(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الاِعْتِصَارِ فِي الصَّدَقَةِ.
فجر الثلاثاء 11 محرم 1444هـ.
باب الاِعْتِصَارِ فِي الصَّدَقَةِ
2210- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ، أَنَّ كُلَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ بِصَدَقَةٍ، قَبَضَهَا الاِبْنُ أَوْ كَانَ فِي حَجْرِ أَبِيهِ، فَأَشْهَدَ لَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَةِ.
2211- قَالَ وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِيمَنْ نَحَلَ وَلَدَهُ نُحْلاً، أَوْ أَعْطَاهُ عَطَاءً لَيْسَ بِصَدَقَةٍ، إِنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ ذَلِكَ، مَا لَمْ يَسْتَحْدِثِ الْوَلَدُ دَيْناً يُدَايِنُهُ النَّاسُ بِهِ وَيَأْمَنُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ، فَلَيْسَ لأَبِيهِ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدُّيُونُ.
2212- قَالَ مَالِكٌ: أَوْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ الْمَالَ، فَتَنْكِحُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ، وَإِنَّمَا تَنْكِحُهُ لِغِنَاهُ وَلِلْمَالِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ، فَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَصِرَ ذَلِكَ الأَبُ، أَوْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، قَدْ نَحَلَهَا أَبُوهَا النُّحْلَ، إِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا وَيَرْفَعُ فِي صَدَاقِهَا لِغِنَاهَا وَمَالِهَا وَمَا أَعْطَاهَا أَبُوهَا، ثُمَّ يَقُولُ الأَبُ: أَنَا أَعْتَصِرُ ذَلِكَ. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنِ ابْنِهِ وَلاَ مِنِ ابْنَتِهِ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ لَكَ.
الحمد لله، الحمد لله مُكْرِمنا بشريعته الغرّاء وبيانها على لسان خير الورى، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله من حُبوا به طُهرا، وعلى أصحابه مَن رفع الله لهم به قدرًا، وعلى من تبعهم بإحسان سِرًا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين الرَّاقين في الفضل والمزايا أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وعلى ملائكة الله المُقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيتحدث الشيخ سيِّدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- عن الاعتصار؛ بمعنى: المنع أو الرّجعة في الصَّدقة، ما كان من هبة أو نحوها. فإذا تصدّقَ أو وهب ثم أراد أن يرجع، فهل له ذلك؟
وكما عَلِمنا أنه عند جماهير أهل العلم، ليس له أن يرجع في صدقته أو في هِبته، وقد قال نبينا: "العائدُ في هِبَتِهِ كالعائدِ في قَيْئِهِ". وإنما استثنى الأئمة من ذلك بعض الأحوال وبعض النَّاس؛ فمنها ما يكون من الوالد لولده؛ فإذًا لا يجوز أن يرجع في هبة وهبها إذا قد قبضها الواهب أو صدقة تصدّق بها إذا قبضها المُتصدّق عليه إلا للأب فيما وهب لولده.
يقول -عليه رضوان الله-: "قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ"؛ أي: في المدينة المُنوَّرة؛ أي عند الفقهاء السَّبعة، "أَنَّ كُلَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ بِصَدَقَةٍ" سواء كان الابن صغير وكبير، "قَبَضَهَا الاِبْنُ" الكبير الرشيد "أَوْ كَانَ فِي حَجْرِ أَبِيهِ"؛ لصغر سِنِّه أو لسببٍ آخر، "فَأَشْهَدَ" الأب، قد تقدَّم معنا أن الإشهاد عند المالكية كالقبض، فيلزم الهبة عندهم بالقبض أو بالإشهاد. إذا أشهد عليها صارت كالمقبوضة في عدم جواز الرجوع فيها.
قال: "فَأَشْهَدَ"؛ يعني: الأب "لَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ"؛ يعني: يرتجع "شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَةِ". فهو بالنسبة لغير الأب عند أكثر الأئمة، ولغير الأصول عند الشَّافعية، مُجمَع عليه بعد ذلك لا يجوز لمَن وهب أحدًا شيئًا، يقول: رُدَّ عليّ ما وهبته لي بعد أن يقبضه منه، وهكذا.
"قَالَ وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا"؛ يعني: في المدينة المُنوَّرة؛ أي عند فقهائها "فِيمَنْ نَحَلَ"؛ أي: أعطى "وَلَدَهُ نُحْلاً"؛ يعني: عطاءً "أَوْ أَعْطَاهُ عَطَاءً لَيْسَ بِصَدَقَةٍ"، إن لم يكن على وجه الصَّدقة "إِنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ ذَلِكَ"؛ أي: يرجع فيه "مَا لَمْ يَسْتَحْدِثِ الْوَلَدُ دَيْناً"؛ أي: لم يأخذ دينًا عن النَّاس "يُدَايِنُهُ النَّاسُ بِهِ"؛ أي: بذلك العطاء "وَيَأْمَنُونَهُ عَلَيْهِ" لمَّا أُعطي هذا من قبلِ والده أدانوه أعطوه الدين، أو قبلوه زوجًا لابنتهم ونحو ذلك بسبب العطاء. "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ"؛ فحينئذ هذا يصير مانعًا عند المالكية للأب أن يرجع في ما وهبه لولده. "فَلَيْسَ لأَبِيهِ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدُّيُونُ"؛ بعد أن جاءت الدين بسبب هذا العطاء فهكذا، المانع من الرجوع عند من قيل بجواز الرجوع إليهم.
وعَلمنا من ذلك:
ومع ذلك فهناك موانع تمنع من الرجوع حتى عند من قال بجواز الرجوع.
ثم بعد ذلك تأتي موانع عند الأئمة الأربعة فيمَن قالوا بجواز الرجوع في صدقته، تأتي موانع تمنع من الرجوع في الصَّدقة.
كذلك المالكية فيما قالوا فيه من جوازِ الرجوع من الأب أو الأم على ولدهما، قالوا: بشرط أن لا يزيد الموهوب أو ينقُص في ذاته؛ أي: يكبر أو يسمُن، يسمُن أو يهزل. وقد عَلِمنا عند المالكية الهزال ما يمنع الرجوع؛ لأنه نقص لكن إذا زاد وسمن يمنع الرجوع.
أما عند المالكية إذا تغير عن حالته التي أعطاه إياها فيمتنع الرجوع سواءً بسِمَن أو بهزال، بزيادة أو بنقص، فعندهم حينئذٍ لا يجوز للواهب أن يرجع ولو كان والدًا أو أُمًّا، كما هو مذهبهم في جواز الرجوع الأب والأم لكن من غير مانع، وهذا مانع أن يزيد أو ينقص الموهوبُ عند الموهوبِ له.
أو كما أشار فيما قرأنا في الموطأ أن إن أقصده النَّاس؛ قصدوا مداينة الولد أو تزويجه لأجل ما أعطاه أبوه ولأجل ما وهبه أبوه؛ فهذا يمنع عندهم من جواز رجوع الأب على ابنه فيما أعطاه، إذا قَصَدَ النَّاس مُداينة الولد أو تزويجه لأجل الهبة التي وهبها إياه أبوه.
فأمّا إن كان ما حصل من مُداينتهم له أو قبولهم لتزويجه ما له علاقة بالهبة، لمكانته عندهم أو لكونه صاحب معاملة أو تجارة أو غير ذلك؛ لم يكن إدانتهُم له بسبب هذه الهبة ولا قبولهم لهذا… حينئذ يستمر جواز الرجوع له. لكن إذا كان استقبال النَّاس له برضاهم أن يزوجوه أو داينوه من أجل الهبة التي وهبها والده؛ فيمتنع على الوالد أن يرجع على ابنه في تلك الهبة.
أو إذا فاتت الهبة كذلك عند الموهوب كذلك بما يُخرجها عن ملكه؛ باعاها أو وهبها لواحد آخر أو جعل الدنانير أعطاه إياها، حوّلها لحلي… تغيرت خلاص فلا حق له في الرجوع.
كذلك يقول الشَّافعية: وقد قالوا أن الأصول يجوز لهم أن يرجعوا على الفروع، لكن إذا خرج الموهوب عن سلطة الولد وسلطنته خلاص… أعطاه موهبة فقام تصدّق بها أو أعطاه الغير أو باعها. فعندما جاء الوالد قال: ردهَّ حقي، أردَّ حقك من أين؟ حقك ما بقي موجود عندي!
أما إذا رهنه أو وهبه قبل أن يقبض الموهوب الثاني له، فباقي جواز الرجوع للأب.
وكذلك الزيادة المُتصلة ما تمنع الرجوع عندهم سواء سمن ولا هزل، زيادة ونقص؛ ما يمنع الرجوع. أما المُنفصلة فتكون حدثت في ملك الابن والفرع؛ فهي له وإنما يرجع بالموهوب الذي وهبه في ذاك الوقت. أما ما تفرَّع عنها في أيام قبضه لها فهي له.
فإذًا؛ هذا حكم الاعتصار في الصّدقة كما تحدث الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- قال: "فَلَيْسَ لأَبِيهِ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدُّيُونُ أَوْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ الْمَالَ، فَتَنْكِحُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ، وَإِنَّمَا تَنْكِحُهُ لِغِنَاهُ وَلِلْمَالِ الَّذِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ، فَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَصِرَ ذَلِكَ الأَبُ، أَوْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، قَدْ نَحَلَهَا أَبُوهَا النُّحْلَ، إِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا وَيَرْفَعُ فِي صَدَاقِهَا لِغِنَاهَا وَمَالِهَا وَمَا أَعْطَاهَا أَبُوهَا، ثُمَّ يَقُولُ الأَبُ: أَنَا أَعْتَصِرُ ذَلِكَ. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ مِنِ ابْنِهِ وَلاَ مِنِ ابْنَتِهِ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ لَكَ". وهكذا قال الإمام أحمد: ولو أراد بالرجوع أن يساوي بين أولاده في العطية، فليس له حق الرجوع بعد حدوثِ هذا التغيّر.
ثم يتكلم عن القضاء في العُمرى ومثلها الرقبى، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
جعلنا الله في أهل الاقتداء وفي أهل الاهتداء، وفي أهل الاتباع لرسوله فيما خفي وفيما بدا، وجعل هوانا تبعًا لما جاء به نبي الهدى، وأهلينا وأولادنا وذرياتنا وأحبابنا وأصحابنا وطلابنا أجمعين، يدفع الله عنا وعنهم شر الأهواء حتى تكون تبعًا لما جاء به الهادي إلى سبيل السواء سِرًّا ونجوى في لطف وعافية، الفاتحة.
10 صفَر 1444