شرح الموطأ - 398 - كتاب الأقضِيَة: باب القضاء في قَسْمِ الأموال، وباب القضاء في الضوَارِي والحَرِيسَة

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الْقَضَاءِ فِي قَسْمِ الأَمْوَالِ، وباب الْقَضَاءِ فِي الْضَوَارِي وَالْحَرِيسَةِ.
فجر الأحد 25 ذي الحجة 1443هـ.
باب الْقَضَاءِ فِي قَسْمِ الأَمْوَالِ
2188 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ قُسِمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَدْرَكَهَا الإِسْلاَمُ، وَلَمْ تُقْسَمْ فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الإِسْلاَمِ".
2189 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِيمَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ أَمْوَالاً بِالْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ، إِنَّ الْبَعْلَ لاَ يُقْسَمُ مَعَ النَّضْحِ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَهْلُهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّ الْبَعْلَ يُقْسَمُ مَعَ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ يُشْبِهُهَا، وَأَنَّ الأَمْوَالَ إِذَا كَانَتْ بِأَرْضٍ وَاحِدَةٍ، الَّذِي بَيْنَهُمَا مُتَقَارِبٌ، أَنَّهُ يُقَامُ كُلُّ مَالٍ مِنْهَا، ثُمَّ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ وَالْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
باب الْقَضَاءِ فِي الْضَوَارِي وَالْحَرِيسَةِ
2190 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ: أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا.
2191 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّ رَقِيقاً لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَانْتَحَرُوهَا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَمَرَ عُمَرُ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: أَرَاكَ تُجِيعُهُمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ : وَاللَّهِ لأُغَرِّمَنَّكَ غُرْماً يَشُقُّ عَلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ: لِلْمُزَنِيِّ كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ ؟ فَقَالَ الْمُزَنِيُّ: قَدْ كُنْتُ وَاللَّهِ أَمْنَعُهَا مِنْ أَرْبَعِ مِئَةِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطِهِ ثَمَانَ مِئَةِ دِرْهَمٍ.
2192 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: وَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَنَا فِي تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ، وَلَكِنْ مَضَى أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَنَا، عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَغْرَمُ الرَّجُلُ قِيمَةَ الْبَعِيرِ أَوِ الدَّابَّةِ يَوْمَ يَأْخُذُهَا.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفوته، سيدِنا محمد بن عبد الله صلى الله وسلم وباركَ وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرةِ الرحمن تعالى من جميع بريّته، وعلى آلِهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ويذكر الإمام مالكٌ عليه رحمة الله في هذا الباب: "قَسْمِ الأَمْوَالِ". وذكر الحديثَ فيما بلغه عن رسول الله ﷺ قَالَ: "أَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ قُسِمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ" على ما يعتادون قسْمها وقبل ظهور الإسلام، وتقاسموا بينهم أموالَهم وديارهم وأراضيهم، "فَهِيَ" على ما قُسمت "عَلَى قَسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ"؛ يعني: كلُّ من تحت يده شيءٌ فهو له إذا أسلم، وهو له إذا جاء حكم الإسلام إلى تلك البلدة، بحسب ما قُسِم سابقًا.
وذلك أن نقض القسمة فيما مضى، يؤدي إلى إشكالاتٍ كثيرة، وإلى مخاصماتٍ كبيرة، فأُبقيَ الأمر على ما هو عليه، ولكن من بعد مجيء الإسلام، ومن بعد إسلام المسلم منهم، يجب أن يحتكمَ في الميراث وغيره إلى القسمة الشرعية، التي بُعث بها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"أَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ"؛ يعني: كل مقسومٍ، "قُسِمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ" ما قبل بعثته ﷺ، "فَهِيَ"؛ يعني: القسمة باقية "عَلَى قَسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ" على ما تمت قسمته، وهكذا لما بُعث ﷺ وكان تحت أيدي الكثير منهم أموال أُخذت على غير وجهها في الشرع المصون، فأبقى كلُّ من تحت يده شيء على ما هو عليه، ثم من بعد الإسلام لا تصحُ المعاملة إلا بما أقرّته الشريعة المطهرة.
وكذلك يفعل الإمام المهدي إذا جاء، والناس قد كانوا يتعاملون بالربا وبغيره، فإذا جاء وأقام حكمَ الله؛ كلُ من تحت يده شيءٌ أبقاه على ما هو عليه، ما لم تكن هناك واضحاتٌ من المسائل في بيناتٌ تقوم على ملك الغير، ما عدا ذلك، فكلُ من تحت يده شيءٌ فيبقيه على ما هو عليه، ويستأنفُ العمل من جديد، بأن لا يُؤخذَ ولا يُعطى إلا بقانون الشرع المصون.
هذا في حق من وقعوا في الورطات ومخالفات الشرع، قبل بعثته وقبل مجيئه. وأما الطوائف الذين مضوا على تقوى الله -تبارك وتعالى- فهم الأصفياء والأتقياء من قبل ما يجيء الإمامُ المهدي وغيره، لا يرضون بشيءٍ يخالف الشرع أصلاً، فهم الأطهار الأتقياء الذين هم وَزَرُ الإمام وسنده، في القيام بأمر الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
"وَأَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَدْرَكَهَا الإِسْلاَمُ، وَلَمْ تُقْسَمْ فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الإِسْلاَمِ."؛ يعني: ما كان من مال أهل الجاهلية، مشتَركًا بين طائفة ومجموعة منهم، فدخل عليهم الإسلام، "وَلَمْ تُقْسَمْ فَهِيَ" على حكم الإسلام، لا عبرة بما كانوا يعتقدون، ولا بالأمر الشائع بينهم، والعادة المتبعة لديهم، بل يُقسم بحكم الإسلام.
فمن أسلم قبل قسم ميراثه من موروثه، إذا كان الموروث مسلماً وبعض ورثته كافرٌ، ولكن أسلم قبل قسمة الميراث:
- فهي عند الإمام أحمد: ما دام المال لم يُقسَم، يدخل الآن هذا في الورثة ويُقسم له بنصيبه، وإن كان وقت الموت هو على غير الإسلام، ترغيبًا له في الإسلام.
- ولكن قال عامة الفقهاء -كالأئمة الثلاثة ومن سواهم-: إذا حصل الموت وهو على غير الملة، فلا يُقسَم له في التركة، وإن أسلم بعد ذلك، إلا أن يعطيَه الورثة من عندهم شيئًا يهبونه من مالهم شيئًا، وهذا قول الجمهور.
وقال الإمام أحمد: ما دام أسلم قبل أن تُقسم التركة فهو داخلٌ فيهم وهو وارثٌ، وإن كان وقت موت مورِّثه غيرَ مسلم.
"يَقُولُ فِيمَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ أَمْوَالاً بِالْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ"؛ جهتين في المدينة المنورة، العالية والسافلة، وتُجمع على العوالي، "إِنَّ الْبَعْلَ"؛ يعني: الشجر الذي يشرب بعروقه من غير سقي، هذا البعل "لاَ يُقْسَمُ مَعَ النَّضْحِ"؛ أي: التي تُسقى بالماء الذي يحمله الناضح؛ وهو: البعير؛ يعني: الذي يقوم بنزح الماء من البئر، فقد جعل الإمام مالكٌ النضحَ والبعل، جنسين لا يجتمعان في القسمة، "إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَهْلُهُ بِذَلِكَ"، إلا برضا أهله، فيُقسم بينهما بالقرعة.
"وَإِنَّ الْبَعْلَ"؛ يعني: الذي يشرب من الأرض من دون سقي، "يُقْسَمُ مَعَ الْعَيْنِ،"؛ أي: بالأراضي التي تسقى من العين من غير نضحٍ، "إِذَا كَانَ يُشْبِهُهَا" يشبه الأرض المسقاة بالعين، لأن:
- البعل والأرض المسقاة بالعين، مما يُزكَّى بالعُشر.
- والنضح الزكاةُ في ثمره نصف العشر.
"وَأَنَّ الأَمْوَالَ"؛ يعني: البساتين والأشجار، "إِذَا كَانَتْ بِأَرْضٍ وَاحِدَةٍ، الَّذِي بَيْنَهُمَا"، بين النصيبين مع اختلاف الأشجار، "مُتَقَارِبٌ، أَنَّهُ يُقَامُ كُلُّ مَالٍ مِنْهَا"؛ يعني: يُقوّم المجموع، "ثُمَّ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ وَالْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ"، بمنزلة الأموال.
إذًا؛ فاختلاف الدِّينين مانعٌ من موانع الإرث، لقوله ﷺ: "لا يرثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلم" في رواية الإمام أحمد والبخاري ومسلم. وجاء في روايةٍ أخرى عنه ﷺ: "لا يتوارثُ أهلُ ملّتين شتَّى"؛ يعني: مختلفة، في رواية أبي داود وابن ماجة وأحمد.
- ثم إن الذي عليه الشافعية: أن الكفرَ كله ملةٌ واحدة؛ بمعنى إذا احتكم إلينا أهلُ أديانٍ متعددة من غير الإسلام، نقسم التركة بينهم البين وإن اختلفت مللَهم، فإن الكفر كلَه ملةٌ واحدة، والإسلامُ هو ملة الحق، وجميع ما عدا الإسلام ملة كفر وملة باطل، في أي نوعٍ من أنواع الكفر.
- وقال الإمام أحمد بن حنبل: بل الكفر مللٌ شتى، فأهل كل ملة يتوارثون بينهم البين؛ يعني: إذا احتكموا إلينا.
- وقال أبو حنيفة: الإسلام ملة، واليهودية ملة، والنصرانية ملة، وما عدا ذلك ملة؛ بقية الكفر ملة.
إذًا؛ فإذا كان بين مشتركين داران أو خانان أو أكثر، طلب أحدهما أن يجمع نصيبه في إحدى الدارين أو أحد الخانين، ويجعل الباقي نصيبًا، يقول: لهم ذلك بالرضا، ولا يُجبَر الممتنع، كما هو عند الإمام أحمد والإمام الشافعي عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. وأصحاب أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد يقولون: إذا رأى الحاكم ذلك فله فعلُه، لأنه أنفعُ وأعدل. وهذا ما ذكره فيما يتعلق بقسم الأموال.
باب القَضَاءِ فِي الضَوَارِي وَالحَرِيسَةِ
ثم ذكر ما يتعلق "بالْضَوَارِي وَالْحَرِيسَةِ".
- "الْضَوَارِي" وتسمى أيضاً العوادي: ما ضَريت أكل زروع الناس من البهائم، تـسمى الضواري التي اعتادت أن تأكلَ من الزروع.
- "وَالْحَرِيسَةِ": الماشية المحروسة في المرعى ما تنطلق ولا تأكل زرع أحد.
فما كان من الإبل والبقر ونحوها التي تعدو في زروع الناس، ضريت ذلك؛ يعني: صارت عادةً لها، ما كان من هذه الدواب، فينبغي أن تُبعَد عن مكان مزارع الناس. وقال: وينبغي أن تُباع في مثل بلدٍ لا زرع فيها، إلا أن يحبسَها أهلها عن الناس، فهذه الضواري التي اعتادت ذلك، يجب صون حقوق الخلق، لأن الشريعةَ قائمة على القاعدة: "لا ضَررَ ولا ضِرار".
ذكر لنا: "أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ" أنصاري صحابي رضي الله عنه، "دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ" من الأنصار، "فَأَفْسَدَتْ فِيهِ"، فكُلِّم الرسول ﷺ في ذلك، "فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؛ يعني: حكم رسول الله ﷺ "أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ" يعني البساتين"حِفْظَهَا،"أي البساتين "بِالنَّهَارِ،" فينبغي أن يكون لهم يقظةً وحراسة في أثناء النهار، حتى يصُدوا عنها ما يأتي من البهائم وغيرِها، يعني فما كان من أخذ البهائم في أثناء النهار، لا ضمان على أهل المواشي، لكن إذا كان معها راعي وهو قادر على دفعها يكون ضامن، وأما إذا هي تمشي وحدها، وجاءت وأكلت في النهار، فالواجب على صاحب البستان أن يحرس بستانه، وهذه جاءت من دون راعٍ وأكلت، وهي بهيمةٌ ما تعرف الانزجار عن هذا ولا عن ذاك.
"وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ" فمضمونٌ على أهل تلك المواشي؛ لأن الناس بالليل يحرسون مواشيهم ويقفلون عليها، وهذا ترك المواشي في الليل والناس نيام تروح تأكل زروعهم وتأكل أشجارهم، ثم يصبح يقول ليس أنا إنما هي وهي بهيمة.. وهل أنت بهيمة! امسك بهيمتك في الليل، فغاية أصحاب المزارع والبساتين يحمون مزارعَهم وبساتينهم في أثناء النهار. وأما في الليل فسينامون، أم تريدهم بسبب بهيمتك يتركون ترتيبهم ونومهم! واجب عليك أن تمسك وتكف بهيمتك.
"فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ"؛ يعني: فما أُخِذ بالنهار من هذه الأنعام، لا ضمان فيها على أهل الأنعام، ولكن:
- إن كان معها راعي وكان يستطيع وتركها وأهملها، فهذا الراعي يضمن لأنه مقصر.
- وإن لم يكن معها راعياً فهي بنفسها في النهار لا يضمن أصحابُها.
- ولكن "مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ" يعني مضمونٌ "عَلَى أَهْلِهَا."
وهكذا قال الإمام مالك والشافعي والإمام أحمد بن حنبل: ما أفسدت من الزرع والشجر ليلاً يُضمن صاحب الماشية، ولا يضمن ما أفسدت ذلك نهارًا، إذا لم يكن معها يد؛ راعٍ يرعاها، هكذا قال عامة الفقهاء.
- وجاء عن الإمام أبي حنيفة: أنه لا ضمان على صاحب الماشية، ولم يفرّق بين الليل والنهار، وأخذ بعموم قوله: "العَجماءُ جُرحُها جُبار".
- لكن قال الجمهور كما ورد في الحديث؛ التفريق بين الليل والنهار:
- فما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير لا ضمانَ على أهلها.
- وما أفسدت في الليل ضمنه مالكُها، باعتبار عادة الناس، من خالف العادة يكون خارج عن رسوم الحفظ.
- لكن إذا كان مالك الدابة أو راعيها معها وتركها، وهو قادرٌ على منعها، فإنه يضمن ليلاً أو نهاراً.
عرفنا أن هذا مذهب الأئمة الثلاثة، وأن الإمام أبا حنيفة يقول: العَجماء جُبار لا ضمانَ عليها؛ فمالكها لا يضمن شيئا ً.
وذكر لنا: أَنَّ "رَقِيقاً لِحَاطِبٍ"؛ يعني: مماليك له، مملوكين أرقاء، "سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ"، قبيلة معروفة من قبائل العرب، "فَانْتَحَرُوهَا"؛ يعني: نحروها وأعدّوها للأكل، "فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"، أن هؤلاء صدر منهم كذا وكذا، واعتدوا على هذه الناقة وعملوا بها، "فَأَمَرَ عُمَرُ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ"؛ لأنهم سرقوها من حرزها، ما سرقوها من المرعى، ثم أرسل وراءه بعد أن ذهب بهم، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه- لحاطب: "أَرَاكَ" أظنّك "تُجِيعُهُمْ؟"؛ أي: الأرقاء حقك ما تعطيهم أكل كافٍ وتتركهم يجوعون ويفقدون اللحم أوقات طويلة، فيسرقون حق الناس! أنت السبب فيه… فيعاتبه سيدُنا عمر على صدور ذلك من غلمانه وأرقائه، "أَرَاكَ تُجِيعُهُمْ؟".
وجاء في رواية أنه يقول: والله لولا أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو أن أحدهم وجد ما حرّم الله عليه فأكله حَلَّ له لقطعت أيديهم. وفي لفظ قال: لولا أني أظن أنكم تجيعونهم حتى أن أحدهم أتى ما حرم الله عليه، لقطعت أيديهم، ولكن والله لأن تركتَهم، لأغرمنّك فيهم غرامةً توجعُك. يقول سيدنا عمر لحاطب: "وَاللَّهِ لأُغَرِّمَنَّكَ غُرْماً يَشُقُّ عَلَيْكَ." بسبب إهمالك لهؤلاء، وتركك لهم، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه. "ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ"؟ التي أخذوها عليك؟ "فَقَالَ الْمُزَنِيُّ: قَدْ كُنْتُ وَاللَّهِ أَمْنَعُهَا مِنْ أَرْبَعِ مِئَةِ دِرْهَمٍ"؛ يعني: أقل ما يكون من قيمتها، ما كنت أرضى أبيعها بأربعمائة درهم، "فَقَالَ -سيدنا- عُمَرُ" لحاطب: "أَعْطِهِ ثَمَانَ مِئَةِ دِرْهَمٍ."، سلّمها يا مهملَ رعاياه وغلمانه، حتى يأخذون أموال الناس، سلّمه ثمانمائة حتى تنتبه لغلمانك لا يأخذون حق أحد.
"قال مالك وَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَنَا"، فكأنه "فِي تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ،" محاسبة له من سيدنا عمر وتعزير له على إهماله لهؤلاء، "وَلَكِنْ مَضَى أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَنَا، عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَغْرَمُ الرَّجُلُ قِيمَةَ الْبَعِيرِ أَوِ الدَّابَّةِ يَوْمَ يَأْخُذُهَا."
فالله يجنّبنا الآفات، ويثبّتنا على ما يحب في المقاصد والنيّات والأقوال والأفعال والحركات والسكنات، ويعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وينفعنا بالشرع المصون وحُسن العمل به في الظهور والبطون، ويدفع البلاء عنا وعن المؤمنين ويختم لنا بالحسنى واليقين، بسِر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
03 مُحرَّم 1444