شرح الموطأ - 410 - كتاب الوصية: باب أمر الحامل والمَرِيضِ والَّذي يَحْضُر القِتَال في أموالهم

شرح الموطأ - 410 - كتاب الوصية: باب أَمْرِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ وَالَّذِي يَحْضُرُ الْقِتَالَ فِي أَمْوَالِهِمْ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الوصية، باب أَمْرِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ وَالَّذِي يَحْضُرُ الْقِتَالَ فِي أَمْوَالِهِمْ.

فجر الأحد 23 محرم 1444هـ.

 باب أَمْرِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ وَالَّذِي يَحْضُرُ الْقِتَالَ فِي أَمْوَالِهِمْ

2235- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي وَصِيَّةِ الْحَامِلِ، وَفِي قَضَايَاهَا فِي مَالِهَا، وَمَا يَجُوزُ لَهَا: أَنَّ الْحَامِلَ كَالْمَرِيضِ، فَإِذَا كَانَ الْمَرَضُ الْخَفِيفُ غَيْرُ الْمَخُوفِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَصْنَعُ فِي مَالِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِذَا كَانَ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِصَاحِبِهِ شَيْءٌ إِلاَّ فِي ثُلُثِهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ أَوَّلُ حَمْلِهَا بِشْرٌ وَسُرُورٌ، وَلَيْسَ بِمَرَضٍ وَلاَ خَوْفٍ، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:71] وَقَالَ: (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف:189]

قَالَ: فَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ إِذَا أَثْقَلَتْ لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ إِلاَّ فِي ثُلُثِهَا، فَأَوَّلُ الإِتْمَامِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) [البقرة:233] وَقَالَ: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً) [الأحقاف:15]، فَإِذَا مَضَتْ لِلْحَامِلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ حَمَلَتْ، لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ فِي مَالِهَا إِلاَّ فِي الثُّلُثِ.

2236- قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحْضُرُ الْقِتَالَ: إِنَّهُ إِذَا زَحَفَ فِي الصَّفِّ لِلْقِتَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَالِهِ شَيْئاً إِلاَّ فِي الثُّلُثِ، وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ الْمَخُوفِ عَلَيْهِ مَا كَانَ بِتِلْكَ الْحَالِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته ودينه، وبيانه على لسان عبده وحبيبه وصفيّه وأمينه، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه السَّارية إليهم أنوار يقينه، وعلى من والاهم في الله وتبعهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى- وحُكمه في ظاهر الأمر وبطونه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين محل تخصيص الله -تبارك وتعالى- وتفضيله وتأييده وتمكينه، وعلى آلهم وصحبهم وأتباعهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ،

فيتحدّث الإمام مالك عن حُكم تبرّعات: 

  • المريض الذي اتصل مرضه بالموت 
  • أو الحامل 
  • أو الذي دخل ساحة القتال 

ولمّا كان المال والمتعة به محصورة مقصورة على مُدة في الحياة على ظهر هذه الأرض، يخرج كل شيء مَلكه -هذا الإنسان- بخروج روحه من جسده عن مُلكه؛ فيكون مُلكًا لغيره، وما هي إلا متاع غرور، وذات أجل محدود، لا استقرار فيها.

قال سبحانه وتعالى لمٰن يتعرَّض للهلاك في البحر ثم ينقَذ أن ذلك إلى حينٍ معدود وأجلٍ معين، فلا مطمع في الدّوام لأحد، يقول جلّ جلاله وتعالى في عُلاه: (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا) فيخلِّصهم من الشِّدة والورطة التي هم فيها قال: (وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) [يس:43-44] لا بقاء، إلا إلى وقت معين قريب يأتي وخلاص ينتهي، هذه المرة خرج وسلم، والمرة الثانية خلاص يجيء له الموت (وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ). فهكذا شأن الحياة وشأن هذه الدُّنيا. فلا ملك يتحصل عليه الإنسان يصحّ أن يسمى ملكًا إلا ما يؤتيه الله تعالى في الجنَّة التي قال عنها: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20]، فما فيها يخلَّد لأصحابها بإبقاء الله -تبارك وتعالى- له.

