شرح الموطأ - 404 - كتاب الأقضِيَة: باب القَضَاء في اللُّقَطَة

شرح الموطأ - 404 - كتاب الأقْضِيَة: باب الْقَضَاءِ فِي اللُّقَطَةِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الْقَضَاءِ فِي اللُّقَطَةِ.

فجر السبت 15 محرم 1444هـ.

 باب الْقَضَاءِ فِي اللُّقَطَةِ

2217 - حَدَّثَنِى مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا". قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: "هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ". قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا".

2218 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ نَزَلَ مَنْزِلَ قَوْمٍ بِطَرِيقِ الشَّامِ، فَوَجَدَ صُرَّةً فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَاراً، فَذَكَرَهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَر: عَرِّفْهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَاذْكُرْهَا لِكُلِّ مَنْ يَأْتِى مِنَ الشَّامِ سَنَةً، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَشَأْنَكَ بِهَا.

2219 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ لُقَطَةً، فَجَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إنِّي وَجَدْتُ لُقَطَةً، فَمَاذَا تَرَى فِيهَا؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: عَرِّفْهَا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ زِدْ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لاَ آمُرُكَ أَنْ تَأْكُلَهَا، وَلَوْ شِئْتَ لَمْ تَأْخُذْهَا.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته سيدنا محمدٍ حبيب الرحمن وصفوته، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المختار سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحابته، وأهل متابعته ومودّته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 وبعدُ،

يتحدث سيدنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- في هذه الفصول عن حكم اللُّقَطَةِ؛ وهي: ما يُلتقَط من الأموال سواءً كان دراهمَ أو دنانير أو متاعًا، أو كان من النَّعَم كذلك.

  • ولا يُطلِقُ الحنفية على النَّعَم والحيوانات أنها لُقَطَة، فيُسمونها ضالَّة.
  •  ولم يفرّق الشافعيةُ والحنابلة بين الحيوانات وغيرِها، فكله إذا كان ضائعًا ليس عليه يدٌ تحرسه، فهو لُقَطة. 

وهذا مما اشتَهر في اللغة وبين المحدِّثين على غير القياس.

  • وأصل القياس فيها أن يقال: لُقْطَة، وأن اللُقَطةَ كثيرُ الالتقاط، كالهُمَزة واللُمَزة، الذي يَهمِز ويلمِز، وكذلك اللُقَطة الذي يَلقُط.
  • ولكنّ السماعَ فيه جاء على غير القياس، فسُمِع عن العرب وعليه المحدِّثون أنه بفتح القاف، يقال: اللُقَطةُ للشيء المُلتَقَط؛ الذي يُلتَقَط.

وهكذا شأن هذه اللُقَطة لمن أخذها ما بين نية حفظها، أو نية تملّكها إذا لم يجد مالكَها وصاحبها، فتثبت في ذمّته بعد ذلك لو جاء صاحبُها، وجب عليه ردُّ مثلِها في المثل، وقيمتِها في المُتَقوّم.

 وهذه اللقطة: 

  • قد تكون في أمرٍ يسيرٍ وحقير، وتكون في أمرٍ كبيرٍ وخطير. 
  • وقد تكون في مكانٍ يؤمَن فيه من الأيدي الخائنة، وقد يكون في مكانٍ يُخاف عليها من أن تأخذَها يدُ خيانة. 
  • وقد يكون الملتَقِط واثقًا من نفسه مؤديًا لحق خلق الله تعالى إلى خلق الله تعالى، لا تنازعه نفسُه على كتم شيءٍ ولا أخذ شيءٍ منه، ومن لا يجد من نفسه هذه الأمانة.

 وعلى ذلك اختلف الحكم في أخذ اللُقطة، وقالوا: 

  • فيمن لا يأمن نفسه، أنه لا يجوز له أخذُها، فإنه كالغاصب إذا أخذها.
  • وكذلك إذا كان متردّدًا من نفسه غير ضامنٍ لها، ولا متيقنٍ من خيانتها، فإنه حينئذٍ يصير إلى الكراهة.
  • وبين أن يكون مع ثقته بنفسه يخاف ضياع تلك اللُقطَةِ، فيجب عليه أخذُها. 
  • أولا يخاف ذلك، بأن تلتقطها يدٌ أمينةٌ أخرى في الموضع الذي هو فيه، فإن أهله معروفون بالأمانة وأداء الحقوق، فحينئذٍ لا يلزمه أخذها، ولا يجب عليه أخذها، وجاء الاختلاف في ذلك.

إذًا؛ علمنا في هذه اللقطة أنها ما يوجد إما مطروحًا على الأرض، ويقول الحنفية: سوى الحيوان من الأموال، وكذلك عند المالكية: المال الذي يوجد بغير حرزٍ، محترمًا، ليس حيوانًا ناطقًا ولا نعَمًا. ولم يفرّق -كما سمعت- الشافعيةُ بين الحيوان وغيره، في استعمال لفظ اللُقَطة.

 وكذلك جاءنا في الحديث، لفظ: الضَّالة؛ ويعني: الأمرُ الضائع، أضللت الشيء إذا ضاع منك الشيء ولم تعرف موضعه، يُقال: ضالة. وكما تُطلَق الضالة على الأمور المعنوية كذلك، فالحكمة ضالة المؤمن، كما جاء في الخبر، واحفظوا على الناس ضالّتهم؛ العلم.

إذًا؛ علمنا اختلاف الحكم في الأخذ لمن وجد الضالة. وعلمنا ما قال الشافعية: إذا كان آمنًا من نفسه ويخاف عليها الضياع، أنه يجب عليه حينئذٍ أن يأخذَها حتى لا تضيع، ولِيحفظَ على المسلمين أموالهم، لما قال الله تعالى: (والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة:71]،ومن كان وليًا وجب عليه أن يحفظ مال وليّه، وإن لم يخف ضياعَها، فالأمر فيه سَعة.

  • يقول الحنفية: يُندَب رفعُ اللقطة من على الأرض إن أمن الملتقِط على نفسه تعريفَها، وإلا فالتركُ أولى.
  • قالوا أيضًا: يُفرض عليه أخذُها إذا خاف من الضياع، لأن لمال المسلم حرمةٌ كمالِ نفسه، فلو تركها حتى ضاعت كان آثمًا، "إنَّ دماءَكُم وأموالَكُم وأعراضكم حرامٌ عليكم كَحُرْمة يومِكُم هذا في شهرِكم هذا في بَلَدِكم هذا"  يقول صلى الله عليه وسلم "ألا هَلْ بلَّغتْ؟".

قالوا وهذا الذي لا يأمن على نفسه، قال الحنفية أيضًا كما يقول غيرهم، إذا أخذها لنفسه فهو مأثومٌ لأنه أشبه بالغصب.

  • وهكذا يقول المالكية: إن كان الملتقِطُ يعلم من نفسه الخيانةَ يكون الالتقاط حرام عليه.
  •  فإن كان يخاف أن يستَفِزَه الشيطان ولا يتحقق من ذلك، فيكون مكروه. 
  • وإن كان يثق بأمانة نفسه.. فإما أن يكون بين ناسٍ لا بأس بهم ولا يَخاف عليها الخونة، وإما أن يخافهم.. فإن خافهم وجب عليه الالتقاط، وإذا لم يَخَفهُم وإن كان واثقًا من نفسه ولكنها في موضع لا يُخاف فيه أن تَمتد إليها يدُ خائن، فعندئذٍ القول عند المالكية ثلاثة أقوال؛ 
    • فالقول المشهور عندهم -التفريق بين ما كان حقيرًا ويسيرًا وبين ما كان خطيرًا، فما كان له بال فيُستحب له أخذُها، وما كان حقيراً فلا يستحب. 
    • وقيل بالاستحباب مطلقًا. 
    • أو الكراهة مطلقًا. 

كلامنا في الأخذ، أخْذُ اللقطة لمن وجد مالاً ضائعًا.

  • وهكذا يقول الشافعية، إذا وجدها بِمَضْيعةٍ، وأمن على نفسه فالأفضل أخذها، وجاء عن الشافعية قولٌ بالوجوب كذلك، وعنه روايةٌ بالوجوب لأن فيه حفظ مال المؤمن، واستدل بقوله تعالى: (والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة:71]. والقول الثاني: أنه يستحب له أخذها ويكون الأفضل له أخذَها، حتى لا تضيع.
  • والمشهور عن الإمام أحمد بن حنبل، أن تركَ الالتقاط أفضل.

 هذا حكم أخذ اللقطة، فإذا أخذها فيأتي التعريف، كما أشار إليه الحديث.  

يقول: "عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ"؛ المنبعث هذا يقولون أنه صحابي نزل للنبي ﷺ في حصار الطائف، كان اسمُه المضطجع، فبدّل النبي ﷺ اسمَه من المضطجع إلى المنبعث، فسمّاه المنبعث، الانبعاث خيرٌ من الاضطجاع. ويروي "عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ:  جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبي ﷺ"؛ 

  • فقيل: أنه نفسُه زيد بن خالد الجُهني الراوي. 
  • وقيل: أنه سيدنا بلال المؤذن.
  • وقيل: أبو ثعلبة. 
  • وقيل: عُمير. 
  • وقيل الجارود العبدي. 
  • ورجّح الحافظ ابن حجر أنه سويدٌ الجُهني.

القصد رجلٌ جاء إلى النبي ﷺ، فليكن مَن يكن، إنما نأخذ الحكم من قول رسول الله ﷺ. 

"فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا"؛ أي: الإناء التي هي فيه، وإن كان أصل العفص: ما يُشدُّ به على الإناء، ولكن أراد به ما غطَّى تلك البضاعةَ إذا كانت في وعاء، قال احفظ "عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا،" أي الخيط الذي تُشد به الصرة، أو الكيسُ ونحو ذلك. وجاء في روايةٍ عند مسلم: "وعددَها"؛ يعني: يحفظ صفة هذه الأشياء لتكون منه على بال، ويعرف مَن صاحبها إذا جاء بالأوصاف الخاصة بها، فإنه لا يُعطى الناس بدعواهم ويقول هي لي، ولكن يأتي بالأوصاف، فإذا جاء بالأوصاف وكانت صحيحةً موافقة…

 ولهذا ينبغي للملتقِطِ أن لا يُشيعَ وصفَ الملتَقَط، بل يكتمه عنده حتى لا يدّعيه مَن يصِفه بما أشاعَه من أوصافه، فإذا جاء مَن يخبِر بعلاماتها الخاصةِ بها، من دون أن يكون له بيّنة على أنها له، فهل يلزمه تسليمها له؟ أو هل يجوز له تسليمها له؟

  • قال الشافعية: إذا غلب على ظنّه صدق صاحبها يجوز له أن يسلمها له، وإن كان لا يُجبَر على التسليم من دون بينة.
  • كذلك يقول الحنفية: إذا أتى مدّعيها بإصابة علاماتِها، يجوز تسليمها له، لقوله ﷺ: "فإن جاء صاحبُها، فعرَفَ عِفَاصَها وعددَها ووِكَاءَها فأَعطِها إياه، وإلا فهي لك" كما جاءنا في الحديث.
  • يقول المالكية والحنابلة: الملتقِطُ إذا وصف مدّعي اللقطة أوصافهَا صحيحةً، وَجَبَ عليه أن يسلّمها له، وإن كان بلا بينة، للعمل بظاهر هذا الحديث عن سيدنا زيد بن خالد الجهني قال: "فإن جاء طالبُها يومًا من الدهر فأدِّها إليه". جاء في روايةٍ عند مسلم: "فإن جاء أحدٌ يُخبرك بعددِها ووعائها ووكائها فأعطِه إياه". أما إذا لم يصفها بأوصافها، وقال ضاعت علي، وهي حقي وكذا.. ومن هذا الكلام، يقول الجمهور: لا يجوز أن يدفعها لمدّعيها إذا لم يأتِ بالأوصاف، ولم يأتِ بالبينة، فلا يجوز أن يدفعها له، لأنه بذلك يُضيّع المال.

ثم إن هذه اللُقَطة تحتاج إلى التعريف كما نقرأ؛ "ثُمَّ عَرِّفْهَا"؛ أي: أخبر الناس أن هنا لقطةٌ، تتعلق بكذا، فمن له فليأتِ، ويحتاج بحسب الوسائل المتاحة له في التعريف للناس، أن يستعمل ذلك حتى يغلبَ على ظنه وصولَ الخبر إلى عامةِ من يمكن أن تكون له. 

قال: "ثُمَّ عَرِّفْهَا".. فإذًا؛ 

  • فيجب على ملتقِط اللُقطة في غير مكة المكرمة، أن ينويَ تملُّكها. 
  • أما في مكة فلا يجوز إلا لتعريفها فقط، ولا يجوز تملكها، "لا تُلتقطُ لُقَطَتُها إلا لمعَرِّف". 

فالتعريف هذا واجبٌ من أجل الوصول إلى صاحبها وإلى مَن هي له، فيجب عليه إذا التقط لقطةً أن يُعرِّفها سواءً أراد تملكَها، وهي في غير مكة -في غير حرم مكة-، أو حفظَها لصاحبها.

وهكذا جاء عن سيدنا أبيّ بن كعب قال: أصبتُ صرّةً فيها مائةُ دينار، فأتيت النبي ﷺ  فقال: عّرفها حولاً، فعرّفتها حولًا،  أردت أن يأتي صاحبها ليأخذها لكن لم يأت أحد، ولم أجد من يعرفها، ثم أتيته، قال: عرّفها حولاً، قال فعرّفتها، ثم أتيته ثلاثًا، يعني ثلاث سنين، فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبُها وإلا فاستمتع بها.

 قال: وهذه المعرفة بعد ذلك واجبةٌ الدقة،  إذا أراد أن يستعملها ويتملكها، يجب أن يضبطَها ضبطاً كاملاً، من أجل إذا جاء صاحبُها يرد إليه ما أخذ كاملاً، ولا يقع الاشتباه. أما التعرّف عليها قبل التعريف فذاك مندوبٌ أو واجبٌ موسع، لكن عند إرادة الاستعمال يصير واجب مضيّق، لا بد أن يتعرف على شؤونها وأحوالها، حتى إذا جاء صاحبها أي وقت، يكون عنده ضبط لما يردّه إليه، ولِما يسلمه له. 

أيضًا يقول الحنفية والمالكية والشافعية ومعهم أيضًا الحنابلة: يجب على الملتقِط تعريفَ اللقطة، سواءً أراد تملكها أو حفظها لصاحبها، وأما تكرير الوقت، فهذا راجع إلى اختلاف المدة، قالوا ومن يتولى التعريف يكون عاقلاً ثقةً، فكم يعرِّفها؟ 

يقول الأئمة الثلاثة: يعرّفها سنة، كما عندك في الحديث قوله "ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً".

وأما حديث سيدنا أُبيّ تعريفها ثلاثة أعوام، قالوا هذا على وجه الاحتياط، وأن السائل الأول الذي أمره بتعريف سنةٍ، ذكر له أدنى حدٍ فيما يجوز له أن يتملّك بعد ذلك، وكان أعرابي، وأما هذا فأُبيّ بن كعب، من أهل العلم وأهل العبادة، وأهل هذا الوصف لا يسارعون إلى أخذ ما يحِلّ لهم حتى يحتاطوا، فأمره أن يحتاط سنةً ثانيةً وسنةً ثالثة، لأن هذا هو اللائق به، فكان ذلك على سبيل الندب والاحتياط ، أما أقل الواجب فهو سنة.

  • ولم يفرق الأئمة الثلاثة بين أن يكون قليلاً أو كثيراً هذه اللُقطة، ما يتملّكها إلا بعد مرور سنةٍ ولا بد من التعريف سنة.
  • وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه-  فرق بين القليل والكثير، إذا كانت أقل من عشرة دراهم يُعرفها أياماً يرى أنها كافيةٌ، ما بين ثلاثة أيام، ما بين أسبوع، وهكذا، راجعٌ إلى اجتهاده، وإن كانت أكثر فيرجع إلى السنة.

وقالوا: إنما يرجع الأمر بالسنة في شيءٍ كثيرٍ وهو مائةُ دينارٍ، التي تساوي ألف درهم. وعلى كل حال فجاءت أقوال في مدة اللقطة وتعريفها. فالجمهور على أنها تُعرّف سنةً، أي لقطة كانت، ولا يجوز تملكها إلا بعد سنة، إن كان في غير حرم مكة، فجاءت أقوال:

  • قلنا السنة الواحدة هي قول الجمهور قلّت أو كثرت.
  • وقول أنها ثلاثة أشهر.
  • وقول أنها ثلاثة أيام، ويُحمل على عظم اللقطة وحقارتها.
  • وفي قول: أنها أربعةُ أشهر. 

إذًا؛ فهذه أقوال في مدة التعريف، فينبغي أن يحتاط آخذها وصاحبها، وأن يكون مجتهدًا في حفظ مال المسلمين وأدائه لمن يستحق، وهذه علامة الإيمان، وعلامة الصدق مع الرحمن، جلّ جلاله وتعالى في علاه.

وذكر النبي ﷺ ثوابًا مخصوصًا عظيمًا لمن يقضي دّيْن قد نسيَه صاحبُه، ولا يَعرِف به غيرُه، بأن مات الذي أدانه، ولم يعرف ورثتُه بذلك، فجاء لهم بالمال، ولا بينةٌ ولا علامةٌ ولا يعرفه غير الميت، إلى غير ذلك من الأموال التي لا يَعلم صاحبُها بها، فيحملُه الورع على أن يُسلِّمها، فلها قدرٌ عند الله وثوابٌ مخصوص. 

قال: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا" فأدّها إليه، وسمعت الرواية أيضًا: إن جاء أحدٌ يُخبرك بعددِها ووعائها ووكائها فأعطِه".

إذًا؛ فإذا وصفها له..

  • يقول الحنابلة: دُفعت إليه بلا بينة، وإن لم يغلب على ظنه صدقُه.
  • وأما غيرهم فقالوا: لا يلزمه الرد إلا إن جاء ببيّنة، ويجوز له أن يردّ إذا غلب على ظنّه صدقـه.

 "وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا"؛ أي: الزم شأنك وحالك بها، يعني: تصرف فيها، إذا قمت بالتعريف على وجه التمام لمدة عام، فإذا لم تُعرَف جاز لملتقطِها أن يملكها؛ "فَشَأْنَكَ بِهَا". فصارت من ماله، ولكن يبقى هذا الملكُ له معلّقًا، فإذا وُجد صاحبُها ومدّعيها وعُلم أنها له، وجب عليه ردُها، "وإلا فانتفع بها"، كما جاء في رواية، "وإلا فاستمتع بها"، كما قال لسيدنا أُبيّ.

 "قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ" ما حكمها "يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: هِيَ لَكَ" إن أخذتها، "أَوْ لأَخِيكَ"؛ أي: ملتقطٍ آخر إن لم تأخذها،  "أَوْ لِلذِّئْبِ"؛ يعني: هي لك أو لأخيك إما يجدها صاحبها أو يلتقطها غيرك من المسلمين، أو إذا أُهملت وتُركت فللذئب؛ يعني: تقع فريسة لشيءٍ من السباع؛ يعني يقول ضالة الغنم ضعيفة ما تستقل بنفسها معرضةٌ للهلاك، فإما تأخذها أنت أو أخوك أو الذئب. 

  • يقول الحنابلة: فإذا وجد الشاة بمصرٍ أو بمَهْلَكةٍ فهي لُقطةٌ، يعني: يباح له أخذها والتقاطها، كحكم الذهب والفضة.
  • يقول ابن عبد البر: أجمعوا على أن ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها، له أكلُها، ويضمنها بعد ذلك لصاحبها من غير شك، كما إذا وجد شيئًا يفسُد ويخرب، فيجوز له تملكه في الحال، ويضمن قيمته.

 "قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟"؛ يعني: ما حكمها؟ "قَالَ ﷺ: مَا لَكَ وَلَهَا؟"؛  يعني: هذه لا يُخشى عليها، "مَعَهَا سِقَاؤُهَا" جاء في روايةٍ أنه لما سأله عن ضالة الإبل، غضب حتى احمرّت وجنتاه، أو في روايةٍ: فتمعّر وجه النبي ﷺ. "قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟" وجاء في رواية: فذرها حتى يلقاها ربُها. وقال في هذه الرواية: "مَعَهَا سِقَاؤُهَا"؛ أي: حيث وردت الماء شربت ما يكفيها حتى ترِد ماء آخر، وهي تصبر على الماء أيام. "وَحِذَاؤُهَا"؛ يعني: تقوى على السير بما جعل الله لها من أخفاف تقطع المسافات البعيدة، فهي مستغنية عن الحافظ والمتعهد. "تَرِدُ الْمَاءَ،" تشرب منه بلا تعب "وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ"، بسهولة لطولها وطول عنقها،  "حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا"؛ مالكها؛ يعني: فاتركها حتى يجدها مالكها.

قال: "وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ نَزَلَ مَنْزِلَ قَوْمٍ بِطَرِيقِ الشَّامِ، فَوَجَدَ صُرَّةً فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَاراً، فَذَكَرَهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَر: عَرِّفْهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ"، المساجد مراجعُ المؤمنين، "وَاذْكُرْهَا لِكُلِّ مَنْ يَأْتِى مِنَ الشَّامِ سَنَةً، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَشَأْنَكَ بِهَا".

وإنما هذه السنة كما هي عند الجمهور؛ لأن في السنة يتم استبيانٌ كامل، تمرّ عليه الفصول، إن كان الموضع يقصدُه الناس لحرٍ أو لبردٍ أو لاعتدالٍ، فالسنة تكفي كل ذلك، فيكون في الغالب أن مَن له سيُتَحصَّل خلال العام. 

وذكر: "وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ لُقَطَةً، فَجَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إنِّي وَجَدْتُ لُقَطَةً، فَمَاذَا تَرَى فِيهَا؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: عَرِّفْهَا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ."؛ يعني: عرّفتها، "قَالَ زِدْ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ"؛ يعني: أكثرت عليّ، "فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لاَ آمُرُكَ أَنْ تَأْكُلَهَا، وَلَوْ شِئْتَ لَمْ تَأْخُذْهَا."؛ يعني: ما كان يلزمك أخذها، وأنت الآن قد أخذتَها.

  • وهكذا يرى الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: أنه يجوز له أن يتملك  ملتقطُ اللقطة في غير حرم مكة، يتملكها بعد التعريف. 
  • وقال أبو حنيفة: ما يجوز له أن يتملك إلا إن كان فقير، أو يعطيها أحدًا من الفقراء، وأن من لا تحل له الزكاة لا تحل له اللقطة، وإنما اللقطة تحل لمن تحل له الزكاة. 
    • فإذا كان هاشمي أو مطّلبي أو غني، فلا يجوز له أن يتملكها، بل يُعرِّفها ويعطيها بعد ذلك فقيرًا إذا لم يجد صاحبها. 
    • أما إن كان هو فقير فيجوز، أو كان أحدٌ من أقاربه فقراء فيعطيها له ،هذا عند أبي حنيفة.
  • وقال الأئمة الثلاثة: بل يجوز له أن يتملكها ولا فرق بين أن يكون غنيًا أو فقيرًا، وبين من أن يكون ممن تحرم عليه الصدقة كالهاشمي والمطّلبي أو غيرهم، كلهم سواءٌ في ذلك.

 والله أعلم.

رزقنا الله الاستقامة وأتحَفَنا بالكرامة، وجعلنا من أهل الاقتداء بسيّدِ أهل الإمامة، وحفظنا من موجبات الندامة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، وربَطنا بحبيبه المظلل بالغمامة ربطًا لا ينحل حتى يجمعنا به في الفردوس الأعلى بدار الكرامة، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

11 صفَر 1444

تاريخ النشر الميلادي

07 سبتمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام