(535)
 (364)
 (604)
 شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الْقَضَاءِ فِي اسْتِهْلاَكِ الْعَبْدِ اللُّقَطَةَ، وباب الْقَضَاءِ فِي الضَّوَالِّ.
فجر الأحد 16 محرم 1444هـ.
باب الْقَضَاءِ فِي اسْتِهْلاَكِ الْعَبْدِ اللُّقَطَةَ
2220 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ يَجِدُ اللُّقَطَةَ فَيَسْتَهْلِكُهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الأَجَلَ الَّذِي أُجِّلَ فِي اللُّقَطَةِ، وَذَلِكَ سَنَةٌ، أَنَّهَا فِي رَقَبَتِهِ، إِمَّا أَنْ يُعْطِيَ سَيِّدُهُ ثَمَنَ مَا اسْتَهْلَكَ غُلاَمُهُ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ غُلاَمَهُ، وَإِنْ أَمْسَكَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الأَجَلُ الَّذِي أُجِّلَ فِي اللُّقَطَةِ، ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا كَانَتْ دَيْناً عَلَيْهِ، يُتْبَعْ بِهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ فِيهَا شَيْءٌ.
باب الْقَضَاءِ فِي الضَّوَالِّ
2221 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ وَجَدَ بَعِيراً بِالْحَرَّةِ، فَعَقَلَهُ، ثُمَّ ذَكَرَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: إِنَّهُ قَدْ شَغَلَنِي عَنْ ضَيْعَتِي. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ.
2222 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ: مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ.
2223 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: كَانَتْ ضَوَالُّ الإِبِلِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِبِلاً مُؤَبَّلَةً، تَنَاتَجُ لاَ يَمَسُّهَا أَحَدٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا، ثُمَّ تُبَاعُ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِيَ ثَمَنَهَا.
الحمد لله مكرمنا بشريعته العظيمة، وبيانها على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ذي المراتب الفخيمة، أدام الله عليه صَلاته وتَسليمه وعلى آله وصحبه ومن سار في مناهجه القويمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المواهب والمنن الربّانية الفخيمة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وَيتَكلم الإمَام مالك في هذه الأبواب عن بعض مسائل اللُقطة والضَّالّة إذا وجدها المسلم فأخذها. يقول: "باب الْقَضَاءِ فِي اسْتِهْلاَكِ الْعَبْدِ اللُّقَطَةَ"؛ فإنّ الملتقِط إذا كان:
فإنّه يصح له الالتقاط ونية التملّك بالاتفاق.
فإذا كان صبيًا أو فاسقًا أو مملوكًا فيأتي فيه الاختلاف بين الأئمة في جواز الأخذ له، وكذلك إذا كان ذميًا في بلاد المسلمين فهذا محل الاختلاف في جواز التقاطه، وجواز تملّكه أيضًا، ومن المعلوم أن المملوك القِنَّ لا يملك شيئًا وإنما يعد ملكه إلى سيده.
يقول: "باب الْقَضَاءِ فِي اسْتِهْلاَكِ الْعَبْدِ اللُّقَطَةَ"، "يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبْدِ"؛ يعني: المملوك، "يَجِدُ اللُّقَطَةَ" فيأخذها "فَيَسْتَهْلِكُهَا"؛ يعني: يتلفها بالتصرّف فيها وبالتعدّي أو بالتقصير في حفظها، "قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الأَجَلَ الَّذِي أُجِّلَ"؛ وهو السَّنة "فِي اللُّقَطَةِ، وَذَلِكَ سَنَةٌ" "أَنَّهَا فِي رَقَبَتِهِ"؛ يعني: تكون هذه جناية منه جنى بها على اللقطة في رقبته، فيُخيّر سيده في أنه "إمَّا أَنْ يُعْطِيَ سَيِّدُهُ ثَمَنَ مَا اسْتَهْلَكَ غُلاَمُهُ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ"؛ يبيعون الغلام ويأخذون منه ثمن لُقطتهم ويعود الباقي إلى سيِّدهِ.
هذا مذهب الإمام مالك -عليه الرضوان- في التفريق بين أن يكون هلكتُها قبل السَّنة أو بعدها. "وَإِنْ أَمْسَكَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الأَجَلُ الَّذِي أُجِّلَ فِي اللُّقَطَةِ، ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا كَانَتْ دَيْناً عَلَيْهِ، يُتْبَعْ بِهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ فِيهَا شَيْءٌ"؛ يعني: مجرد الإمساك مدة السنة بالنسبة للعبد يخرجها عن أن تكون جناية تتعلق برقبته.
ولأنّ الالتقاط سبب يملِك به الصبي ويصحّ منه فصحّ من العبد كالاحتطاب والاصطياد.
فإذا التقط العبد لُقطة:
هذا فيما يتعلق بالتقاط العبد.
وكذلك في التقاط الذمّي:
كذلك الصبي، فإذا التقط لقطة:
ليأخذها كما يأخذها الحاكم من يد الفاسق أو من يد الذمّي، على القول بأنّه ليس له حق الالتقاط، ويبقيها عنده ويعرّفها، فإذا مضت السنة صارت لبيت المال إذا لم يُعرف صاحبها.
ثمّ ذكر الْقَضَاء فِي الضَّوَالِّ؛ جمع ضالّة؛ وهي الضائعة على أهلها.
يقول -عليه رحمة الله-: "أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ الأَنْصَارِيَّ" الأشهلي رضي الله تعالى عنه "أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ وَجَدَ بَعِيراً بِالْحَرَّةِ"؛ أي: الأرض ذات الحجارة السوداء بظاهر المدينة المنورة يُقال له: حرّة "فَعَقَلَهُ"؛ أي: شدَّهُ بالعقال، وهو الحبل، فعرفه، عقله منعه من الذهاب بعقال شدَّهُ به.
"ثُمَّ ذَكَرَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" رضي الله تعالى عنه، يعني: استفتاه فيما يلزمه فيه، أو يكون رفع الأمر إليه لينظر فيه. "فَأَمَرَهُ عُمَرُ" بن الخطاب "أَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ"؛ يعني: فعل، ثم سأله فأمر بتعريفه ثانيًا حتى أكمل ثلاث مرات.
"فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ:" إنّه يعني اشتغالي بتعريفه في الأماكن التي ينبغي أن يعرَّف فيها "قَدْ شَغَلَنِي عَنْ ضَيْعَتِي"؛ يعني: عقاري ومالي ومهمتي فيما تخصني، واشتغلت بالدور على الناس بالتعريف هذا. يعني: حفظ هذا الجمل شغله، عما يتصرف فيه من نظر في ضيعته."فَقَالَ لَهُ سيدنا عُمَرُ: أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ."؛ في المكان الذي وجدته فيه.
كيف يقول؟ يقول إن حفظه لهذا البعير وأخذه له لا يُلزِمُه بحق الحفظ له كما يلزم ذلك في اللقطة، وأخذه غير مأمور به ولا فيه منفعة لصاحب البعير فلا يتعلق بشيء.
وهكذا الضوال من الإبل والبقر وكذلك الحمير ونحوها من الحيوانات التي:
فهي مثل الإبل، بخلاف الغنم، فإن كانت ضعيفة ما تستطيع أن تمشي أو في مكان مخوف يُخاف عليها صارت مثل الغنم، وإلاّ فهي مثل الإبل، في ضالة الإبل: "ما لك ولها، معها سقاؤها حتى يلقاها ربها"، وترد الموارد، وهكذا كل حيوان استغنى.
ثمّ ذكر لنا حديث: "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ: مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ"؛ ضالّ عن طريق الصواب، أو أنّه آثم أو ضامِن إذا هلكت عنده؛ لأنّه كما أنها تُضمَن فهو ضامِن؛ يعني: عليه الضمان.
وجاء في الحديث عند الإمام أحمد والإمام مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال: أن النبي ﷺ قال: "من آوى ضالةً فهو ضالٌّ ما لم يعرّفها"؛ يعني: من أخذ ضالة له هذا ضالّ نعم، أما من أخذ الضالّة ليحفظها على صاحبها وليعرّفها فلا شيء عليه، وهو قائم بمعروف بحفظ مال المسلمين. وأمّا يحصلها، ما أحد لها، واحدة ضائعة يأخذها فهو ضالّ بيقين، ولا يجوز له أخذها ويضمنها.
فقيَّدَ بذلك: "ما لم يعرّفها"، قيّد الضلال بما لم يعرّفها، فلا يُراد به اللُقطة مطلقًا. وهكذا فيما جاء في الرواية الأخرى:"ضالة المسلم حَرَقُ النار"؛ يعني: إذا أخذها ولم يعرّفها وليس قصده أن يعرّفها، قال فرصة لا أحد لها فيأخذها، له حرقُ النار من غير شك، يعني: يؤدي أخذها إلى النّار، "حَرَقُ النار"، فكأنه لما يؤدي إلى الحرق كأنّه حَرِق بالفعل في الواقع نفسه، على حد قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ ) [النساء:10].
وهكذا قال: "ضالة المسلم حَرَقُ النار"، إذا تأخذها من غير نية حفظها والتعريف بها. كما تغيّر وجهه لمن سأله عن ضالة الإبل ﷺ وقال: "ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها حتى يلقاها ربها".
ثمّ ذكر لنا أيضًا عن ابن شهاب أنّه "كَانَتْ ضَوَالُّ الإِبِلِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِبِلاً مُؤَبَّلَةً،" كيف؟ أي: كالمؤبلة المقتناة، بعدم تعرض أحد إليها، واجتزائها بالكلاء إلى أن يلقاها صاحبها.
قال: "تَنَاتَجُ لاَ يَمَسُّهَا أَحَدٌ"؛ أي: تتناتج بعضها بعضًا، يعني: أنّها كانت لا يأخذها أحد، وإن أخذ منها واحدة مثل أخذها ممن لم يبلغه النهي، أو من من بلغه النهي وتأوّله، فكان الأكثر لا يؤخذ، فتبقى مؤبّلة تتناتج.
"حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ" رأى سيدنا عثمان "أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا"؛ يعني: بعد التقاطها خوفاً من الخونة، "ثُمَّ تُبَاعُ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِيَ ثَمَنَهَا" ثمّ تباع لصاحبها يعطى ثمنها إذا جاء. لما كثر في الناس ممن لم يصحب النبي ﷺ، من كان لا يعف عن أخذها إذا تكررت رؤيته لها حتى يعلم أنها ضالّة، فرأى أن الاحتياط سيدنا عثمان أن ينظر فيها الإمام فيبيعها ويبقى التعريف فيها، إذا جاء صاحبها يُعطى الثمن الذي بيعت به، أو أن المراد: إذا أُيِسَ من صاحبها أنّها تباع هكذا، وينتقل إلى حكم صدقة الحيّ عن الميت، وقد جاءت في ذلك عدد من الأحاديث والروايات.
جعلنا الله من أهل الإنابة والإخبات، وأهل الاتباع لخير البريات، ورزقنا الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ودفع عنا كل سوء أحاط به علمه في الدارين، الفاتحة.
11 صفَر 1444