أما شأن المال، فقد قالوا في الحياة الدُّنيا: إنه إنما سُمِّي مالًا لأنه يميل عن صاحبه، ويتعرّض للخروج من يدي صاحبه في الدُّنيا ببيعٍ أو هبةٍ أو نذرٍ أو سرقةٍ يسرق بها ماله أو نهبٍ ينتهب به ماله إلى غير ذلك، ثم بعد ذلك كله تأتي ساعة الغرغرة؛ فلا يصبح مالكًا لشيء. ويخرج من مُلكه كل ما كان دخل ملكه. ولذا كان يقال في الاعتبار الحبيب علوي تجده كان حريص على مفتاح صندوقه ما يعطيه أحد ولكن وقد جاءت وقت الغرغرة، قد أصبح مفتاح صندوقه بيد غيره، يحمله غيره ويأخذوه معهم، ولا عاد له شيء، ولا يقبض شيء، انتهى. فهكذا شأن هذه الحياة وجعل الله التصرف فيها اختبارًا لعباده؛ يختبرهم.

وما من قليل أو كثير من المال يصل إلى مكلَّف إلا وسئل عنه: 

  • من أين اكتسبه؟ 
  • وفيم أنفقه؟ 

وبذلك تكلَّم الفقهاء عن المرض، ومتى يكون المرض حاجزًا للإنسان أن يتبرع أو ينفق أو يتصرف في ماله، وأن ينحصر صحة تصرفه في الثُّلث فقط فما دونه في مرض الموت المخُوف، وهذا المرض المخوف الذي يتصل بالموت. 

  • وهكذا يقول الحنفية: والذي يغلب فيه خوف الموت، وعجز معه المريض عن رؤية مصالحه خارجًا عن داره، وكذلك بالنسبة للمرأة تعجز عن رؤية مصالحها داخل الدار؛ فيموت على هذا الحال قبل مرور سنة؛ فعندهم هذا هو الذي لا ينفذ تصرفه إلا في الثُّلث فما دونه.
  • فقال جمهور الفقهاء: كل مرضٍ يغلب منه الموت بحكم العادة فيما أجرى الله تعالى ثم يتصل فعلًا بالموت فهو مرض الموت الذي في أثنائه لا يصح تصرف صاحبه إلا في الثُّلث فما دونه لأنه صار مال وارث.

كما قال سيِّدنا أبو بكر صديق لمَّا مرض لابنته عائشة: كنت قد نحلتُك من جذاذ النَّخل بما يقابل عشرين وسقًا، وإنما الآن صار مال وارث، وإنما هو مال وارث ما صار حقي لمَّا أنا مريض، وإنما هما أخواك وأُختاك. قالت: أخوَايا وأختي أسماء فمن الثانية؟ قال: حمل في بطن، ما أراه إلا أنثى؛ جارية ستأتي فكان كما قال. وولدت زوجته ببنت، فكانت هي الأخت الثانية لسيِّدتنا عائشة. قال: فلو كنتِ احتزتيه قبل ذلك كان لك، أما الآن صار مال وارث.

وهكذا ومع ذلك فقد أوصى أن يحصَر ما أخذه من نفقةٍ له ولأهل من بيت المال مُدة الخلافة، وأن يرجع من ماله الخاص إلى بيت مال المسلمين، فأُحْصِي ما أخذه من نفقةٍ في خلال السَّنتين والسّتة أشهر، فبلغ نحو ستة ألاف درهم، فحُملَت إلى سيِّدنا عُمَر، فلما جيء به، قال: ما هذا؟ قال: أبو بكر،  بكى سيِّدنا عُمَر وقال: لقد أتعبت من يأتي بعدك يا أبا بكر. 

وذلك أنه لمَّا ولِّيَ الخلافة خرج إلى السّوق يبيع لأجل نفقة مَن تلزمه نفقته، فقالوا: يا خليفة رسول الله أنت مشغول بالخلافة ما يصلح أن تشتغل! قال: وقد كلفني الله بأهلٍ يجب علي الإنفاق عليهم، أجمعوا الصحابة قالوا: تأخذ نفقتك من بيت المال وتتفرغ لقضايا المسلمين، فقبِل ذلك ثم أوصى أن يرد جميع ما أخذه إلى بيت المال. 

قال: "باب أَمْرِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ وَالَّذِي يَحْضُرُ الْقِتَالَ فِي أَمْوَالِهِمْ"، وابتدأ في ذكر الحامل؛ أي: المرأة الحامل "فِي قَضَايَاهَا فِي مَالِهَا"؛ أي: تصرُّفها فيه، "وَمَا يَجُوزُ لَهَا":

  • "أَنَّ الْحَامِلَ" عند الإمام مالك: من بعد ستة الأشهر من الحمل؛ صارت كالمرض المخُوف. أما قبل ستة الأشهر؛ فلا. 
  • فهو عنده وعند الحنابلة كذلك؛ أن الحامل بعد ستة الأشهر ما تتصرف في مالها إلا بمقدار الثُّلث. 
  • لكن قال غيرهم كالشافعية والحنفية: الحامل كغيرها في نفوذ تصرفها في مالها كُله، ما لم تأتِ ساعة الطلق، وفي تلك اللحظة إلى أن يتم انفصال الجنين منها هذا هو المرض المخُوف الذي يتقيّد فيه تصرفها بالثلث فما دونه. 

وعند الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل أنه: إذا قد بلغ الحمل ستة أشهر، انتقلت إلى حكم صاحب المرض المخُوف، قال: "فَإِذَا كَانَ الْمَرَضُ الْخَفِيفُ غَيْرُ الْمَخُوفِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَصْنَعُ فِي مَالِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِذَا كَانَ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِصَاحِبِهِ شَيْءٌ إِلاَّ فِي ثُلُثِهِ". ثم أن صاحب المرض المخُوف إذا تصرَّف بشيء من ماله ولو فوق الثُّلث ثم برئ من المرض؛ نفذ كل ما تصرَّف فيه وكل ما أعتقه لأنه برئ، وإن كان المرض مخُوف. فلا يكون مرض موت إلا أن يتصل بالموت، أما إذا برئ؛ نفذ جميع ما تصرَّف فيه أيام مرضه ذلك المخُوف ثم بعد ذلك إن طرأ له مرض آخر عند الموت فله حكمه. وأما هذا الذي كان مخُوفًا ولكن برئ منه؛ فلا حكم له بعد أن يبرأ منه فكأنه لم يمرض. 

هكذا في التبرعات المُنَجَزَة من عتق ومحاباة، وهبة، وصدقة، ووقف، وإبراء وغير ذلك، أو عفو عن جناية موجبة للمال، ما كان منه في حال الصّحة؛ فهو من رأس المال لا خلاف بين أهل العلم فيه. وإن كانت في مرض مخُوف اتصل به الموت؛ فهي من ثلث المال كما يقول جماهير أهل العلم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. قال ﷺ: "أنَّ اللهَ تصَدَّقَ عليكم عِندَ وَفاتِكم بثُلُثِ أموالِكم زِيادَةً في أعمالِكم". 

وهكذا جاء عن سيِّدنا عمران بن الحصين -رضي الله عنه-: أن رجل من الأنصار كان عنده ستة أعبُد وما له مال غيرهم، وكان في مرضه مرض موته، أعتقهم كلهم السِّتة، فمات فَرُفِع أمره للنَّبي ﷺ، فأقرع بينهم، خَرَجَ ثلث؛ اثنين، فأعتق اثنين وأبقى الرق على الأربعة. مع تشوّف الشَّارع إلى العتق، ما أجاز له التَّصرف في حال المرض إلا في الثُّلث فقط، فهم ستة ثلثهم اثنين، أقرع بينهم، فأعتق اثنين ﷺ وبقي الأربعة فمن باب أولى التّصرّف بغير العتق، ما ينفذ فوق الثُّلث لمَن كان مريضًا مرض الموت، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة كما جاءنا في الصَّحيحين. 

إذًا؛ فلا بُد أن يكون المرض مخوفًا، أما واحد جاء له زكام فتبرّع وبعد ذلك مات، هذا موت فجأة لأنه الزُّكام ما يؤدي إلى الموت غالبًا. نعم الحامل نحوها إذا أقعدها الحمل، فصارت ما تستطيع التحرك، صارت مثل المريض مرض المخُوف، سواء في الستة الأشهر أو قبلها أو بعدها. وعَلِمنا قول الإمام مالك والإمام أحمد: أنه من بعد الستة أشهر، تصير لا تصرّف لها إلا في الثُّلث. 

"قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ أَوَّلُ حَمْلِهَا بِشْرٌ وَسُرُورٌ"، فما فيه مرض مخُوف، "وَلَيْسَ بِمَرَضٍ وَلاَ خَوْفٍ، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ)" فبداية الحمل إنما بشارة  وسرور، لا مرض، (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، ثم مُتِّعَت حتى جاءها إسحاق وكبر إسحاق، وولد له يعقوب وهي حية، (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:71]، فأدركته في حياتها، ورأت ابن ابنها.

كذلك "وَقَالَ: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ)"، إذًا هذا ليس مرض مخُوف، بل حمل خفيف كما وصف الله -سبحانه وتعالى-: "(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ)"؛ صارت ذات ثقل؛ هذا فسّره الإمام مالك والإمام أحمد بأنه ستة أشهر، "(دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً)؛ أي: ولدًا صالحًا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف:189]". إذًا فسمّى الله في ذلك فهو الحمل خفيفًا وآخره ثقيلًا (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ). 

"قَالَ مالك: فَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ إِذَا أَثْقَلَتْ لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ"؛ أي: التصرف في مالها "إِلاَّ فِي ثُلُثِهَا"؛ صارت بمنزلة صاحب المرض المخُوف، "فَأَوَّلُ الإِتْمَامِ"؛ يعني: مبدأ الثِّقل "سِتَّةُ أَشْهُرٍ"، وهذا أقل الحمل، "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ) [البقرة:233]" سنتين وهي عبارة عن 24 شهرًا، وقال عزَّ وجل في بداية في سورة الأحقاف: "(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً) [الأحقاف:15]". فإذا أخرجنا 24 بقيت 6 من الثلاثين، يشيروا إلى ما استدل به سيِّدنا علي بن أبي طالب على أن أقل الحمل ستة أشهر. 

وذلك أنه: جيء إلى سيِّدنا عُمَر بامرأة تزوجت فولدت بعد ستة أشهر، فأخذوا يشكّون في هذا الحمل أمن زوجها أم كانت قد عصت، فجاء سيِّدنا علي وجدهم عزموا على إقامة الحد عليها، فسأله سيِّدنا عُمَر، فقال له: الحمل الصَّحيح والولد لأبيه، -زوجها-؛ ولا شيء عليها، قال: كيف ذلك؟ فذكر له الآيتين قال إن الله يقول:  (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)، وقال: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً)؛ فمُدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرًا، فأخرجنا الحولين الكاملين 24 شهر من الثلاثين، فبقيت ستة؛ فهي وقت الحمل. فرح سيِّدنا عُمَر باستنباط سيِّدنا علي، وألحق الولد بأبيه، وحكم ببراءة المرأة. "(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً)، فَإِذَا مَضَتْ لِلْحَامِلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ حَمَلَتْ، لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ فِي مَالِهَا إِلاَّ فِي الثُّلُثِ"، وهذا مذهب الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.

"قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحْضُرُ الْقِتَالَ"؛ يعني: يدخل في المعركة، "إِنَّهُ إِذَا زَحَفَ"؛ يعني: مشى "فِي الصَّفِّ لِلْقِتَالِ"؛ يعني: ما يصير له هذا الحكم إلا إذا صار في الصف، صف المقاتلين وجملتهم، أما إذا حضر في النظارة وكان متوجه للقتال ولم يدخل في الصف بعد، ما وصل إلى الصف، فليس له هذا الحكم فله التصرف بماله مطلقًا، ولكن إذا قد دخل صف المقاتلة، ومباشرة القتال ومحاولته؛ هنا يكون حكمه حكم صاحب المرض المخُوف. "لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَالِهِ"؛ يعني: أن يحكم ويتبرع "شَيْئاً إِلاَّ فِي الثُّلُثِ، وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ" التي مضت عليها ستة أشهر "وَالْمَرِيضِ الْمَخُوفِ عَلَيْهِ -الموت- مَا كَانَ بِتِلْكَ الْحَالِ". ما دام في صف القتال، إذا انتهت المعركة؛ صار له التَّصرّف كما كان في ماله كله.

  • يقول الحنابلة: إذا التحم الحرب واختلطت الطائفتان للقتال، وكان كل طائفة مكافأة للأخرى أو مقهورة. فأما القاهرة منهما بعد ظهورها فليست خائفة، وكذلك إذا لم  يختلطوا بل كانت كل واحدة منهما متميزة سواءً كان بينهما رمي بالسهام أو لم يكن فليست حالة خوف.
  • وهكذا يقول الشَّافعي في المُعتمد عندهم أنه: ليس بمخُوف، ليس بمريض هنا. 
  • وأخذ الأئمة الآخرون بأن فيه توّقع التلف؛ فردّوه كالمريض. 

وهكذا الإنسان عُرضة للمرض وعرضة الموت في كل وقت، والعاقل من اغتنم، وفي الحديث "اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك". فالعاقل مَن اغتنم وإلا لا استمرار ولا بقاء، لا لصحة ولا لشباب، ولا لعُمر؛ كله ينفد وينتهي، فالمغتنم من اغتنم الفراغ قبل الشُّغل، والصّحة قبل المرض، والشّباب قبل الهرم، والحياة قبل الموت.

بارك الله في أوقاتنا، بارك الله لنا في أعمارنا، بارك الله لنا في أحوالنا وأطوارنا كُلها بركةً تامة، ورزقنا حُسن النَّظر فيما يُرضيه عنا، وثبّتنا على ما يُحبّه منا ويرضى به عنا، في خير ولطف وعافية. بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

15 صفَر 1444

تاريخ النشر الميلادي

11 سبتمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام