(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الْقَضَاءِ فِي الْعُمْرَى.
فجر الأربعاء 12 محرم 1444هـ.
باب الْقَضَاءِ فِي الْعُمْرَى
2213- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَاري، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا، لاَ تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَبَداً". لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ.
2214- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولاً الدِّمَشْقِيَّ يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْعُمْرَى وَمَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا، فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَفِيمَا أُعْطُوا.
2215- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْعُمْرَى تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْمَرَهَا، إِذَا لَمْ يَقُلْ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ.
2216- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَرِثَ مِنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ دَارَهَا، قَالَ: وَكَانَتْ حَفْصَةُ قَدْ أَسْكَنَتْ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ مَا عَاشَتْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ زَيْدٍ بْنِ الْخَطَّابِ قَبَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْمَسْكَنَ، وَرَأَى أَنَّهُ لَهُ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان حبيبه وصفوته خير بريته، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته وعلى أهل ولائه ومُتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين صفوة الله في الخلائق وخيرته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
يتحدث سيِّدنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- عن حُكم الْعُمْرَى والرُّقبى، وذلك أنهما لفظان اشتهرا بين العرب من قبل الإسلام.
والجمهور على أنه لا فرق بينهما. وحُكم الأولى عند الجمهور -وهو العُمْرَى-: أنه إذا أعمَر أحدٌ غيره داره ونحوه؛ فإنه يبقى ملكًا وهبةً للذي أخذه منه أو أعمره إياه، فهو له طول عمره، ومن غير شك أن كل ملك للإنسان إنما يكون له في طول عمره، وهل يملك شيء يكون في غير عمره! ما يتأتى إنما يملك طول عمره فبالضرورة أن كل ما دخل في ملكه إنما يكون له ملكه من مدة العُمر إذا بقي له، فإذا مات انتقل إلى ورثته.
وهذا مثله إذا قال لك: هذه الدار طول عمرك وأعمرتك هذه الدار وأعطيتك إياها ما دمت حيًا، فكل ذلك راجع إلى تمليكه إياها وتصير ملكًا له، فإذا مات انتقلت إلى ورثته كما سمعت من قصة ابن عُمَر، وكما حكم ﷺ أيضًا في رجلٍ من الأنصار أعمر أمه داراً، فلما ماتت جاء إخوته وقالوا: لنا معك قسمة لأنها حق الوالدة، فأبى ذلك، فترافعوا للنبي ﷺ فقسَّمها بينهم إرثًا، قسمها بينهم إرثًا؛ أعطى كل واحد منهم نصيبه.
فإذًا؛ إذا أعمره صارت ملكًا له ولورثته من بعده.
يقول في هذه العُمْرَى:
فإذًا هي جائزة وجاءت فيها أحاديث صحيحة، وينتقل بها المُلك إلى مَن أُعْمِر. وحينئذٍ هي عند الأئمة الثلاثة تمليك عين، تنتقل العين إلى من عُمِّرَ تلك العين؛ أي: أُعطيَها مدة عُمْره. وسمعت قول المالكية: ليس للمُعمر هذا إلا المنفعة فقط. فإذا مات عادت إلى المُعمِر الذي أعمرَهُ إياها، وجعلوها عارية.
إذًا؛
فإذا قال: أعمرتك هذه الدار مثلًا، فإذا مت فهي لعقبِك أو ورثتك؛ فهي صحيحة عند عامة العلماء. حتى قال الإمام النَّووي: لا خلاف في صحتها، وإنما الخلاف هل يملك الرُّقبة؛ العيْن أو المنفعة فقط؟ المالكية قالوا: المنفعة. وغيرهم قال: فإذا قال أعمرتك هذه الدار، فإذا متُّ فلعقبك أو لورثتك؛ صحيحة باتفاق.
أو يجعلها مطلقة؛ ما يذكر ورثة ولا عقِب، ويقول: أعمرتُكَ هذه الدار؛ فهي أيضًا صحيحة كالأولى كما قال الشَّافعية، وكما قال أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.
يقول: فأما إذا قال، إذا متّ رجعت إلي أو إلى ورثتي؛ فهذه لا تصح؛ لوجود التناقض، فجُعلَت العُمْرى والرُّقبى نوع من الهبة، فتثبت بالقبض كما تقدَّم معنا. وجاءت من الأحاديث فيها: "العُمْرى جائزةٌ لأهلها، والرُّقبى جائزة لأهلها" في رواية أبي داود والترمذي. وكذلك جاء: "فمَن أعمَرَ عُمْرى فهي إلى من أعمر حيًا وميتًا وعقبِه".
أورد لنا حديث: "جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَاري، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ"؛ يعني: ما من رجل "أُعْمِرَ عُمْرَى"؛ يعني: قال لصاحبه: أعمرتك هذه الدار، "لَهُ وَلِعَقِبِهِ"؛ يعني: أولاده ما تناسلوا، "فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا"، المُعمَر، "لاَ تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَبَداً". المُعمِر هذا الذي يهب؛ "لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ"، هذا كلام أبي سلمة فيبين الحديث، يقول لأنه عند الموت تصير من ملك الورثة، فكيف يستردها؟
وذكر لنا بعد ذلك، حديث: "الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْعُمْرَى وَمَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا، فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَفِيمَا أُعْطُوا". وهذا أيضًا على مذهب مالك، أن المُعمِر لمَّا اشترط استيفاء الرُّقبى، وأراد المنافع بالهبة مدة مقدرة بعمر المُعطى، فيلزم ذلك كما سمعت أنها عندهم كالعارية.
"قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْعُمْرَى تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْمَرَهَا، إِذَا لَمْ يَقُلْ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ"؛ فتصير إباحة منفعةً فقط كعارية.
ثم ذكر لنا حديث: "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ" أنه "وَرِثَ" أنه أخته "حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ" لأنه لا ولد لها، فورثها أخوها، "قَالَ: وَكَانَتْ حَفْصَةُ قَدْ أَسْكَنَتْ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ مَا عَاشَتْ"؛ يعني: دَارَهَا، "مَا عَاشَتْ" مدة حياتها، "فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ زَيْدٍ بْنِ الْخَطَّابِ قَبَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْمَسْكَنَ" المذكور، "وَرَأَى أَنَّهُ لَهُ" بالميراث الذي حصل له من أخته، أخته ما عندها أولاد. فإذا قال: سُكنى هذه الدار لك عمرك أو اسكنها عمرك أو نحو ذلك…
ذكرها بعد أبواب الهبة لأنها نوع من الهبة.
إذًا؛ فللعُمْرى عند الشَّافعية ثلاثة أحوال:
ولم يفرِّق الحنابلة بين هذه الكلمات، فجعلوا حكمها واحدًا.
علمت ما جاء فيها من الأحاديث والحُكم منه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، فلذلك ترجّح قول القائلين: بجوازها وأنها مُلك تامٌّ لمن أُعْمِرَ. وهكذا جاء في الشّرع المصون نظام انتقال المُلْكْ والمال من يدٍ إلى يد حتى يكونوا على بيّنة، وما خالف ذلك فهو الباطل الذي قال الله عنه: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) [البقرة:188]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ) [النساء:29].
إذًا؛ فبما شرَّع الحق -تبارك وتعالى- من هبة، ومن هدية، ومن صدقة، ومن زكاة، ومن نذر إلى غير ذلك من أبواب الإجارة أو العارية أو إلى غير ذلك… فهو الذي يحكم شؤون الأموال وتنقُلّها من يدٍ إلى يد بمنهج الله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- والمُلك في الحقيقة له (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ) [آل عمران:189]، ولكنه أجرى هذه الصورة في التملُّك على يدِ بني آدم، وكلُّ منها صوري ومجازي إلى حين وله أحكامه، وفي مد يده إلى مال الغير هلاكه وعذابه، وهو من الحقوق المتعلّقة بالغير التي يُقضى فيها في القيامة، فلا يسامَح فيها إلا برضا صاحبها ومَن له حق فيها. ومَن اقتطع مال امرئ مسلمٍ بغير حق أدخله الله النَّار، قالوا: يا رسول الله، وإِنْ كَانَ شَيْئًا يسِيرًا يَا رسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "ولو قَضِيبًا مِنْ أَراكٍ"، "وَلو قَضِيبًا مِنْ أَراكٍ". فالحمد لله على نعمة الشَّريعة والإسلام، ورزقنا الله الاستقامة والاحتياط والورع.
كان ابن عُمَر يقول: لو قمتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار -أي: من الهُزال- لم يتقبل ذلك منكم إلا بورعٍ حاجز. إنما تُعرف تقوى الإنسان في ورعه عند الدّينار وعند الدّرهم. قال نبينا: "إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا". وقال ﷺ: "مَن ظلَمَ من الأرض قِيدَ شبر طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين"، هذا الشبر إلى سابع أرض يُحمل على رقبته، كيف يقدر يحمل! (يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [الأنعام:31]، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111].
اللَّهم أجرنا من الظُّلم ومن دعوة المظلومين، واجعلنا في الهُداة المُهتدين المُقتدين بسيِّد المُرسلين، وأصلح لنا شؤوننا بما أصلح شؤون الصَّالحين.، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
10 صفَر 1444