شرح الموطأ - 406 - كتاب الأقضِيَة: باب صدقة الحَىِّ عن المَيِّت

شرح الموطأ - 406 - كتاب الأقْضِيَة: باب صَدَقَةِ الْحَىِّ عَنِ الْمَيِّتِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب صَدَقَةِ الْحَىِّ عَنِ الْمَيِّتِ.

فجر الإثنين 17 محرم 1444هـ.

باب صَدَقَةِ الْحَىِّ عَنِ الْمَيِّتِ

2224 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَحَضَرَتْ أُمَّهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهَا: أَوْصِي. فَقَالَتْ: فِيمَ أُوصِي؟ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ. فَتُوُفِّيتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ سَعْدٌ، فَلَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ". فَقَالَ سَعْدٌ: حَائِطُ كَذَا وَكَذَا صَدَقَةٌ عَنْهَا. لِحَائِطٍ سَمَّاهُ.

2225 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ".

2226 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ تَصَدَّقَ عَلَى أَبَوَيْهِ بِصَدَقَةٍ، فَهَلَكَا، فَوَرِثَ ابْنُهُمَا الْمَالَ، وَهُوَ نَخْلٌ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "قَدْ أُجِرْتَ فِي صَدَقَتِكَ وَخُذْهَا بِمِيرَاثِكَ".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن والاهم في الله وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين طُرا، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 وبعدُ،

فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله- "باب صَدَقَةِ الْحَىِّ عَنِ الْمَيِّتِ"، مشيرًا فيما أورد من الأحاديث إلى مسألتين:

المسألة الأولى: 

أن الإنسان ينتفع بغيره وبعمل غيره، وهذا ثابتٌ كتابًا وسنةً، وعليه إجماع أهل السنة والجماعة. إذًا؛ فتفسير قول الله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)[النجم:39]، أنه لا يمكن أن ينتفع بعمل غيره تفسيرٌ باطل، ينقضه الكتاب العزيز والسنة الغراء وإجماع أهل السنة. وهكذا… حتى ابن تيمية يقول: من يقول إن الإنسان لا ينتفع بعمل غيره خَرَقَ الإجماع. وذلك أننا نُدبنا على لسان الحق ورسوله إلى الدعاء للغير، وإلى الصلاة على الغير، وإلى الصدقة كذلك على الغير إلى غير ذلك.

فهذه المسألة الأولى في انتفاع الإنسان بغيره وبعمل غيره، وذلك ثابتٌ في الدنيا وفي الآخرة، فإن الناس ينتفعون ببعضهم البعض وبعمل بعضهم لبعض في الدنيا، كذلك ينتفعون في البرزخ ويوم القيامة، ولهذا قالوا عن هذه المسألة أنه مما لا اختلاف فيه بين الأمة يُعتدّ به، ليس بينهم خلافٌ يُعتدُّ به.

ثم بعد ذلك نأتي إلى الأعمال التي يمكن أن تُعمَل عن الميت، أو يوهَب له ثوابها

  • فقيل: أنها مخصوصة بما يقبل النيابة مما ليس بالعمل البدني المحض.
  •  وقيل: أنها عامة، وإليه مال الحنفية والحنابلة.
  •  وقيل: إنها مخصصة بأعمال كمثل الصدقة، حتى قال الإمام النووي -عليه رحمة الله-: الصدقة تصل إلى الميت وينتفع بها بلا خلافٍ بين المسلمين. وهذا هو الصواب الذي عليه جميع أهل السنة والجماعة، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

فلما ذكر ابن تيمية أن من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، قال: فإن الأمة قد أجمعوا على أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره، هو عمله أم عمل غيره؟ ليس عمله، ينتفع بدعاء غيره، فهو انتفاع بعمل الغير. وأيضًا قال: إنه ﷺ يشفع لأهل الموقف، وهذا بإيش من عمل عندهم؟ بعملهم هم؟! ينتفعون به وبشفاعته وبوجاهته ﷺ. قال: ثم لأهل الجنة في دخولها، ثم لأهل الكبائر في الإخراج من النار، وكله انتفاع بسعي الغير؛ شفاعة نبي الخير ﷺ، قال: وكذا كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير. 

