شرح الموطأ - 399 - كتاب الأقْضِيَة: باب القضاء فيمن أصاب شيْئًا من البَهَائِم، وفيما يُعْطَى العُمَّال، وفِي الحَمَالَةِ والحَوْل

شرح الموطأ - 399 - كتاب الأقْضِيَة: باب الْقَضَاءِ فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنَ الْبَهَائِمِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الْقَضَاءِ فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنَ الْبَهَائِمِ، باب الْقَضَاءِ فِيمَا يُعْطَى الْعُمَّالُ، وباب الْقَضَاءِ فِي الْحَمَالَةِ وَالْحَوْلِ.

فجر الإثنين 26 ذي الحجة 1443هـ.

 باب الْقَضَاءِ فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنَ الْبَهَائِمِ

2193- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُول: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنَ الْبَهَائِمِ: إِنَّ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا.

2194- قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الْجَمَلِ يَصُولُ عَلَى الرَّجُلِ، فَيَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يَعْقِرُهُ: فَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهُ وَصَالَ عَلَيْهِ، فَلاَ غُرْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ إِلاَّ مَقَالَتُهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْجَمَلِ.

باب الْقَضَاءِ فِيمَا يُعْطَى الْعُمَّالُ

2195- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى الْغَسَّالِ ثَوْباً يَصْبُغُهُ، فَصَبَغَهُ فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: لَمْ آمُرْكَ بِهَذَا الصِّبْغِ. وَقَالَ الْغَسَّالُ: بَلْ أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَسَّالَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ. وَالْخَيَّاطُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالصَّائِغُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَأْتُوا بِأَمْرٍ لاَ يُسْتَعْمَلُونَ فِي مِثْلِهِ، فَلاَ يَجُوزُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلْيَحْلِفْ صَاحِبُ الثَّوْبِ، فَإِنْ رَدَّهَا وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، حُلِّفَ الصَّبَّاغُ.

2196- قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الصَّبَّاغِ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الثَّوْبُ، فَيُخْطِئُ بِهِ فَيَدْفَعُهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ، حَتَّى يَلْبَسَهُ الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ: إِنَّهُ لاَ غُرْمَ عَلَى الَّذِي لَبِسَهُ، وَيَغْرَمُ الْغَسَّالُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَذَلِكَ إِذَا لَبِسَ الثَّوْبَ الَّذِي دُفِعَ إِلَيْهِ، عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ ثَوْبَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ.

باب الْقَضَاءِ فِي الْحَمَالَةِ وَالْحَوْلِ

2197- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يُحِيلُ الرَّجُلَ عَلَى الرَّجُلِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ إِنْ أَفْلَسَ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ، فَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً، فَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الَّذِي أَحَالَهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ الأَوَّلِ.

قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا.

2198- قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ يَتَحَمَّلُ لَهُ الرَّجُلُ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ يَهْلِكُ الْمُتَحَمِّلُ أَوْ يُفْلِسُ، فَإِنَّ الَّذِي تُحُمِّلَ لَهُ يَرْجِعُ عَلَى غَرِيمِهِ الأَوَّلِ.

باب الْقَضَاءِ فِيمَنِ ابْتَاعَ ثَوْباً وَبِهِ عَيْبٌ

2199- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ ثَوْباً وَبِهِ عَيْبٌ، مِنْ حَرْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَدْ عَلِمَهُ الْبَائِعُ، فَشُهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ، فَأَحْدَثَ فِيهِ الَّذِي ابْتَاعَهُ حَدَثاً، مِنْ تَقْطِيعٍ يُنَقِّصُ ثَمَنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُبْتَاعُ بِالْعَيْبِ، فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي ابْتَاعَهُ غُرْمٌ فِي تَقْطِيعِهِ إِيَّاهُ.

2200- قَالَ: وَإِنِ ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَوْباً وَبِهِ عَيْبٌ مِنْ حَرْقٍ أَوْ عَوَارٍ، فَزَعَمَ الَّذِي بَاعَهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَطَعَ الثَّوْبَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، أَوْ صَبَغَهُ، فَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ قَدْرُ مَا نَقَصَ الْحَرْقُ أَوِ الْعَوَارُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَيُمْسِكُ الثَّوْبَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَغْرَمَ مَا نَقَصَ التَّقْطِيعُ أَوِ الصِّبْغُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَيَرُدُّهُ فَعَلَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَاعُ قَدْ صَبَغَ الثَّوْبَ صِبْغاً يَزِيدُ فِي ثَمَنِهِ، فَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ قَدْرُ مَا نَقَصَ الْعَيْبُ مِنْ ثَمَنِ، الثَّوْبِ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكاً لِلَّذِى بَاعَهُ الثَّوْبَ فَعَلَ، وَيُنْظَرُ كَمْ ثَمَنُ الثَّوْبِ وَفِيهِ الْحَرْقُ أَوِ الْعَوَارُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَثَمَنُ مَا زَادَ فِيهِ الصِّبْغُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ، لِكُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَعَلَى حِسَابِ هَذَا يَكُونُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله على شريعته الغرَّاء، وبيانها على لسان خير الورى، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه طُرًا وعلى مَن والاهم في الله وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المُرتقين في معرفة الله والتعريف به أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ، 

فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأحاديث المتعلِّقة بحقوق الخلائق فيما يحصل فيما بينهم في شؤون أموالهم، وذكر: "فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنَ الْبَهَائِمِ" المملوكة، ماذا عليه؟ 

قال -رضي الله عنه-: "الأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنَ الْبَهَائِمِ"؛ أي: جنى على البهيمة فنقصتها جنايته نقصًا، ما منع منفعتها المقصودة منها، ولكن حصل نقص في الثمن بسبب تلك الجناية: "إِنَّ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا.". 

  • فإذا لم تتلف منفعتها المقصودة منها؛ فحينئذ عليه الأرْش؛ وهو مقدار ما نقص من الثمن يسلِّمه لمالك تلك الدَّابة، ومالك تلك البهيمة. 
  • أما إذا تلفت منفعتها في الأصل؛ فعليه قيمتها، هكذا يقول الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. 
  • وجاء عن أبي حنيفة: 
    • أنه في عين الدَّابة والبقرة ربع ثمنها. 
    • وفي شاة القصَّاب مقدار ما نقص من قيمتها وهكذا. 

والاعتداء أيضًا على الحيوانات مُحرَّم في الشَّرع المصون، وينصب الله في القيامة قصاصًا بين النَّاس وبين الحيوانات، كما ينصب قصاصًا بين الحيوانات بعضها البعض، فيُقاد للشاة الجماء من الشَّاة القرناء، وكذلك بين بني آدم والحيوانات، فلا يقتل آدمي بهيمة بغير حق أو يضربها بغير حق أو يرفسها بغير حق أو يجرحها بغير حق أو يمنعها واجبًا عليه من مثل غذائها؛ إلا وطالبَت بحقها في القيامة، وجيء به ورفسَته، وبُطِح لها، فترفسه وتنطحه بمقدار ما آذاها عدْلًا من الله بين بريته وخلقه، لا إله إلا هو. (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]. فلا يحسبن الإنسان أنه يتصرف بغيظه أو بغضبه أو بهواه على أي مخلوق ولو كان ضعيفًا ولو كان لا قدرة له على الذَّب عن نفسه، فإن رّب الكُل يحاسب الكُل ويعطي كل ذي حقٍّ حقه. 

فمع تلك الحُرمة إن حصل منه ذلك باعتداء، وإن كان معذورًا فيه بأن صال عليه الحيوان ونحوه فعليه الضمان الذي كُلف به في الشّرع، ولا إثم عليه فيما دافع به عن نفسه. 

وهكذا أورد لنا أيضًا قول مالك: "فِي الْجَمَلِ يَصُولُ عَلَى الرَّجُلِ"؛ يعني: يثِب عليه "فَيَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْتُلُهُ"؛ يعني: الرجل يقتل هذا الجمل، "أَوْ يَعْقِرُهُ"؛ يعني: يجرحه؛ بكسر بعض أعضائه. 

  • قال: "فَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ"؛ أي: للرجل الذي قتل الجمل "بَيِّنَةٌ" معتبرة "عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهُ وَصَالَ عَلَيْهِ، فَلاَ غُرْمَ عَلَيْهِ"، لكونه في ذلك معذورًا في الذّب عن نفسه. 
  • "وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ إِلاَّ مَقَالَتُهُ"، ليس له إلا مجرد دعواه؛ "فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْجَمَلِ.".

 إذًا؛ من صال عليه جمل أو دابة فقتلها، إن قامت له بيّنة بأنه قد خاف على نفسه أن تقتله فلا ضمان عليه، وهكذا يقول الشَّافعي. قال الإمام أبو حنيفة بالضمان مطلقًا، وقال: لا إثم عليه، ولكن عليه الضمان. والذي ذكره هذا الإمام مالك وعليه الشَّافعي، وعليه أيضًا الإمام أحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم لأنه إنما قتله دفعًا عن نفسه فكأنه قتل شاهر سيف عليه. 

  • وقال الإمام أبو حنيفة: الإثم صحيح مدفوع؛ لا إثم عليه ولكن عليه قيمة تلك البهيمة، والجمل يُسلّمه لصاحبه، فإن عليه القيمة يضمن ذلك. 
  • وقال الجمهور: إذا ثبت صياله عليه، وأنه صال عليه وخافه على نفسه؛ فلا ضمان عليه. 

 

باب القَضَاءِ فِيمَا يُعْطَى الْعُمَّال

 

ثم ذكر: "فِيمَا يُعْطَى الْعُمَّالُ"؛ يعني: الصُّناع. في بعض نُسخ الموطأ الغسَّال. الغسَّال واحد من العمال، فالعمال أشمل. "قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى الْغَسَّالِ ثَوْباً يَصْبُغُهُ، فَصَبَغَهُ" العامل ثم اختلفا، "فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: لَمْ آمُرْكَ بِهَذَا الصِّبْغِ" مثلاً صبغه بأحمر، قال: أنا أمرتك تصبغه بأخضر أو بأسود… قال له: لا أنت قلت لي أصبغه بالأحمر، لا حول ولا قوة إلا بالله! "وَقَالَ الْغَسَّالُ: بَلْ أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَسَّالَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ"؛ يعني: حيث لا بيِّنة فيحلف؛ يحلف الغسَّال أنه أمره بذلك؛ لأنه على العموم صاحب الثوب ومالك الثوب أقرّ بأنه أذِن له في الصباغة لكن بعد ذلك اختلفوا في لونها وما إلى ذلك.. 

  • فالقول قول الصباغ، إذا بيّن بيمينه؛ يؤخذ بقوله، وهذا مذهب الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-. 
  • وقال الإمام أبو حنيفة والإمام الشَّافعي: القول في هذا لصاحب الثوب لأنه مُعترف بأنه لربّه وليس له هذا الثوب، وأنه أحدث فيه حدثًا ادّعى إذنه. ادّعى أن صاحب الثوب أذِن له، وأنه أجازه عليه. فإن أقام بيّنة؛ انتهت المسألة وإلا صاحب الثوب الذي يحلف ويُصدّق ويضمن بما أحدث فيه.

قال: "وَالْخَيَّاطُ مِثْلُ ذَلِكَ"؛ يعني: مثل الصباغ يُصدّق في قوله، إذا قطّع الثوب قميص، قال لرّب الثوب: أمرتني به، قال له صاحب الثوب: أمرتك بقطعه كذا لا قميص. 

"وَالصَّائِغُ مِثْلُ ذَلِكَ"، إذا صاغ الفضة مثلًا أساور، ورّب الفضة قال: أنا أمرتك بصياغة خلاخل، لا حول ولا قوة إلا بالله!.. "وَيَحْلِفُونَ" يقول على مذهب مالك الغسَّال والخياط والصائغ "عَلَى ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَأْتُوا بِأَمْرٍ لاَ يُسْتَعْمَلُونَ فِي مِثْلِهِ"؛ يعني: ما يوافقه الظاهر "فَلاَ يَجُوزُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلْيَحْلِفْ صَاحِبُ الثَّوْبِ، فَإِنْ رَدَّهَا وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، حُلِّفَ الصَّبَّاغُ". 

وهكذا عَلِمت المسألة كما تقدَّم في الأول أن مذهب أبي حنيفة والإمام الشَّافعي: أن القول قول المالك لا قول العامل لأنه أقر بأن الثوب له وادعى أنه أذِن له في صباغته أو في خياطته بهذه الكيفية وكذا، فهو إذًا يحتاج إلى بيّنة، فإن لم تكن بينة؛ فالقول قول المالك. 

"قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الصَّبَّاغِ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الثَّوْبُ، فَيُخْطِئُ بِهِ"؛ يعني: بالثوب، كيف هذا؟ "فَيَدْفَعُهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ"، ثوب لفلان وصبغه، جاء واحد ثاني أيضًا عنده ثوب له وأعطاه ثوب هذا، وهو بذلك أخطأ، "فَيَدْفَعُهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ" ليس مالكه "حَتَّى يَلْبَسَهُ الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" يظنه له، قال مالك: "إِنَّهُ لاَ غُرْمَ عَلَى الَّذِي لَبِسَهُ، وَيَغْرَمُ الْغَسَّالُ" والذي أعطاه ثوب أحد ثاني "لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَذَلِكَ إِذَا لَبِسَ" بكر "الثَّوْبَ" مثلًا "الَّذِي دُفِعَ إِلَيْهِ، عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ"؛ أي: ظنه أنه ثوبه، "فَإِنْ لَبِسَهُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ ثَوْبَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ" أيضًا. 

فإذا أخطأ القصّار؛ دفع الثوب إلى غير مالكه؛ عليه ضمانه لأنه فوّته على مالكه، وكيف يأخذ ثياب النَّاس وبعد ذلك ما يضبط هذا حق فلان وهذا حق فلان؟! لا بُد عليه يجعل له علامات وإشارات وإمارات. 

وهكذا قال الإمام أحمد: يَغرَم القصّار. 

  • ولا يلزم المدفوع إليه لبسه إذا علم أنه ليس بثوبه، وعليه ردُّه إلى القصار ويطالبه بثوبه. 
  • فإن لم يعلم القابض حتى قطَّعه ولبسه، ثم علِم ردّه مقطوعًا وضمن أرش القطع، وله مطالبته بثوبه. 

وهكذا نجد في تفريع المسائل في الشَّرع المصون احتواءً للحالات التي تحصُل بين النَّاس، ودفعًا للخصام وللنزاع، والدلالات والنصوص التي اجتهد فيها الأئمة خرجت بأقوال صحيحة ثابتة، بأيّها حَكَمَ الحاكم كان في عدل وفي صلاح للعباد والبلاد. 

 

باب القَضَاءِ فِي الْحَمَالَةِ وَالْحَوْلِ

 

ثم ذكر: "الْحَمَالَةِ وَالْحَوْلِ"، فالحَمالة؛ ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة أو نحوها. أراد المصنف بقوله في "باب الْقَضَاءِ فِي الْحَمَالَةِ" ؛ يعني الكفالة. 

ويقول سيِّدنا مالك: "الأَمْرُ عِنْدَنَا"؛ يعني: في المدينة المُنوَّرة "فِي الرَّجُلِ يُحِيلُ الرَّجُلَ عَلَى الرَّجُلِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ"؛ له دين وعليه ديْن لواحد، فجاء الذي عليه دين يطالبه بدينه فحوّله لآخر، للمحوِّل دَيْنٌ على ذلك الآخر. قال: "فِي الرَّجُلِ" مثلًا زيد "يُحِيلُ الرَّجُلَ" عمرو "عَلَى الرَّجُلِ"؛ أي: على بكر، "بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ إِنْ أَفْلَسَ"؛ أي: صار مفلسًا "الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ" وهو بكر في هذا المثال. "أَوْ مَاتَ، فَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً"، لديْن عمرو هذا "فَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الَّذِي أَحَالَهُ"؛ أي: على زيد  "شَيْءٌ"، كيف؟ قال: "وَأَنَّهُ"؛ يعني: عمرو "لاَ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ الأَوَّلِ"؛ أي: على زيد بشيء؛ لأنه قد أحاله على بكر وقد قبله. 

وقال مالك: "وَهَذَا" الذي ذكرته "الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا"؛ يعني: في المدينة المُنوَّرة عند عُلمائها والفُقهاء السبعة من كانوا في وقت الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. 

فإذًا؛ عقد الحوالة عقد لازم، يقتضي إبراء ذمة المُحيل. المُحيل تبرأ ذمته من دين المُحال، فما طرأ بعد ذلك على ذمة المُحال عليه من تلف بموته أو أي شيء حصل له؛ فلا رجوع للمُحال بذلك على المُحيل، وللأئمة اختلاف في ذلك. وفي الحديث كما تقدَّم معنا، "مطل الغني ظلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فليتبع". ومذهب الشَّافعي كما قال الإمام مالك في هذه المسألة، لا يرجع المُحتال على المُحيل.

"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ يَتَحَمَّلُ لَهُ الرَّجُلُ"؛ يعني: يتكفل له، "بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ يَهْلِكُ الْمُتَحَمِّلُ أَوْ يُفْلِسُ، فَإِنَّ الَّذِي تُحُمِّلَ لَهُ يَرْجِعُ عَلَى غَرِيمِهِ الأَوَّلِ"؛ لأن الحميل إنما وثيقة من حقه على من هو عليه، وإذا أفلس رجع إلى الأصل. 

إذا قال له: أنا لك ضامن أو كفيل أو حميل أو زعيم بأي معنى، بأي لفظ يدل على هذا المعنى، أو هو لك عندي أو عليَّ أو قِبلي؛ إذًا فهذا ضمان. قال مُنادي سيِّدنا يوسف: (وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف:72]؛ يعني: ضامن.

فينضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعًا؛ ما ينتقل مثل الحوالة. 

  • الحوالة: ينتقل منها الحق من ذمة المُحيل إلى ذمة المُحال عليه. 
  • لكن في الضمان لا، يبقى على هذا وهذا كلاهما ضامن، الضامن والمضمون له، كلاهما ضامن، ولا بُد أن يؤديا الحق، فلصاحب الحق مطالبة من شاء منهما، يطالب هذا ويطالب هذا حتى يقضى عليه الدّين. 

فهكذا و الزعيم غارم في الحديث: "الزعيم غارم"؛ يعني: الذي ضمِن عليه أن يغرم، فما يبرأ المضمون عنه بنفس الضمان مثل ما قلنا في المحيل يبرأ بنفس الحوالة، وإن كان قبل أن يقبض ذاك بل يثبُت الحق في ذمة الضامن مع بقائه في ذمة المضمون عنه، فيطالب من شاء منهما، وعليه عامة أهل العلم.

رزقنا الله الاقتداء والاهتداء واتباع نبي الهدى، وجنبنا الزيغ فيما خفي وفيما بدى، وجعلنا بقرب الحبيب الأعظم واتّباعه من أسعد السُّعداء هنا وغدا، وفرّج كروب أمته ووقاهم شر العِداء، وحوّل حالهم إلى أحسن الأحوال بمحض الفضل والجود والكرم والإحسان والندى، في خيرٍ ولطفٍ وعافية، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

15 مُحرَّم 1444

تاريخ النشر الميلادي

13 أغسطس 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام