شرح الموطأ - 408 - كتاب الوصية: باب جواز وصِيَّة الصَّغِير والضَّعيف والمُصَاب والسَّفِيه

شرح الموطأ - 408 - كتاب الوصية: باب جَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمُصَابِ وَالسَّفِيهِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الوصية، باب جَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمُصَابِ وَالسَّفِيهِ.

فجر الأربعاء 19 محرم 1444هـ.

باب جَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمُصَابِ وَالسَّفِيهِ

2229 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ هَا هُنَا غُلاَماً يَفَاعاً لَمْ يَحْتَلِمْ مِنْ غَسَّانَ، وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ، وَهُوَ ذُو مَالٍ، وَلَيْسَ لَهُ هَا هُنَا إِلاَّ ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَلْيُوصِ لَهَا. قَالَ: فَأَوْصَى لَهَا بِمَالٍ يُقَالُ لَهُ بِئْرُ جُشَمٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ: فَبِيعَ ذَلِكَ الْمَالُ بِثَلاَثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَابْنَةُ عَمِّهِ الَّتِي أَوْصَى لَهَا، هِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ.

2230 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ غُلاَماً مِنْ غَسَّانَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ، وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ فُلاَناً يَمُوتُ أَفَيُوصِي؟ قَالَ : فَلْيُوصِ.

قَالَ يَحْيَى: بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَكَانَ الْغُلاَمُ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، أَوِ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ: فَأَوْصَى بِبِئْرِ جُشَمٍ، فَبَاعَهَا أَهْلُهَا بِثَلاَثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.

2231 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الضَّعِيفَ فِي عَقْلِهِ، وَالسَّفِيهَ وَالْمُصَابَ الَّذِي يُفِيقُ أَحْيَاناً، تَجُوزُ وَصَايَاهُمْ، إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ مَا يُوصُونَ بِهِ، فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ عَقْلِهِ مَا يَعْرِفُ بِذَلِكَ مَا يُوصِى بِهِ، وَكَانَ مَغْلُوباً عَلَى عَقْلِهِ، فَلاَ وَصِيَّةَ لَهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بالشريعة، وبيانها على لسان عبده محمدٍ ذي الوَجاهات الوسيعة. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المختار سيدنا محمدٍ مَن حاز الحُسنَ جميعه، وعلى آله وصحبه وتبيعَه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المراتب العليَّة الرفيعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

ويتكلم سيدنا الإمام مالكٌ -عليه رحمة الله- في هذا الباب عن حكم "وصيّةِ الصَّغير"؛ أي: الذي لم يبلغ بعد،"والضَّعيفِ، والمُصاب"؛ يعني: صاحب الجنون، "والسفيه"، ومَن تنَفُذُ منه الوصيةُ ومَن لا تنَفُذُ، ومَن تُعتَبر ومن لا تُعتبَر.

وأورد لنا حديث: "أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" -رضي الله تعالى عنه-: "إِنَّ هَا هُنَا"؛ يعني: في المدينة، "غُلاَماً يَفَاعاً" واليَفَاع: المرتفِع، وهو الذي قارب البلوغ وأشرف على البلوغ، فيُقال له من بعد العشر سنواتٍ ونحوِها: يَفَاع. وأيَْفَعَ الغلام فهو يَافِع، إذا شارف الاحتلام. 

قال: "لَمْ يَحْتَلِمْ" بعد؛ لم يصل إلى وقت البلوغ، فهو ابنُ عشْرةٍ أو اثنتي عشرة سنة، كما سمعتم. "مِنْ غَسَّانَ"، قبيلةٍ من الأزد، "وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ"؛ يعني: ليس له وارث في المدينة، وورَثَتُه في الشام، "وَهُوَ ذُو مَالٍ"، كثيرٍ "وَلَيْسَ لَهُ هَا هُنَا" بالمدينة "إِلاَّ ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ." فهي ليست بوارث، فقيل له: كيف يصنع إذا مات؟ تكون ابنة عمه التي أحسنت إليه، وعانت تمريضَه ورعايته، لا شيءَ لها في هذا المال من قريبٍ ولا من بعيد؟ فإذا مات فيصيرُ كلُّه لوارثِه، وهو بالشام!

"قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلْيُوصِ لَهَا". يعني: قل للغلام يوصي. وفي هذا: 

  • دليل مذهب المالكية والحنابلة: أنه تصح الوصيةُ من المُميز ولو كان غيرَ بالغ، ولو كان صبيًا، تصح عندهم الوصيةُ منه، فيصحّ أن يوصيَ، فالشرط فيه التمييزَ فقط.
  • وقال الحنفية والشافعية: لا بد له من البلوغ، لا تصح الوصيةُ لمن كان صبيًّا لم يبلغ بعد.

 "قَالَ: فَأَوْصَى" الغلامُ المذكور "لَهَا" لابنة عمِّه "بِمَالٍ يُقَالُ لَهُ بِئْرُ جُشَمٍ" فــ "قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ: فَبِيعَ ذَلِكَ الْمَالُ" المذكور "بِثَلاَثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ" وذلك مبلغٌ كبير في ذلك الوقت، "وَابْنَةُ عَمِّهِ الَّتِي أَوْصَى لَهَا، هِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ".ففي هذا بيانُ:

  • أنَّ الوصية تَصِحُّ من العاقل ولو دون البلوغ، عند المالكية والحنابلة.
  • وقال الشافعية والحنفية -وفي قولٍ كذلك عند الحنابلة-: لا بد من البلوغ. فيُشترَط في صحة الوصية أن يكون الموصي بالغًا، فلا تصح وصيةُ الصبي، سواءً كان مميِّزًا، أو غير مميزٍ من باب أولى. 
  • لكن المالكية والحنابلة في المذهب المشهور عندهم، وفي قولٍ عند الشافعية: أنه تصح وصيةُ المُميِّز وإن كان غيرَ بالغ. 
  • وهكذا يقول المالكية: فيمن قارب العشْرَ سنين، أنها تصح وصيتُه، ولهم روايتان فيما بين السَّبْع إلى العشر، أما ما دون السبع فلا تصحُ عندهم الوصية أيضًا. 
  • ولكن يقول الحنابلة: تصحُ الوصية من كل مميزٍ عاقلٍ للوصية، يعقِلُ معنى الوصية.

ثم ذكر لنا أيضًا الروايةَ الأخرى في الحديث: "أَنَّ غُلاَماً مِنْ غَسَّانَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ، وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلاَناً يَمُوتُ أَفَيُوصِي؟ قَالَ: فَلْيُوصِ."، ثم "قَالَ يَحْيَى: بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ الْغُلاَمُ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، أَوِ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ سَنَةً." وهذا معنى قوله يفاع، "اثْنَتَىْ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ: فَأَوْصَى بِبِئْرِ جُشَمٍ، فَبَاعَهَا"؛ أي: البئر "أَهْلُهَا"؛ أي: الذي أوصى لها بها، وهي ابنة عمه "بِثَلاَثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ".

"يقول يحيى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الضَّعِيفَ فِي عَقْلِهِ، وَالسَّفِيهَ وَالْمُصَابَ الَّذِي يُفِيقُ أَحْيَاناً، تَجُوزُ وَصَايَاهُمْ، إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ مَا يُوصُونَ بِهِ"؛ فاشتَرطَ التمييزَ فقط في وقت الوصية، إذا كان مُستَجمِعَ الوعي وقت الوصية؛ بأن يتردَّد عليه الجنون مثلاً، أو يطرُقه ذهولٌ وغفلةٌ عما هو فيه، فإذا أوصى في ساعة استجماعِ ذهنه وعقله، وهو يَعرفُ معنى الوصية، وهذا كما قال: "وَالْمُصَابَ"؛ أي: المجنون "الَّذِي يُفِيقُ أَحْيَاناً، تَجُوزُ وَصَايَاهُمْ، إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ"؛ أي: القدْر الذي يَعرفون به ما يوصون به، "فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ عَقْلِهِ مَا يَعْرِفُ بِذَلِكَ مَا يُوصِى بِهِ وَكَانَ مَغْلُوباً عَلَى عَقْلِهِ" لا يعقِل شيء "فَلاَ وَصِيَّةَ لَهُ". وهذا بالاتفاق وبالإجماع: أن المجنون ومَن أَطبقَ عليه الجنون، ومَن كان لا يعي ما يقول، لا تصحُ منه الوصية، إنما تصح الوصيةُ من عاقل. 

والحنابلة كما ذكرنا عندهم صحة التمييز، ولكنهم يربطون -مثل المالكية- التمييزَ ببلوغ السبع أيضًا من السنين، وما دون ذلك لا يعتبرون الوصية، مع أن التمييز قد يسبقُ ذلك، ولكن اعتبروها من السبع فما فوق ذلك. وقد عرفتَ الروايتان عن المالكية، ما بين السبْع إلى العشر، أما بعد العَشْرِ فهو يَفاع، وتثبت وصيّتُه عندهم.

 فهذا بعضُ الأحكام المتعلقة بالوصية. 

فأما المحجورُ عليه بسَفَهٍ، فإنه أيضًا عند الجمهور تصحّ وصيتُه، لأنه إنما حُجِرَ عليه رعايةً لمصلحة نفسه، حتى لا يُنفقَ ما عنده ويصيرَ كلًّا على الناس، أما أن يتصرفَ بثلُثٍ في ماله بعد موته، فهذا ما عاد يحتاج إليه ولا يرجع فقير يتكفَّفُ الناس، فوصيتُه بذلك نافذة، وفيه ترغيبٌ في أمر الخير.

وقيَّدها الحنفية؛ إذا كانت في أنواع القُرَب وأبواب الخير، من ثلُثِ ماله، قالوا كذلك، لأنَّ الحجْرَ عليه إنما كان لأجل النظَرِ له، حتى لا يُتلِفَ مالَه ويتكفَّفَ الناس. وعليه عامةُ المذاهب، إلا في قولٍ عند الحنفية وعند الحنابلة كذلك: أنه لا يصح وصيةُ المحجور عليه، ولكنَّ المعتمدَ عندهم غير ذلك.

وهكذا في شأن السَّكران، فهو عند الجمهور لا تصحُ منه الوصية، واختلفوا في المتعدّي بسُكره:

  • يقول الحنابلة: لا تصح ولو كان متعدّي. 
  • وأما المالكية فيَرعون جانبَ الإدراك وقت الوصية، سواءً سكران متعدّي أو غير متعدٍ، إذا كان مستجمعَ العقل وقت الوصية، فتصحُ منه الوصية، وإن كان وقت الوصية مُخَلِّط، لا تعتبر منه الوصية. 

والله أعلم.

 رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ومنحنا الرضوان، وأصلح لنا كل شأن، ورفعنا إلى أعلى مكان، وثبّتنا على الإسلام والإيمان، ورفعنا أعلى مراتب الإحسان والعرفان في عافية، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

15 صفَر 1444

تاريخ النشر الميلادي

10 سبتمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام