(535)
 (364)
 (604)
 شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الوصية، باب الأمر بالوصية.
فجر الثلاثاء 18 محرم 1444هـ.
باب الأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ
2227 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ".
2228 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا أَوْصَى فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ بِوَصِيَّةٍ فِيهَا عَتَاقَةُ رَقِيقٍ مِنْ رَقِيقِهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُغَيِّرُ مِنْ ذَلِكَ مَا بَدَا لَهُ، وَيَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَطْرَحَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ أَوَيُبْدِلَهَا فَعَلَ، إِلاَّ أَنْ يُدَبِّرَ مَمْلُوكاً، فَإِنْ دَبَّرَ فَلاَ سَبِيلَ إِلَى تَغْيِيرِ مَا دَبَّرَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ".
قَالَ مَالِكٌ: فَلَوْ كَانَ الْمُوصِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ وَصِيَّتِهِ، وَلاَ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْعَتَاقَةِ، كَانَ كُلُّ مُوصٍ قَدْ حَبَس مَالَهُ الَّذِي أَوْصَى فِيهِ مِنَ الْعَتَاقَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ يُوصِي الرَّجُلُ فِي صِحَّتِهِ وَعِنْدَ سَفَرِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: فَالأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ، أَنَّهُ يُغَيِّرُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ غَيْرَ التَّدْبِيرِ.
الحمد لله مكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته، سيدنا محمد عبده وحبيبه وصفوته صلَّى الله عليه وسلَّم وبارك وكرَّم عليه في كل لمحةٍ ونفس وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنّبياء والمرسلين، محط نظر الله -تبارك وتعالى- ومركز عنايته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين٬ وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وجودك يا أجود الأجودين.
ابتدأ الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- يتكلم عن الْوَصِيَّةِ وما ورد فيها؛
هذه الوصية جاءتنا بالكتاب والسُّنة، وجاء الحث عليها، فهي مشروعةٌ بالكتاب والسُّنة والإجماع.
والحق تعالى في آيات الإرث يقول: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:11]٬ وقدّمها على ذكر الدَّيْنِ في القرآن اعتناءً بشأنها، وجاء في حديثٍ أنه ﷺ قضى بالدين قبل الوصيّة، لأن الدَّيْنِ يكون في مقابل، والوصية تُخرج من مال الميت إذا أوصى بشيء إلى أجنبي من دون مقابل، فربما شحَّت بها النفوس فقدَّمها الحق اعتناءً بشأنها في الذكر، وهذا حديث الترمذي الذي ضعَّفه بعضهم أنه ﷺ قضى بالدين قبل الوصية، مُجْمَعٌ على العمل بمعناه. فالدَيْن مُقَدمٌ على الوصية (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء-11]، (مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْن) [النساء-12] (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء-12].
وهكذا، وجَاءتنا الأحاديث منها التي أوردها الإمام مَالِكْ -عليه رحمة الله- في هذا الباب: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ" يريد أن "يُوصَي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ". هكذا أيضًا جاء في الصحيحين، وكذلك جاء عن سيدنا سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: قلت: يا رسول الله أنّا ذو مال ولا يرثني إلا بنات لي أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال لا. قلت: أفأتصدق بشطره؟ يعني نصفه٬ قال: لا، الثلث والثلث كثير. ""إنَّكَ إن تَذَر"؛ يعني: تترك "ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"٬ هكذا جاء في الصحيحين.
وكذلك جاء في رواية الدارقطني وعنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ النبيُّ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ قد تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ؛ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ". وهكذا من كان له مال ينبغي أن يوصي بشيء من ماله إما لصدقةٍ جارية أو على فقراء ومساكين، ولا وصية لوارث؛ لا تصح الوصية لوارث، فإذا أوصى لوارث:
وهذه الوصية قالوا إنها من السُنن لمن لم يكن عليه دين يُخشى أن ينسى، أو أن لا يقضى عنه بعده وما إلى ذلك، فتكون الوصية مندوبة بهذا، وهي مؤكدة في الشرع المصون، كما سمعت إشارة النبي ﷺ إلى الاعتناء بالوصية.
ويدخل وقتها من حين البلوغ، إذا بلغ الإنسان دخل وقت الوصية أن يوصي. فينبغي لكل مسلم أن يكون له وصية.
ولا يُشترط أن تكون الوصية بمال، ولو كان من أفقر الفقراء، أو لا يملك شيء فيوصي أهله وذريته بتقوى الله، ويوصيهم أن يعملوا له من السُنن ما تيسر في تغسيله وتكفينه ودفنه إلى غير ذلك من الوصايا التي يوصي بها.
ويُذكر أيضًا في الحديث: من مات على وصية مات على تقوى ودين، أو مات على تقوى وإيمان. وأنَّ الذي يموت من دون وصيةٍ يتعرض كصاحب الدَّيْن أن يُحبس؛ أن تُحبس روحه، فهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون له وصية.
ثُمَّ إن ما يتعلق بالمال إن كان له مال كثير:
وعلى كل حال فالثُلث فما دونه تنفذ فيه الوصية، وذكر الإمام النَّووي:
فمن كان ذا مالٍ قليل وله ورثة فقراء فينبغي أن لا يوصيَ بشيءٍ من ماله لِغيرهم، فيُبقيهم على إرثهم فذلك يكون أنسب له، هذا بالنسبة للمال، ولكن يكون له وصية:
فهذه الوصية التي تتعلق بكل مسلم.
أمّا بالنسبة للمال:
فهذه الوصية ومشروعيتها، ومأخُوذة من وَصيْتُ الشيء أصله، وتُطلق على الموصى به يقال لها وصية، وكذلك ما كان من تمليك مضافٍ إلى ما بعد الموت بطريق التبرع من أعيانٍ ومنافع يسمى وصية، والإيصاء كذلك، ولكن فرَّق الفقهاء بين الوصيّة والإيصاء:
قال: كتاب الوصِّية.
ففي هذه الحالات تجب، وإلا فهي المستحبة، كما أشرنا سواءً أن كانت بمال لمن له مال أو بغير مالٍ.
ثُمَّ قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) [البقرة:180] نُسِخَ الفرض، نُسِخ فرضها وبقي الندب بقيت مندوبة.
يقول عن عبد الله بن عمر أنَّ رسول الله ﷺ قال: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ"؛ يعني: ليس حق امرئٍ مسلمٍ؛ أي: لا ينبغي ولا يصلح أن يكون من امرئٍ مسلم "لَهُ شَيْءٌ يُوصَي فِيهِ"؛ أي: عنده أمرٌ مهم يبلِّغه لمن بعده أو ينبههم عليه أو يَحثهم عليه، أو من باب أولى إذا كان عليه حقوقٌ لأحد؛ "يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ"، الليلة الأولى والليلة الثانية غافلًا لا وصية له. "إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ"، والحديث أيضًا في الصحيحين كما أشرنا؟ وذكرنا لفظ مسلم، فيما جاء في الأمر بالوصية يقول: "ما حق امرئٍ مسلم له شيءٌ يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبةً عنده". وهذا الإشارة إلى الاهتمام والانتباه والمبالغة، وكانوا قد يعدونها عند رأسهم إذا ناموا لأجل احتمال أن تُقبض أرواحهم في منامهم، والقصد أن يكون له وصية حاضرة يسهل تناولها لمن بعده مِمَّن يقوم بالأمر بعده من ورثته وقرابته وأهل بيته. قال: "إلا ووصيته مكتوبةً عنده" ما حق المسلم إلا أن يكون هكذا، فيُعاب على المسلم له شيء يوصي فيه تمر عليه الأيام بلا وصية.
فهذه الوصية سُنَّة من سُنن سيد المرسلين ﷺ سنَّها لأمته من حين أن يبلغ أحدهم.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا" يعني بالمدينة المنورة من فقهائها "أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا أَوْصَى فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ بِوَصِيَّةٍ فِيهَا عَتَاقَةُ رَقِيقٍ مِنْ رَقِيقِهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ"، من أنواع التبرعات، فإنه يُغيِّر من ذلك ما بدا له ما دام حيًا لم يمت فله أن يغير، وأن يُبَدِّل، وأن يُكثِّر وأن يقلل، "وَيَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ حَتَّى يَمُوتَ"، فله حق التغيير والتبديل، "وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَطَّرَحَ"؛ يعني: يُلغي ويُلقي ويُبطل تلك الوصية كلها ويبدِّلها بغيرها فعل، "إِلاَّ أَنْ يُدَبِّرَ مَمْلُوكاً"، ما يدبِّره أن يُعلِّق عتقه بموته، ويقول إذا متُ فإن عبدي هذا حرٌّ لوجه الله تعالى. "فَإِنْ دَبَّرَ فَلاَ سَبِيلَ إِلَى تَغْيِيرِ مَا دَبَّرَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ".
وكذلك لو نجَّزَ نذرًا بشيءٍ فهو ناجزٌ ولا يمكن أن يرجع فيه، أو نجَّزَ وقفًا، وقف شيئًا من أمواله ثُمَّ قال أرجع، ما يمكن الرجوع في ذلك. لكن مجرد الوصية يمكن الرجوع فيها ما دام حيًا، والعبرة بآخر ما أوصى.
وكان بعض الأخيار في تريم يجعل له الوصية ويجعل فيها أنواع من الصدقات، فإذا مرَّ العام والسَّنة لم يمت أخذ الوصية ونفذَّ ما فيها هو شكرًا لله تعالى أنه بقى، ثم جدد وصيةً أخرى للعام، وهكذا في كل سنة يُنفذ ما في وصيته حتى يحسِن معاملة الحق جلَّ جلاله في شأنه وحاله وماله. لا إله إلا الله... فما دام حيًّا يجوز له أن يُبدِّل في الوصيّة وأن يغيّر وأن يزيد وأن ينقص.
"قَالَ مَالِكٌ: فَلَوْ كَانَ الْمُوصِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ وَصِيَّتِهِ وَلاَ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْعَتَاقَةِ، كَانَ كُلُّ مُوصٍ قَدْ حَبَسَ"؛ أي: منع "مَالَهُ الَّذِي أَوْصَى فِيهِ مِنَ الْعَتَاقَةِ وَغَيْرِهَا"، ذلك أن رسول الله ﷺ قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ"، فلو كان الموصي لا يقدر أنَّ الوصية كانت تكون مانعة له من تصرفه في ماله، فمتى أوصى بعتق مملوك لم يجز له بعد ذلك استرقاقه، وإذا أوصى بثلث ماله؛ لم يكن له بعد ذلك الإنفاق منه، لا سيما عليه وجه الاستيعاب له، فهذا يصير منع وإضرار على الناس، فلم يكن ذلك، وما دام حيًا يجوز له أن يُقدِّم ويؤخر ويزيد وينقص.
"وَقَدْ يُوصِي الرَّجُلُ فِي صِحَّتِهِ"، ثم يحتاج إلى ماله في حوائجه وأعمال بِر أخرى، وصدقات عَرَض له فيُقدم من ماله الذي أوصى به بعد موته فيتصدق به وهو حي وذلك أولى.
ومما قال بعض العلماء عندنا والعارفين الأولياء الحبيب أحمد الجنيد -عليه رحمة الله- كان له ولد اسمه سقاف وغلام مملوك له يقوم بخدمته اسمه مرجان، ولمّا سأله بعضهم عما أوصى فيما يتعلق بالمال قال: كل ما أردته قد أخرجته بنفسي وأنا حي، لا أنا مستأمن على سقاف ولا على مرجان.. ما أوكل الأمر إليهم بعد موتي ينقصون شيء ويزيدونه ولكني بنفسي أخرجت كل ما أحب إخراجه وأتصدق به وأنا حي، وأعطيته لله -تبارك وتعالى- الله،لا إله إلا الله...
"قَالَ مَالِكٌ: فَالأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ أَنَّهُ يُغَيِّرُ مِنْ ذَلِكَ"؛ أي: مما أوصى به "مَا شَاءَ غَيْرَ التَّدْبِيرِ"، إذا علَّق عتق رقبة من الرقاب التي يملكها بموته، فليس له أن يُغير ذلك يقول لا خلاص ما يعتق، فإذا قد علَّقته بالموت فالعتق نافذ وذلك لتَشَوّف الشارع إلى العتق.
وهذا من المسائل المجمَع عليها، وهو جواز أن يغيّر ما شاء، وأنه لا يجوز له أن يُغير التدبير يعني إذا علَّق عتق أحد من أرقائه بموته فيصير مُدبّرًا على طول الخط ليس له حق الرجوع في ذلك.
فيجب على الموصي أن يكون:
فينبغي أن يتجنب كل ذلك.
وجاء في الحديث عن ابن عباس يقول: "الإضرارُ في الوصيَّةِ من الكبائرِ"، في رواية الدارقطني، وقال البيهقي الصحيح أنه موقوفٌ على بِنْ عباس: الإصرار في الوصية من الكبائر.
وكذلك علمنا أنه لا تنفذ الوصية لوارث إلا بإجازة الورثة الآخرين لمنع التباغض والتحاسد وقطيعة الرحم، فينبغي للموصي أن يتحرّى، وأن يحتاط وأن يقصد وجه الله -تبارك تعالى- وأن يبتعد عن أسباب البغض والعداوة بين ورثته من بعده. وهكذا، ولمّا وقف الإمام الحداد على شططٍ من بعضهم في وصيةٍ أوصى بها، وعمل بنظرِ بعض الفقهاء المُخلِّطين، حِيَلًا للتوصّل بها إلى حرمان بعض الورثة إلى غير ذلك من المقاصد الفاسدة، غضب لذلك وأبطل الوصية كلها وأنشأ قصيدته:
ليس دين الله بالحِيَلِ *** فانتبه يا راقد المُقَلِ
يا جهول القلب غافله *** أنت بعد اليوم في شغل
وهكذا فينبغي أن يُقيم وصيته على البِر، وإرادة وجه الله، وما يرضي الحق -تبارك وتعالى- وما يكون سببًا في صلاح من بَعده، وفي أُلفتهم، إلى غير ذلك من مقاصد الخير.
إذًا؛ كما قلنا: لا ينبغي أن يستوعب الثلث كله، وإن استوعبه كان له. وذكر الحَنَابِلَة: الخُمس، وجاء عن بعض الصَّحابة: الخُمس في الوصية أحب، لأن الله رضيَ في الغنيمة الخُمس. وكان ابِنْ عباس يذكر الربع. وكذلك جاء في رواية إسحاق وعلى كل حالٍ الأمر واسع. بل أيضًا قال الحَنَابِلَة: إن كان الموصي غنيًا استحب أن يصيب الثلث، وأما الفقير الذي له ورثة محتاجون فلا يُستحب له أن يوصي بشيءٍ مما يتعلق بالمال.
حتى قال سيدنا علي لرجل أراد أن يوصي ببعض ماله قال: إنك لن تدع طائلاً -ما عندك مال كثير أنت قليل مالك- إنما تركت شيئًا يسيرًا فدعه لورثتك. فأرشده إلى هذا، وهكذا كان يقول الشعبي: ما من مالٍ أعظم أجرًا من مال يتركه الرجل لولده يغنيهم عن الناس ويسدّ حاجتهم. وهكذا يؤخذ من قوله ﷺ: "إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ، خَيْرٌ مِن أَنْ تَذَرَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ".
وذكر الإمام النَّووي نقله عنه الأصحاب:
بارك الله في أعمارنا، وبارك في مقاصدنا ونيّاتنا، وبارك في أهالينا وأولادنا وذرياتنا، وبارك لنا في أحوالنا، وبارك في أموالنا، وبارك في جميع ما أعطانا وأنعَم به علينا، بركة يقينا بها الأسواء والأدواء وكل بلوى، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمد ﷺ.
14 صفَر 1444