(535)
 (364)
 (604)
 شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الوصية، باب الْوَصِيَّةِ فِي الثُّلُثِ لاَ تَتَعَدَّى.
فجر السبت 22 محرم 1444هـ.
باب الْوَصِيَّةِ فِي الثُّلُثِ لاَ تَتَعَدَّى
2232- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ". فَقُلْتُ فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: "لاَ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ". قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحاً، إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ، حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَأبِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ". يَرْثِى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ".
2233- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَيَقُولُ غُلاَمِى يَخْدُمُ فُلاَناً مَا عَاشَ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ، فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، فَيُوجَدُ الْعَبْدُ ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ، قَالَ: فَإِنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ تُقَوَّمُ، ثُمَّ يَتَحَاصَّانِ، يُحَاصُّ الَّذِي أُوصِىَ لَهُ بِالثُّلُثِ بِثُلُثِهِ، وَيُحَاصُّ الَّذِي أُوصِىَ لَهُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ بِمَا قُوِّمَ لَهُ مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ، أَوْ مِنْ إِجَارَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ إِجَارَةٌ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ خِدْمَةُ الْعَبْدِ مَا عَاشَ عَتَقَ الْعَبْدُ.
2234- قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الَّذِي يُوصِي فِي ثُلُثِهِ فَيَقُولُ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا يُسَمِّي مَالاً مِنْ مَالِهِ، فَيَقُولُ وَرَثَتُهُ: قَدْ زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا أَهْلَ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ وَيَأْخُذُوا جَمِيعَ مَالِ الْمَيِّتِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْسِمُوا لأَهْلِ الْوَصَايَا ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ، فَيُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ ثُلُثَهُ، فَتَكُونُ حُقُوقُهُمْ فِيهِ إِنْ أَرَادُوا بَالِغاً مَا بَلَغَ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان عبده وحبيبه سيِّدنا مُحمَّد مُشيّد أركانها، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سار في دربه ووالاهُ واقتدى به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين خير أهل القُرب من الله وسادة أحبابه، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيتكلم الإمام مالك في هذه الأبواب عن حُكم الوصية، ويتكلم الآن في أن الوصية إنّما تكون بالثُّلُث لا تتعداه ولا تتجاوزه، وأن الموصي إذا أوصى بالثُّلُث أو أقل من الثُّلُث من ماله لغير وارث؛ فإن وصيته نافذةٌ بالإجماع، ويجب أن تُؤدى إلى الموضع الذي أوصى بها إليه. وأما إن أوصى لوارث، فقد تقدَّم الحكم عندنا في الباب الذي سبق هذا، وأنه "لا وصية لوارث".
وهكذا قالوا أيضًا: إن كان اتخذ غير الوارث حيلة ووسيلة ليصل إلى الوصية إلى الوارث؛ فهو من الجنف الذي قال الله عنه: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا) [البقرة:182]، كأن يوصي لابن بنته، وإنما يريد ابنته ولكن يجعل ابن البنت في ظاهر الوصية من أجل يصل المال إلى البنت، وهي واحدة من الورثة. فيريد أن يوصي لها، فتوسّل وتحيَّل بابن البنت لأنه غير وارث، إلى غير ذلك، فسواءً وصَّى إلى الوارث مباشرة أو جنفًا، فتحيّل ووصَّى إلى غير وارثٍ ليصل الموصى به إلى الوارث، والله أعلم بنيّات عباده.
قال: فالوصية في الثُّلُث، فالوصية تكون بالثُّلُث، فإذا أوصى بأكثر من الثُّلُث؛ فإنَّ ما زاد على الثُّلُث لا تنفُذ فيه الوصية إلا بإجازة الورثة عند جمهور أهل العلم.
يقول: "باب الْوَصِيَّةِ فِي الثُّلُثِ لاَ تَتَعَدَّى"؛ أي: لا تتجاوز الثُّلُث.
ومما جاء في أقوال الأئمة -عليهم الرضوان- علمنا أن الجمهور قالوا: ما زاد على الثُّلُث تكون موقوفة على إجازة الورثة. فإن أجاز الورثة الزائد على الثُّلُث؛ نفذت الوصية. وإن ردّوا الزيادة؛ بطلَت.
متى يعتبر الثُّلُث؟ وقت الوصية أم وقت الموت؟ أم وقت التنفيذ؟ الزائد عن الثُّلُث باعتبار عند موت الموصي لأن الوصية تُملك بعد الموت؛ تمليك ما بعد الموت.
وهذا القول الثاني ضعيف، يقول: كما إذا نذر أن يتصدَّق بثُلث ماله، يعتبر الثُّلُث متى؟ يوم النَّذر ولكن الوصية تختلف، فإنما يبدأ التّمليك للموصى له بعد موت الموصي، فالعبرة بمقدار الثُّلُث في ماله الذي يكون موجودًا عند موته.
ذكر لنا حديث: "سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودُنِي" وفيه استحباب عيادة المريض والحرص على ذلك من قبل الأكابر والأصاغر، فخرج النَّبي ﷺ لمّا مرض بمكة سعد بن أبي وقاص يعودُهُ إلى بيته، المكان الذي هو مقيم فيه. وأنا بمكة في رواية البخاري يعودني، جاء في رواية: مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، أشفيت منه على الموت. "عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ"، فكيف جاء في بعض الروايات أنه عام الفتح؟! وعام حجة الوداع في السَّنة العاشرة من الهجرة.
قال الحُفّاظ: إن الرِّواية التي عند التِّرمذي إنه في عام الفتح وهمًا، وأن المراد عام حجة الوداع. وأشار بعض أهل العلم إلى إمكانية الجمع بين الرّوايتين بأن يكون وقع له ذلك مرة عام الفتح، ومرة في عام حجة الوداع، وفيه بُعد، وذلك أن الكلام واحد وأخباره أنه يُخلّف، وقال بهذا الجمع ذكره العيني وغيره. وكيف جمعوا؟ قالوا: أنه في مرتين وأنه في المرة الأولى لم يكن له ورثة قط، ثم المرة الثانية إذ عنده ابنة. الرواية فعند التِّرمذي فعام الفتح وإنه إرث الابنة لي، فالإبنة موجودة من عام الفتح، فالمعتمد إذًا عند الحُفاظ أن الواقعة وقعت "عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ مَا تَرَى"؛ أي: الغاية القصوى "وَأَنَا ذُو مَالٍ"؛ يعني: عندي مال كثير "وَلاَ يَرِثُنِي" من أقاربي "إِلاَّ ابْنَةٌ لِي"؛ يعني: لا يرثني من الولد أو خواص الورثة أو من النِّساء وإلا كان لسيِّدنا سعد عصبات، يرثه العصبة، فهو من بني زُهرة وكانوا كثيرًا موجودين، فله عصبات ولكن من خصوص الورثة الأقارب لا أحد إلا ابنة له. فاستأذن من النَّبي ﷺ أن يوصي بماله "أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ""؛ يعني لا تتصدق بالثلُثين.
قال سعد: فَقُلْتُ فَالشَّطْرُ؟" نصف. "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ"." قال: يا رسول الله الثُّلُثُ، "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ..". من قوله: "الثُّلُثُ كَثِيرٌ"، استحب بعض أهل العلم أن الموصي ينقص على الثُّلُث شيئًا، لأن النَّبي قال: "وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"، وإن كان يجوز الوصية به، فهو كثير بالنسبة لما دونه، فلا يوصي الرجل بأكثر من الثُّلُث، وأن ينقص شيئًا عن الثُّلُث ذلك مُستحب عند بعض أهل العلم، حتى كان سفيان الثوري يقول: يستحبون في الوصية الخمس بعد الرّبع، والرّبع دون الثُّلُث.
"إِنَّكَ" يقول ﷺ: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ"؛ يعني: تترك من بعدك "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ" بما تترك لهم من الإرث منك "خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ"؛ تتركهم بعدك "عَالَةً"؛ جمع عائل وهو الفقير، عالَ يُعيلُ إذًا افتقر. وقيل: العائل كثير العيال، والمراد هو: الفقير. "يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"؛ يعني: يسألونهم بأكفهم فيقال: تكفَّفَ النَّاس واستكفّ إذا بسط كفَّهُ للسؤال. وقيل: إذا سأل ما يكفّ عنه الجوع، يقال له: تكفُّفْ.
"وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ" يقول له ﷺ، "وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ"؛ يعني: إذا بقيت في الحياة وأنفقت شيئًا "نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا" عليها، وفيه أنه لا يحصل من ثواب الصَّدقات والأعمال الصَّالحة إلا ما قُصِدَ به وجه الله وأُخلص فيه لله، وإلا فلا ثواب للعمل الذي يُراد به غير الله لأي غرض كائنًا ما كان. قال: "تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ" عزَّ اسمه، لا غرض آخر "إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا" عليها، "حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ". قالوا: فالواجب يزداد أجره بالنية فإن النَّفقة على الزوجة واجبة، ولكن إذا اتسعت النّية ونوى السُّرور وإدخال السُّرور والمُباسطة وناول بيده أُجِر على ذلك أجر أكثر.
"قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟" فهم من كلام النَّبي ﷺ لمّا جاوبه على هذا الجواب أنه لن يموت من هذا المرض وأنه سينفق "أَأُخَلَّفُ بَعْدَ" أبقى. وفي عند بعضهم قال: أنه أراد بـ "أَأُخَلَّفُ"؛ يعني: في مكَّة بعد أن يذهب المهاجرون وأنا أبقى في مكَّة ولكن مساق الحديث يقتضي أنه فهِم من كلام النَّبي أنه سيبقى، فقال رسول الله عليه وسلم، وجواب النَّبي يؤيد ذلك. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحاً"؛ يعني: بعد قومك وتبقى فترة في الدُّنيا إلا تعمل عمل صالح "إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ، حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، "، وأكد له المعنى فقال: "وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ، حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، ..".
"وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ"؛ يعني يطول عمرك وتعيش مدة، فكان الأمر كذلك، فإنه بعد عام الوداع عاش قريب من 40 سنة بعد ذلك، يقول:
ينتفع بك المسلمون في الغنائم مما يستفتح الله على يديك، ويضر بك المشركون الهالكون على يديك.
قال النَّبي دعاء: "اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَأبِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ"؛ الذين هاجروا من مكَّة إلى المدينة لا تردهم على أعقابهم بترك الهجرة، ورجوعهم المستقيم حالهم المرضية إلى حال غيرها، فيخيب قصدهم، "وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ"، فلا يسوء حالهم، ولا ينقصون عن ما قاموا به في حياتي، وتربّوا عليه عندي حتى يكونوا مستقيمين على منهج من بعدي إلى أن يلقوك. "اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَأبِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ".
ثم ذكر سعد بن خولة "لَكِنِ الْبَائِس"؛ الذي يتبين عليه أثر البؤس "سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ"، قال النَّبي: "يَرْثِى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ". وهو من المهاجرين يرثي له؛ يعني يتوجع ويحزن عليه. والرِّثاء يطلق على: التوجع والتحزن له صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، "أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ" في نفس حجة الوداع، وكان ثم ودَّ أنه يموت في خارج مكَّة لتتم له الهجرة.
فهذا الذي عليه كثير من الحديث أن موته كان في حجة الوداع هذا سَعْدُ بن خَوْلَةَ. وجاء عند بعضهم أنه كانت موته في أيام الصُّلح مع قريش، في سنة سبعٍ فتوفي بمكَّة، فتوجع رسول ﷺ لمرضه ولموته في أرض هاجر منها، وهو سيِّدنا سَعْدُ بن خَوْلَةَ ممَن شهد بدرًا، قد هاجر ولكن رجع لمكَّة بذلك يضعف قول من قال: أن النَّبي رثي له لأنه ما هاجر، بل هاجر ولكن تمنى أن يكون موته في غير مهاجره، من غير البقعة التي هاجر فيها، وفي رفعة وجهة المهاجرين -عليهم الرضوان- وعدم التفاتهم إلى شيءٍ تركوه من أجل الله -جلَّ جلاله-، كان أحدهم بمكَّة يمر في الطريق الذي كان فيها بيته الذي كان يملكه قبل الهجرة، فيلوي برأسه لا ينظر إليه، ولا يلتفت إلى بيته، وقد تركه لربه -جلّ جلاله- ومن أجل ربه -سبحانه وتعالى-، فلا يحب حتى يشط فيه بعينه ولا ينظر إليه، ويلوي رأسه ويمشي، قد تركه لأجل الله -جلّ جلاله-.
وهكذا فرَّع على ذلك الإمام مالك قال: "قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَيَقُولُ غُلاَمِى يَخْدُمُ فُلاَناً مَا عَاشَ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ"، بعد موت الذي يخدمه "فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، فَيُوجَدُ الْعَبْدُ ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ"؛ يعني: إذا نظرنا ووجدنا أنه يساوي ثلث المال أو أقل "قَالَ: فَإِنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ تُقَوَّمُ"؛ يعني: تُقَوَّم خدمته أقل العُمْرين، إن مات أحدهما قبل ما جُعِل له. "ثُمَّ يَتَحَاصَّانِ، يُحَاصُّ الَّذِي أُوصِىَ لَهُ بِالثُّلُثِ بِثُلُثِهِ، وَيُحَاصُّ الَّذِي أُوصِىَ لَهُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ بِمَا قُوِّمَ لَهُ مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ، أَوْ مِنْ إِجَارَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ إِجَارَةٌ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ خِدْمَةُ الْعَبْدِ مَا عَاشَ عَتَقَ الْعَبْدُ."؛ فَإِذَا مَاتَ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ خِدْمَةُ الْعَبْدِ، الذي أُوصي بأن يكون العبد خادمًا له، "عَتَقَ الْعَبْدُ"؛ عملًا بالوصية، فهذه المسألة مبنية على جواز الوصية بخدمة العبد، ومنها سُكنى الدار، وعلى ذلك الذي ذكره مالك، أبو حنيفة، والشَّافعي.
فمن أوصي له بخدمة مملوك أو سُكنى دار؛ جاز له أن يكري ذلك إلا أن يعلم أن الموصي أراد أن يسكن بنفسه.
إذًا؛ الوصايا إذا ضاق عنها الثُّلُث وتساوت في التأكيد؛ ووقعت المحاصَّة فيها. قال: في لفظ واحد، ووقت واحد، أوقات مختلف، وبعد ذلك في أخذ المُوصى له ما يوجب الوصية عند ضيق الثُّلُث، وذلك في المحاصَّة بالتعمير ومدة التعمير، أشار إليه في الكلام هذا الإمام مالك -عليه رضوان الله- وعقّبه بقوله: "فِي الَّذِي يُوصِي فِي ثُلُثِهِ فَيَقُولُ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا يُسَمِّي مَالاً مِنْ مَالِهِ، فَيَقُولُ وَرَثَتُهُ: قَدْ زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا أَهْلَ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ"، ويأذنون بذلك ولهم الثواب "وَيَأْخُذُوا جَمِيعَ مَالِ الْمَيِّتِ"؛ يعني: الأوصياء؛ يعني: يعطون كل الذي أوصى به الميت، "وَبَيْنَ أَنْ يَقْسِمُوا لأَهْلِ الْوَصَايَا ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ، فَيُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ ثُلُثَهُ، فَتَكُونُ حُقُوقُهُمْ فِيهِ إِنْ أَرَادُوا بَالِغاً مَا بَلَغَ".
فإذا أوصى لواحد بثلاثين ألفًا، وواحد بعشرين ألفًا، وواحد بعشر آلاف؛ فصار ستين ألف، وُجدت أكثر من الثُّلُث، فأعطوهم الثُّلُث فقط، يتحاصّونه بينهم البين، كم نسبة هذا إلى هذا؟ وهذا إلى هذا؟ فيأخذُ هذا من الثُّلُث سُدسه الذي أوصى إليه بالعشرة، ويأخذُ الذي أوصى إليه بالعشرين، يأخذُ منه ثلثًا وتبقى الثُّلُثين للذي أوصى له بالثلاثين وهكذا بحسب الحصص توزع عليهم، كم نقص من الأصل، وكم نسبة كل واحد إلى الآخر، فيؤخذ بالنسبة ويعطون من الثُّلُث، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، وبارك لنا في أعمارنا، وبارك لنا في أعمالنا، وبارك لنا في أموالنا، وبارك لنا في أهالينا وأولادنا، وبارك لنا في حياتنا، وبارك لنا في وفاتنا، وبارك لنا في دنيانا وبرزخنا وآخرتنا، ودفع السّوء عنا وأصلح الحس لنا والمعنى، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
14 صفَر 1444