عندنا في الحديث يقول: إذا مات الشهيد شُفِّع في سبعين من أهل بيته كلهم وجبت له النار. إيش عملوا هم؟ هو مَن استشهد، وهم إيش عملوا؟ انتفعوا بشهادة هذاك، وليس عملهم، ما لهم دخل فيه، ليس عملهم وانتفعوا به. وهكذا قال أيضًا ابن تيمية: الملائكة يدعون، ينتفعون الناس أم العمل عبث؟ وربنا يقول: (ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِۦ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ)[غافر:7-9]، فيه فائدة أم لا ينتفعون؟ إذا ما ينتفعون.. إيش اللعب ذا؟ إيش ذا العبث عند العرش؟ أستغفر الله العظيم!.. لا عبث ولا لعب، الناس ينتفعون بذلك ويرتفع بذلك قدرهم. 

وكذلك ذكر الصدقة وذكر العتق فيما جاء في النص والإجماع، قال: كله من عمل الغير.

  •  قال: الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليّه، وهو ذا عمله ذاك انتفاع بعمل الغير.
  •  وهكذا تبرأ ذمة الإنسان من ديون الخلق إذا قضاها عنه قاض، وإيش عمل هو؟ هو ما قضى، قضى عنه غيره فبرئت ذمته بذلك، كما جاءتنا بذلك الأحاديث الصحيحة. 
  • قال وكذلك الصلاة والدعاء له؛ شُرِعت الصلاة على الميت لأجل اللعب أم لماذا؟ إذا ما ينتفع بها إيش فائدة نصلي عليه؟ خلاص اقبروه ما له إلا عمله اقبره… هذه الصلاة إنما عملكم أنتم وهو ما له… أستغفر الله العظيم! هو ينتفع بصلاة المصلين بل، من صلى عليه ثلاثة صفوف غفر الله له ويتشفعّون فيه، ومن صلى عليه أربعون غفر الله له وشفّعهم الله فيه إلى غير ذلك. 

وهكذا يقول: إن مظاهر ذلك كثيرة وهكذا.. 

  • والحق تعالى يقول: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ ۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]. 
  • وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر:10].
  • يقول الله لنبيه: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ) في قراءة: (صَلَوَٰتِكَ) [التوبة:103]، عملك أنت هم ينتفعون به، ﷺ.
  • ويقول: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ) [آل عمران:159]، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)[محمد:19]، إذا كان ما ينتفعون إيش فائدة يستغفر لهم! الاستغفار ليس عملهم عمل المستغفِر فينتفع به المستغفَر له.
  • وهكذا قال سيدنا الخليل إبراهيم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)[إبراهيم:41].
  •  وقال سيدنا نوح: (رَّبِّ ٱغْفِرْ لِى وَلِوَٰلِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا) [نوح:28].
  • وهكذا قال: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ) [الشورى:5].
  •  وقال: (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ) [الممتحنة:12]، وإذا كان ليس لهن إلا عملهن فما فائدة من الاستغفار! 
  • وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)[ النساء:64] ﷺ.
  •  ويقول سبحانه وتعالى: (وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى)؛ يعني قل شيء ما ينفع ولا كيف؟! أستغفر الله كيف هذا الكلام!! الله يقول لك قل لوالديك (رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا) [الإسراء:24]، إذا كان ما ينفعهم إلا عملهم لماذا تقول ذلك.. أستغفر الله!

ولهذا قالوا الأمر مجمَع عليه عند أهل السنة لا إشكال فيه من قريب ولا من بعيد، فينتفع الإنسان بكثير من أعمال غيره وبإذن الله تعالى وبإرادته وقدرته. فعلمنا أن الآية في قوله: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم:39]، فاختلفوا: 

  • هل هو خصوص الكافر أو الكافر والمؤمن؟ 
  • وبعد ذلك أهل السعي مقتصر على عمله أو على كل ما تسبّب فيه؟ 
  • وأن هذا الذي له هل يمنع أن يثيبه الله -سبحانه وتعالى-، أو أن يجود عليه بشيء من عنده؟ 

والله يرفع درجات من يشاء -سبحانه وتعالى- وهكذا.

ثم جاءنا في الحديث أيضًا: أن امرأة أخذت عضد طفل، وقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولكِ أجر". وجاءنا في سنن أبي داود يقول سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: إن رسول الله ﷺ أوصى، أوصاني أن أضحي عنه، فكان يضحي عن النبي في كل سنة بوصية من النبي ﷺ، وبنفسه ضحى بكبشٍ فقال: عن محمد وآل بيته، ثم ضحى بكبش ﷺ، قال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد. وفي لفظ قال: "هذا عني وعن من لم يضحِّ من أمتي"، فهل ينوي رسول الله شيء ما فيه فائدة؟! أستغفر الله العظيم.. إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا الكلام كله فارغ ولا يصح ولا يُقبّل من قريب ولا من بعيد. 

وجاءت النصوص كتاباً وسنة وإجماعًا من أهل السنة، أن الله تعالى ينفع الإنسان بعمل غيره ودعاء غيره هذا واضح.

بعد ذلك المسألة الثانية: هل كل عمل من الأعمال الصالحة يمكن أن يوهب للميت، أو يمكن أن ينتفع به الغير؟

وفي الخبر: إن الله ليدفع بالرجل الصالح البلاء عن مئة أهل بيت من جيرانه. هؤلاء كلهم انتفعوا بعملهم؟ ليس بعملهم بل بعمل هذا الصالح الذي بينهم. والله يقول: (وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا)[الفتح:25]، تأخر العذاب عن الكفار بسبب عملهم؟ لا، بسبب هؤلاء الصالحين الذين بينهم، (وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ) كما قال الله -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

وعلمنا ﷺ زيارة القبور والدعاء لهم، ولما مرّ بقبرين يُعذّبَان أتى بجريدة ووضعها على القبر، قال: ليخفّف عنهما. هذا عملهم؟ حتى بتسبيح الجريدة ينتفع الميت، فكيف ما ينتفع بعمل المؤمن؟ جريدة، بتسبيح الجريدة انتفع الميت بذلك، بعمله ﷺ وهكذا.

بقي بعد ذلك أيضًا الإجماع على مثل الصدقة ومثل الدعاء ومثل الحج عن الغير، أو الأضحية عنه، وبقي الخلاف فيما يتعلّق بعد ذلك بالقرآن أو بالصلاة، وإلى غير ذلك على أنه جاءت فيها نصوص منها: 

  • لما سئل ﷺ إن والديَّ ماتا فبقي من برِّهما شيء؟ قال: أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك. وهذا يؤيد قول القائلين: بأن جميع الأعمال الصالحة يمكن للمؤمن أن يجعلها لمن شاء من قرابته، وغيرهم من المسلمين، ومن جملة ذلك تلاوة القرآن. 
  • وقد جاء فيما روى الخلّال: أن سادتنا الأنصار كان إذا مات فيهم الميت، اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن. 
  • وهكذا جاء عن الإمام أحمد -عليه رحمة الله-: أنه أنكر في البداية، ثم رجع لما صحَ عنه في الحديث القراءة على القبور والقراءة على الميت، ولما نهى ضريرًا أن يقرأ على قبر، فقال له محمد بن قدامة الجوهري: يا أبا عبد الله -يقصد الإمام أحمد بن حنبل- ما تقول: في مبشّر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: أخبرني مبشّر عن أبيه أنه أوصى إذا دفن يُقرأ عنده بفاتحة الكتاب والبقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يُوصي بذلك، قال أحمد بن حنبل: ارجع وقل للرجل الضرير يقرأ. 
  • وهكذا جاء عنه ﷺ: من دخل المقابر، فقرأ سورة يس خُفِّف عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات. 
  • ويروى: من زار قبر والديه أو أحدهما فقرأ عنده أو عندهما يس غُفِر له. 
  • وجاء أيضًا عن ابن عمر أنه أوصى أن يُقرأ عند رأسه القرآن إذا قُبر، وعند رجليه وأصل ذلك مرفوع في الحديث عنه ﷺ.
  • قال: ودعا النبي ﷺ لأبي سلمة حين مات.
  •  عن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، إن أمي ماتت فينفع إن تصدقت عنها؟ قال: نعم .
  • جاءت امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج، أدركت أبي شيخًا كبيرًا، قال: حجي عن أبيكِ، وبيّن ذلك أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه، قال: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى.
  • وهكذا قال له ﷺ: بعض الصحابة إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟، قال: نعم، صُم عن أمك، هكذا جاء في صحيح البخاري في كتاب الصوم، قال: إن أمي ماتت وعليها صيام شهر أفأصوم عنها، قال: نعم.
  • وجاء أيضًا أنه ﷺ قال: لعمرو ابن العاص لو كان أبوك مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك. في رواية الإمام أبي داود في سننه -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وهكذا.

قالوا: ولم يزل المسلمون في كل عصر ومصرٍ يجتمعون ويقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير. قال: وإذا جاء في الحديث إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، والله أكرم أن يوصل عقوبة المعصية ويحجب عنه المثوبة! لا إله إلا الله... 

وهكذا جاء عن عددٍ من الصحابة فمن بعدهم. وجاء في رواية الدارقطني: أن رجلا سأل نبينا ﷺ قال: كان لي أبوان أبرّهما حال حياتهما فكيف لي ببرّهما بعد موتهما؟ فقال: إن من البِرّ بعد البِرّ أن تصلي لهما مع صلاتك وتصوم لهما مع صيامك. 

وهكذا جاء الحديث أيضًا: "من مرّ على المقابر، وقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إحدى عشرة مرة ثم وهب أجرها للأموات أعطيَ من الأجر بعدد الأموات" وهكذا. 

سأل سيدنا أنس بن مالك رسول الله ﷺ، يا رسول الله إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم، وندعو لهم فهل يصل ذلك إليهم؟ قال: نعم إنه ليصل إليهم وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهديَ إليه، والحديث أيضًا المشهور في الصحيح: "اقرؤوا سورة يس على موتاكم". 

وجاء في المشكاة عن ابن عمر يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: "إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه فاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة البقرة" رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، وقيل أنه موقوف على ابن عمر وهو لا يفعله من قبل نفسه. 

وهكذا جاءت الرواية الخلّال في الجامع عن الشعبي، يقول: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت، اختلفوا إلى قبره يقرؤون القرآن. وهكذا جاء في رواية أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: من دخل المقابر ثم قرأ فاتحة الكتاب (وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (وأَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) ثم قال: إني جعلت ثواب ما قرأت من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات كانوا شفعاء له إلى الله تعالى. 

وبعدما صح من الأحاديث وعمل الصحابة والتابعين، جاءت بعد ذلك المرائي الصالحة الكثيرة المتعلقة بهذه المسألة والقضية. يقول حماد المكي: خرجت ليلة إلى مقابر مكة فوضعت رأسي على قبر، فنمت فرأيت أهل المقابر حلقة حلقة، فقلت: قامت القيامة، قالوا: لأ لكن رجل من إخواننا قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وجعل ثوابها لنا فنحن نقتسمه منذ سنة.

وهكذا رأى بعضهم من كان يُرى أنه معذب ثم رآه في حالة حسنة، قال: سمعت أنك ترى أنك معذب، قال: كنت في عذاب ولكن في الأمس مرّ على المقبرة رجل صالح فقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فوهبها لأهل المقبرة، ووصلني ثوابها، قال: فوصلني ثواب رأس (و) فغفر الله لي ونُقِلت من العذاب. 

ورأى بعضهم أهل مقبرة يُنثَر عليهم شيء يقومون يلتقطونه وواحد جالس، سأله قال: ما هذا قال، ما يُهدى إليهم من الأحياء يقومون له، قال: وأنت؟ قال: أنا مستغني، الذي يصل لأهل المقبرة هذا لهم خلّه لهم لأن عندي ولد يقرأ لي كل يوم ختمة فأنا أكتفي بما قرأ الولد، أين ولدك؟ قال: فلان معه دكان في السوق الفلاني، راح إلى السوق جاء حصله، دخل اتكلم معه حصله وهو يقرأ، قال: لك حاجة؟ قال: حاجتي إيش تقرأ كل يوم؟ قال: إيش لك أنت من دخل؟! فأخبره، فقال: نعم، هذا مصحف كل يوم اختمه وأهبه إلى روح الوالد، مرت أيام بعد مدة رأى أصحاب المقبرة يقومون والرجال معهم يقوم! قال: فلان! أنت قلت مستغني قال: مات الولد.. ولدي مات الذي كان يهدي لي، فسرح ثاني يوم إلى السوق يتخبّر، قالوا: مات الرجال. لا إله إلا الله...

وهكذا، أورد لنا حديث سعد بن عبادة -عليه رضوان الله- سيد الخزرج من الأنصار سعد بن عبادة، يقول:"خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَحَضَرَتْ أُمَّهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهَا: أَوْصِي. فَقَالَتْ: فِيمَ أُوصِي؟ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ" ما عندي شيء.. "فَتُوُفِّيتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ سَعْدٌ، فَلَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ"  ذهب إلى النبي ﷺ، "فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ". فَقَالَ سَعْدٌ: حَائِطُ كَذَا وَكَذَا صَدَقَةٌ عَنْهَا. لِحَائِطٍ سَمَّاهُ". وفي رواية قال: أشهِدك يا رسول الله أن الحائط الفلاني تصدقت به عنها فهو لها.

والحديث أيضًا عند الإمام النسائي كما رواه الإمام مالك وجاء عنه، قال سيدنا سعد بن عبادة: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها، قال: نعم، قلت فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء؛ فحفر بئرًا سيدنا سعد وسمّاه بئر أم سعد. وجاء في رواية ابن عبد البر يقول سعد رضي الله: يا رسول الله إن أم سعدٍ كانت تحب الصدقة أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم وعليك بالماء. 

وهكذا جاء: أن سيدنا سعد بن عبادة أتى النبي وقال: إن أمي ماتت وعليها نذر أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: أعتق عن أمك. وجاء أن تصدّقه بالحائط كان من قِبل نفسه وكان عتقه عنها لمّا أمره بالعتق عنها وكذلك بحثه بحفره البئر من أجلها كان بإشارة من النبي ﷺ أمره بالعتق عنها، وأرشده إلى الماء فحفر البئر، وقد تصدق بالحائط عنها من قبل نفسه .

ثم ذكر لنا حديث عائشة زوج النبي "أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا" فقيل هو نفسه سعد ابن عبادة، "افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا"؛ يعني: ماتت فجأة، "وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ"." والحديث في الصحيحين وغيرهما. يقول:"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ". 

وكذلك ذكر لنا بعد ذلك أنه إذا تصدّق بصدقة ثم أن المتصدَّق عليه قريبه يرثه فمات، فهل يجوز أن يرث ذلك أو لا؟ وكذلك الإجماع على أنه يعود إليه إرثًا.

"أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ تَصَدَّقَ عَلَى أَبَوَيْهِ بِصَدَقَةٍ، فَهَلَكَا"؛ ماتا، "فَوَرِثَ ابْنُهُمَا الْمَالَ" الذي تصدق به على أبويه، "وَهُوَ نَخْلٌ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ"، قال يا رسول الله أنا هذا تصدقت به لأبويَّ والآن ماتا، "فَقَالَ: "قَدْ أُجِرْتَ فِي صَدَقَتِكَ وَخُذْهَا بِمِيرَاثِكَ"." أنت الآن وارث لهم، الأجر قد حصّلته بما تصدقت عليهم وأعطيتهم إياه في حياتهم، وعَوْده إليك بالإرث لا يضرّك شيئًا، وعامة أهل العلم على ذلك، والله أعلم. 

رزقنا الله الإيمان والتقوى والاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ورحِم أحيانا وموتانا بالرحمة الواسعة، وغفر لأحيانا وموتانا بالمغفرة الواسعة، ورفعنا مراتب قربه الرافعة، وأصلح شؤون المسلمين القريبة والشاسعة، في لطف وعافية وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

13 صفَر 1444

تاريخ النشر الميلادي

09 سبتمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام