ به، فقضى به. "قَال: فَمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ الْكَلاَمَ" وخلّى بينهما انقيادًا لأمر أبي بكر الصديق، عليهما رضوان الله تبارك وتعالى. يعني: سلمَ حكمَه والتزم ما يلزمُ به من طاعته والرضا بما قَضى به، وعلمَ أن الحضانة في هذا السن لازالت حقٌ للأم، ولأمِها من بعدها، فأخذته المرأة.

جاء في رواية ابن أبي شيبة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طلق أم عاصم، ثم أتى عليها وفي حِجْرها عاصم، فأراد أن يأخذَه منها، فتجاذباه بينهما، حتى بكى الغلام، و انطلقا إلى أبي بكرٍ، فقال أبو بكر: يا عمر ثديُها وحِجرُها وريحُها خيرٌ له منك، حتى يشبَّ الصبيُ، فيختار لنفسه؛ اتركه يرجع إلى أن يبلغَ السبعَ سنين، -كما هو عند جمهور العلماء-،ثم يختار، إن اختار أن يبقى عندك يبقى عندك ويزورُها، وإن اختار أن يبقى عندها يبقى عندها، ويزورك. ولكن في السن الصغير هذا قال له: ثديُها وحجرها وريحها خيرٌ له منك. قال له: اتركْهُ وأمه أحق به، فكان هذا هو الحكم الذي عليه جماهير أهل العلم.

"قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ وهذا الأمر الذي آخذ به في ذلك"؛ يريد أن الجدة للأم أحقُّ بالحضانة من الأب، أما الأم، فاتفق الفقهاء على أنها أحقُ بحضانة الولد من أبيه، ما لم تتزوج.

وهكذا؛ جاء عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن امرأة قالت للنبي ﷺ: "يا رسول الله، إن ابني كان بطني له وعاء، وثديي له سقاءً، وحِجْري له حِواءً، وأن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعَه مني، فقال لها رسول الله ﷺ: أنتِ أحقُ به ما لم تَنكَحي". فإذا ما تزوجتِ فأنت أحقُ بهذا الولد، تربينه وتقومين بحقه، إذا اشتغلتِ بزوجٍ آخر، وتوجهتْ عليكِ حقوق، انتقل منها إلى أمِّ أمه عند جماهير العلماء، اختلفوا بعد ذلك من الأحَقُ بعد الأم.

وهكذا أيضًا يقول بعضُ المالكية فيما أوردوا عن سُحنون وغيره، يقول: إن رضي الأبُ والأم والولد، أن يكون الولد عند أبيه ولم تتزوج أمه، فلا بأس بذلك، فاعتبر رضا الولد والأم. 

ومتى نهاية هذه الحضانة؟ 

  • عند الإمام مالك: إلى البلوغ.
  • عند الشافعية والحنابلة: إلى سبع سنين.

يقول: هذا في حق الأبناء يقول: 

  • أما في حق البنات عند المالكية: 
    • فجعلوا الحضانة إلى أن تكبر وتتزوج.
    • قالوا: إلا أن يكون موضعُ أبيها أصْوَنَ لها، فتنتقل إليه.
  • وهكذا يقول أبو حنيفة: 
    • إن كان الولد أنثى فالحضانة إلى البلوغ. 
    • وإن كان ذكر حتى يستغنيَ عن مَن يحضُنه، ويقوم بنفسه.
  • قال الشافعية: سبعُ سنين، إذا بلغ الولد سبع سنين، خُيِّر بين أبويه. 

فإذا كان اختار أمه، لم يُمنَع من الاختلاف إلى أبيه يعلّمه، ويأوي إلى الأم؛ لأن الابنَ محتاج إلى أن يعلمه أبوه ويؤدبه، ويُسْلِمُه إلى من يعلمه القرآن والكتابة، وشيئاً من الصنائع ونحو ذلك. فالأب أولى بالابن في الأوقات التي يحتاج فيه إلى التعليم في النهار، ولا يَمنعُ الحضانة، فيصير مأواه ومرجعُه إلى عند أمه، ويكون في النهار مع أبيه للتعلم.

فإذا تزوجت، فالحضانةُ لها ما لم يدخل بها زوجُها، فإذا دخل بها زوجها بطلت حضانتُها، لأن الصبي يلحقُه الضرر، لِتكرُّه الزوج له وضجَره به، والأمُّ تدعوها الضرورة إلى التقصير في تعاهده.

  • يُذكر أيضًا عند المالكية: 
    • حضانةُ الذكر للبلوغ. 
    • وحضانة الأنثى حتى يدخل بها الزوج، هكذا يقول المالكية.
  • يقول الحنابلة: الزوجين إذا افترقا ولهما ولدٌ طفل، فأمُّه أولى الناس بكفالته إذا كمُلت الشرائطُ فيها، ذكراً كان أو أنثى.

وذكروا الحديث الذي أشرنا إليه، إن امرأةً قالت: يا رسول الله، أن ابني هذا كان بطني له وعاءً….. إلى آخره" في رواية أبي داود.

وهكذا تقدم معنا حكمُ سيدنا أبي بكرٍ -رضي الله عنه- على سيدنا عمر بعاصمٍ لأمه، قال: ريحُها وشمُها ولُطفها خيرٌ له منك. أما البالغ الرشيد فلا حضانة عليه، كما هو معلوم.

إذا بلغ الغلام سبع سنين ولم يكن معتوهًا، خُيِّر بين أبويه، لما جاء أيضًا في الحديث: أنه جيء إليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالطفل، تنَازَعَ فيه أبوه وأمه، وكان قد فارقَها، فقال له ﷺ: اذهب مع من تريد، من تريد منهما؟ فقام إلى عند أمه، فحكم له بها؛ فأرجعَ الخيار إلى الطفل، قال: إن اختار أمه أو اختار أباه، وعلى هذا مذهب الشافعية. فالنبي ﷺ خيَّر غلامًا بين أبيه وأمه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

وأنه جاء في الحديث: أن المرأة جاءت إلى النبي ﷺ قالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب  بابني، وقد سقاني من بئر أبي عَنْبة، قال النبي ﷺ: هذا أبوك وهذه أمك، فخُذْ بيد أيِّهما شئتَ، فقام وأخذ بيد أمه، فانطلقت. فقال ﷺ: اذهب. فحكم لها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم به، قال: اذهب مع أمك. ولكن لا تمنَعه من زيارته أبيه، ولا من تعليمه إذا هو بلغ سن التعليم.

وهكذا يقول عمارة الجُرمي: أنه خيَّرني عليٌّ -رضي الله عنه- بين عمِّي وأمي، وكنت ابنَ سبع سنين أو ثمان سنين. فإذا اختار أحدهما سُلِّمَ إليه، فإذا رجع بعد ذلك واختار الآخر، قال:  خلاص لا أريد.. رُدَّ إليه.

فهكذا يُراعى خيارُ الغلام: 

  • إذا كان أبواه جميعًا من أهل الحضانة 
  • والغلام غير معتوه، يعني: يعِي الأمر 

فالخيرة له. وهكذا سواءً كان ابنًا أو بنتًا.

فقيَّدَهُ الشافعية بسبع سنوات. وعلمتَ تفريق الحنفية والمالكية بين الابن والبنت، وما جعلوا الابنَ إلى البلوغ، والبنت عند المالكية إلى أن تتزوج.

ثم يذكرُ باب السلعة في العيب وضمانها. والله أعلم 

نسأل الله أن يصلح أهالينا وأولادَنا وذرارينا، وديارنا ورجالنا ونساءَنا وأبناءنا وبناتنا بأتم الصلاح، ويجنبَنا وإياهم موجبات السوء والضر، فيما بطن وفيما ظهر في الدنيا والآخرة، ويُثْبِتْنَا في سعداء الدارين، ويُحَلِّينا بكل زين ويُخْلِينا عن كل شين، ويصلحَ شؤوننا والأمة أجمعين، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

16 صفَر 1444

تاريخ النشر الميلادي

12 سبتمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام