(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الوصية، باب الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالْحِيَازَةِ.
فجر الإثنين 24 محرم 1444هـ.
باب الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالْحِيَازَةِ
2237 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [البقرة:180] نَسَخَهَا مَا نَزَلَ مِنْ قِسْمَةِ الْفَرَائِضِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
2238 - قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عِنْدَنَا الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا: أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، إِلاَّ أَنْ يُجِيزَ لَهُ ذَلِكَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ إِنْ أَجَازَ لَهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضٌ، جَازَ لَهُ حَقُّ مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ، وَمَنْ أَبَى أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
2239 – قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي يُوصِي فَيَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ فِي وَصِيَّتِهِ وَهُوَ مَرِيضٌ، لَيْسَ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ ثُلُثُهُ، فَيَأْذَنُونَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَهُمْ صَنَعَ كُلُّ وَارِثٍ ذَلِكَ، فَإِذَا هَلَكَ الْمُوصِي أَخَذُوا ذَلِكَ لأَنْفُسِهِمْ، وَمَنَعُوهُ الْوَصِيَّةَ فِي ثُلُثِهِ وَمَا أُذِنَ لَهُ بِهِ فِي مَالِهِ.
2240 - قَالَ: فَأَمَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ وَرَثَتَهُ فِي وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا لِوَارِثٍ فِي صِحَّتِهِ، فَيَأْذَنُونَ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُهُمْ، وَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرُدُّوا ذَلِكَ إِنْ شَاؤُوا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ صَحِيحاً، كَانَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ، يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، إِنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِهِ خَرَجَ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ يُعْطِيهِ مَنْ شَاءَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِئْذَانُهُ وَرَثَتَهُ جَائِزاً عَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا أَذِنُوا لَهُ حِينَ يُحْجَبُ عَنْهُ مَالُهُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ إِلاَّ فِي ثُلُثِهِ، وَحِينَ هُمْ أَحَقُّ بِثُلُثَيْ مَالِهِ مِنْهُ، فَذَلِكَ حِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ، وَمَا أَذِنُوا لَهُ بِهِ، فَإِنْ سَأَلَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ أَنْ يَهَبَ لَهُ مِيرَاثَهُ حِينَ تَحْضُرُهُ الْوَفَاةُ فَيَفْعَلُ، ثُمَّ لاَ يَقْضِي فِيهِ الْهَالِكُ شَيْئاً، فَإِنَّهُ رَدٌّ عَلَى مَنْ وَهَبَهُ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْمَيِّتُ: فُلاَنٌ - لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ – ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَهَبَ لَهُ مِيرَاثَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا سَمَّاهُ الْمَيِّتُ لَهُ.
الحمد لله رب العالمين مُكرِمنا بشريعته، وبيانها على لسان عبده وصفوته خير بريته، سيدنا مُحمد صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته وأهل مودّته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويتحدث الإمام مَالِك -رضي الله تعالى عنه- عن الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وعن الْحِيَازَةِ؛ أي: لمن وُهب له شيءٌ من المال فحَازه أي قبضه وأخذه.
فذكر المسألة الأولى في الوصية للوارث، قال مَالِكٌ "فِي هَذِهِ الآيَةِ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [البقرة:180]" أي منسوخٌ وجوبها، قد كان واجب الوصية على كل إنسان قبل أن يموت، فلما جاءت آيات المواريث وتقسيم الترِكة كما ذكر الله في كتابه رُفِعَ فرض الوصية للوالدين والأقربين، وهذا على ما عليه الجمهور وأنه رُفِعَ فرضها، ويقول الله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً)؛ أي: مالاً (الْوَصِيَّةُ)؛ يعني: كتبت فرضت (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:180] فإن في أول الإسلام كانت الوصية لهم واجبة. قال: "نَسَخَهَا مَا نَزَلَ مِنْ قِسْمَةِ الْفَرَائِضِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"، فبيَّن الحق تبارك وتعالى استيعاب كل وارثٍ حقّه من ترِكة الميت، فليس للموصي أن ينقص أحدهم شيءٌ من حقه ولا أن يزيد فيه بوصيةٍ ولا غيرها، "إنَّ اللهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ؛ فلا وصيَّةَ لوارثٍ". وهكذا جاء في صحيح البُخاري: "عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهما، قالَ: كانَ المالُ لِلْوَلَدِ، وكانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِن ذلكَ ما أحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ". يقول ابِن عباس، وهكذا جمهور العلماء قالوا: كانت الوصية في أول الإسلام واجبة لوالديّ الميت وأقربائه على ما يراه من المساواة والتفضيل، ثُمَّ نُسخ بآية الفرائض.
ويقول مَالِكٌ: "السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عِنْدَنَا الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا: أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ" لما جاءنا عنه ﷺ منها هذا الحديث عن أبي داود والترمذي: "إنَّ اللهَ قد أَعْطى كلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه، فلا وَصِيَّةَ لوارِثٍ". وأنه ذكر ذلك في خطبة الوداع صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. يقول: "إِلاَّ أَنْ يُجِيزَ لَهُ"، يعني للمُوصى له "ذَلِكَ"؛ أي: الوصية للوارث، "وَرَثَةُ الْمَيِّتِ"؛ أي: بقية الورثة، فإذا أجاز بقية الورثة فقال الجمهور أيضًا: أنه يصح لما جاء في الحديث "إِلاَّ أَنْ يُجِيزَ لَهُ" الورثة في رواية الدارقطني.
وفي قول عند المَالِكْية وعند الحَنَابِلَة وقول عند الشَّافعية كذلك: أن الوصية باطلة للوارث، من أصلها لا تصح أصلًا، أجازوا أو لم يجيزوا بأي شيءٍ كان. وهذه الوصية للوارث لا تتقيد بثُلث ولا بغيره ولو بعُشر، لا تصح إلا برضا بقية الورثة. نعم، فكما عليه مُعتمد المذاهب الأربعة: أنه إذا أجاز بقية الورثة ولا كل أحدٍ يجيز،
ولكن من كان أهلًا للتبرع. والعبرة بالإجازة بعد الموت.
وجعل الإمام مَالِكْ أن مرض الموت مثل الموت، إذا أجازوا فيه لم يكن لهم أن يرجعوا.
قال: "وَأَنَّهُ إِنْ أَجَازَ لَهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضٌ، جَازَ لَهُ حَقُّ مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ، وَمَنْ أَبَى أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ"؛ يعني: النسبة التي تصيب حصة المجيز يؤخذ منها، وتبقى حصة غير الذي أجاز كاملة، فيؤخذ النسبة هكذا، "وَأَنَّهُ إِنْ أَجَازَ لَهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضٌ، جَازَ لَهُ"؛ يعني: للمُوْصَى له "حَقُّ مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ" فقط، لا يخصه من حق لو أجاز الجميع، فما يخصّه من حصته هو الذي يؤخذ، "وَمَنْ أَبَى أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ" كاملًا.
قال مَالِكْ: "فِي الْمَرِيضِ الَّذِي يُوصِي فَيَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ فِي وَصِيَّتِهِ -التي أرادها- وَهُوَ مَرِيضٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ ثُلُثُهُ"، هذا صاحب مرض الموت لا يجوز أن يتبرع، "فَيَأْذَنُونَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ"، إما لبعض ورثته أو يوصي لغير وارث؛ ولكن بأكثر من الثلث، قال لهم: رُخْصَة أعطي؟ قالوا: نعم أذنَّا بذلك: أذنوا فيه، فعند مَالِكْ: أنه ما دام أذنوا في مرض الموت فلا حق لهم في الرجوع، خلاص وجب أن ينفذ الوصية ولا يرجعون. قال: "وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَهُمْ"؛ أي: الرجوع عن إذنهم "صَنَعَ كُلُّ وَارِثٍ ذَلِكَ" كيف أن يأذنون في حياته، "فَإِذَا هَلَكَ الْمُوصِي أَخَذُوا ذَلِكَ" المال كله "لأَنْفُسِهِمْ، وَمَنَعُوهُ الْوَصِيَّةَ فِي ثُلُثِهِ" ومنعوا "وَمَا أُذِنَ لَهُ بِهِ" للموصي "فِي مَالِهِ".
"قَالَ مَالِكْ: فَأَمَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ وَرَثَتَهُ فِي وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا لِوَارِثٍ فِي صِحَّتِهِ، فَيَأْذَنُونَ لَهُ"، فيوصي بعد إذنهم "فَإِنَّ ذَلِكَ" الإذن "لاَ يَلْزَمُهُمْ" لأنهم أسقطوا حقهم قبل وجوبه. هذا في الوصية لوارث. أما لغير وارث فتقدّم حكمه. "وَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرُدُّوا ذَلِكَ"، أي: الوصية، "إِنْ شَاؤُوا" بعد موته.
لماذا فرَّق بين إذنهم في مرضه وبين إذنهم في صحته؟ لم يجز لهم الرجوع عن إذنهم في المرض، وجاز في الثاني؟
"وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ صَحِيحاً"، غير مريض- "كَانَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ". قال: "فَأَمَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ وَرَثَتَهُ فِي وَصِيَّةٍ"؛ يعني: وهو صحيح غير مريض، لأن الرجل إذا كان صحيحًا غير مريض كان أحق بجميع ماله "يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، إِنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِهِ خَرَجَ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ"، بجميع ماله أو بعضه "أَوْ يُعْطِيهِ مَنْ شَاءَ" ليس محجورًا عليه. "وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِئْذَانُهُ وَرَثَتَهُ جَائِزاً عَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا أَذِنُوا لَهُ حِينَ يُحْجَبُ عَنْهُ مَالُهُ"، يعني حين "لاَ يَجُوزُ لَهُ" التصرف في "شَيْءٌ إِلاَّ فِي ثُلُثِهِ وَحِينَ هُمْ أَحَقُّ بِثُلُثَيْ مَالِهِ مِنْهُ"، وذلك عند المرض الْمَخُوفُ، "فَذَلِكَ حِينَ يَجُوزُ" في ذلك الوقت.
فأمّا الصحيح فلا، وإذا أوصى ولو بإذنهم وهو صحيح فإنه ما تَنفذ الوصية إلا إن أجازوها بعد موته، بخلاف المريض فقد جعله مَالِكْ مثل الميت، في حين أنه لا يجوز له أن يتصرف إلا في ثلثه، وذلك في مرض الموت. "فَذَلِكَ حِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ، وَمَا أَذِنُوا لَهُ" بِهِ". فإذًا؛ حال الصحة لا يَنفُذ، وهكذا يقول الأئمة الثلاثة: أنه لا اعتبار بإجازتهم إلا بعد موت الموصي، والله أعلم.
ثم يتكلم عن الهِبة فإن سأل بعض ورثته أن أن يهب… وهذه هي: الحيازة.
جعلنا الله من الهداة المهتدين، الموفقين المستمعين القول المتبعين أحسنه، الصادقين الموفقين، الذين أقبلوا على الحق بكُلياتهم وقبِلهم الحق برحمته بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمد ﷺ.
15 صفَر 1444