شرح الموطأ - 392 - كتاب الأقضِيَة: تتمة باب القضاء فيمن ارتدَّ عن الإِسلام

شرح الموطأ - 392 - كتاب الأقْضِيَة: باب الْقَضَاءِ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلاَمِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، تتمة باب الْقَضَاءِ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلاَمِ.

فجر السبت 17 ذي الحجة 1443هـ.

تتمة باب الْقَضَاءِ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلاَمِ

2161 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ هو أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ".

2162 - وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ". أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ، مِثْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَإِنَّ أُولَئِكَ إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قُتِلُوا، وَلَمْ يُسْتَتَابُوا: لأَنَّهُ لاَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الإِسْلاَمَ، فَلاَ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلاَءِ، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ قُتِلَ، وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْماً كَانُوا عَلَى ذَلِكَ، رَأَيْتُ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى الإِسْلاَمِ وَيُسْتَتَابُوا، فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا، وَلَمْ يُعْنَ بِذَلِكَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، وَلاَ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَلاَ مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي عُنِيَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2163 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ فَقَالَ نَعَمْ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ. قَالَ: فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ؟ قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلاَ حَبَسْتُمُوهُ ثَلاَثاً، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفاً، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ، وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بنعمة دين الحق الإسلام، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على من جعله الله سبحانه وتعالى للنبوة ختام، عبدَه المصطفى خير الأنام، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى من والاهم في الله وقام بالاقتداء بهم والائتمام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المزايا العظام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

ويذكر الإمام مالكٌ -عليه رحمة الله تعالى- الحُكمَ فيمن بدّل نعمة الله كفرا، ممن أُكرِم بنعمة الإسلام أعلى النِّعم، ثم خرج عن الإسلام -والعياذ بالله تبارك وتعالى- 

  • باعتقادٍ. 
  • أو قولٍ. 
  • أو فعلٍ. 
  • أو عزمٍ.

فهذه الأشياء تحصل بها الردّةُ وقطعُ الإسلام، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وهو أخبثُ أنواع الكفر: الردّة بعد الإسلام. (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) [البقرة:217].

وهذه الردة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- بالخروج عن دين الحق الذي ارتضاه الله -تبارك وتعالى- بعد الإيمان به، يُشار إليه بقوله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:86].

ويترتبُ على التظاهر بذلك والتجاهر، فسحُ المجال للتلاعب بالدين، وأن يُهيِّج إبليس والنفس أحدًا من المسلمين على أن يرتد، كما تظاهَر ذلك المرتدُ وخرج ولم يُعاقَب على ذلك، أو لم يُقَم عليه حدٌ.

  • فما كان من فتح باب فسادٍ للناس 
  • أو كان فيه التأليبُ والتجميعُ لمحاربة الإسلام 

فهذا أمرٌ مجمعٌ عليه ومتفق أنه يجب فيه إقامة الحد على ذلك. ومع ذلك فقد قال الصحابة ومن بعدهم: يُستتاب أولاً، فإن تاب قُبل منه الرجوع إلى الإسلام. والاستتابة هل مرةٌ واحدة في ساعة واحدة؟ أم تستمر إلى أيام؟ 

  • كما سمعنا في كلام سيدنا عمر إلى ثلاثة أيام.
  • قال بعضهم: إلى شهر. 

وأخَّر سيدُنا أبو موسى الأشعري اليهوديَ الذي أسلم ثم ارتدّ، -والعياذ بالله تعالى-، عنده يَعرضُ عليه الإسلام، ويحاول أن ينقذَه من النار بالرجوع إلى الإسلام، حتى مضى شهران، وجاء يزوره أخوه في الله، سيدُنا معاذ بن جبل، فأخبره عنه، قال: لا أنزل عندك حتى يُقتَل، إذا شهرين مضت وهو لا يرضى، لأنه يفتح على الناس باب جراءةٍ على دين الله تبارك وتعالى، فأمَر به فقُتل.

أورد لنا الإمام مالكٌ أحاديثاً وآثاراً في هذا المضمار وهذا الأمر. فالجمهور كما أسلفنا ومن أصحابهم ومَن  بعدهم على أنه يستتاب أولاً.

فعُرف من سنته ﷺ، وبقيةِ الأدلة، مع أن ظاهر هذا الحديث ما ذكر فيه شيءٌ من الاستتابة، في قوله:  "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ"، وفي اللفظ المشهور: "من بدّل دينه"؛ أي: من انتقل من دين الإسلام إلى الكفر، "فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ". وليس فيه من بدّل دينًا غير الإسلام بدينٍ غير الإسلام، هذا ليس فيه شيء ولا يدخل في هذا؛ لأن الكفر كله ملةٌ واحدة، وإنما حقٌ وباطلٌ فقط، إيمانٌ وكُفر، فمن بدّل دينه، أي دين الحق وهو الإسلام، وانتقل عنه إلى أي ملةٍ أخرى، تناقضُ ملة الإسلام، فعُلم بذلك هذا الحكم.

  • وعلمنا قول الجمهور أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل بعد ذلك.
  • وبهذا قال الإمام النووي -عليه رحمة الله-: أجمعوا على قتله واختلفوا في استتابته؛ فقال الأئمة الأربعة والجمهور: أنه يُستتاب، ونُقل إجماعُ الصحابة على ذلك.
  • وهكذا مال الحنابلة إلى استتابته ثلاثًا، كما قال سيدنا عمر عليه رضوان الله. 

وقد جاء في روايةٍ عن سيدنا عمر، أنه لما بلغه عمن ارتدوا فأُقيم عليهم الحدُ فقتلوا، كان يسأل عنهم بعض الذين وفدوا من الجهة التي كانوا فيها، فلما سألهم قالوا أنهم قتلوا، قال: اللهم  إني لم أحضر ولم أشهد ولم آمر، وقال: وددتُ أنني دعوتُهم إلى أن يرجعوا إلى الباب الذي خرجوا منه، فإن قبلوا، وإلا أودعتُهم السجن. قالوا المراد به: أن يودعَهم في السجن أيامًا يعرض عليهم الإسلام، فإن تابوا ورجعوا، وإلا أقام الحدَ فيهم، حتى لا يُتخذَ دينُ الله هزوًا ولعبًا. 

وجاء في حديثٍ آخر الاستشهاد بالتوبة، وذكر هنا أثرًا عن سيدنا عمر، "قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟"،

 "قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ،وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي"، فما تبرأ من ذلك إلا لأن الاستتابة عنده واجبة، وأبو موسى كما أسلفنا استتاب ذلك المرتد شهرين، كما جاء في رواية أبي داود وغيره.

فإذا قلنا الاستتابة واجبةٌ كما قال الجمهور، قيل:

  • في الحال يـُعرض عليه الإسلام، فإن تاب وإلا قُتل.
  • وقيل ثلاثة أيام كما جاء عن سيدنا عمر، وهو مذهب الإمام مالك والإمام أحمد أيضًا، ،كما يُروى عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه.
  •  ومن العجيب قولُ النخعي أنه يستتاب أبدًا؛ بمعنى أنه يُؤخَر ولو مدّةً في السجن حتى يتوب، ولكن في هذا القول شذّ عن مدلول الحديث، وما أجمع عليه غيره.

 وهكذا فقيل لابد في الاستتابة من ثلاث مرات: 

  • إما في يومٍ. 
  • أو في ثلاثة أيام. 
  • وقيل: من شهرٍ. 

وأخذ بعضُهم قول النخَعي وفسّره بتفسيرٍ يتفق مع الجماهير، وقال: معنى يُستتاب أبدًا؛ يعني: من تكررت منه الردّةُ، أول ما ارتد يستتاب، ثاني مرة ارتد؟ قال: يستتاب،  ثالث مرة ارتد؟ قال: يستتاب، هذا معنى قوله يستتاب أبدًا، أنه مهما ارتد ولو تكرر منه ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب قُبل منه.

  • وهكذا أجمعوا على قبول التوبة من مختلف الذنوب والمعاصي، حتى الردة أفحشِ أنواع الكفر -والعياذ بالله-، وأنواعِ الشرك بالله، أجمعوا على قبول التوبة منها. 
  • وما اختلفوا في قبول التوبة إلا توبة قاتل المسلم عمدًا،؛ من قتل مسلم عمدًا هذا الذي اختلفوا فيه، هل تُقبل توبته من ذلك أم لا؟ 

بخلاف بقية الذنوب كلها ولو أفحشِها، ولو الشرك بالله تبارك وتعالى -والعياذ بالله-، إذا تاب صاحبه قُبِل بالإجماع، ولو أفحش أنواع الكفر وهو الردّة، إذا تاب قُبل بالإجماع، ولم يُختلَف إلا في قاتل النفس عمدًا، لقوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93]، فانظر كيف صار الحال في خطر إزهاق النفوس بغير حق! لا إله إلا الله… 

قال تعالى: (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:5] وقال: (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ) [التوبة:11]. (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى:25].

يقول : "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ". "وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ"، أما واحد خرج من يهودية إلى نصرانية، ومن نصرانية إلى يهودية، ومن مجوسية إلى هندوسية، ما لنا دخل فيه، فهو في كفره، سواء كان مؤَمَّنًا أو معاهَدًا أو حربيًا، فهو هو على حاله نفسه، لا يتغير شيء فيه، من انتقاله من كفرٍ إلى كفر، فالكفرُ كله ملةٌ واحدة.

ويقول: تقع الردةُ من المسلم إذا كان بالغًا عاقلاً مختارًا، إما:

  • بأن يعتقد اعتقادًا باطلاً في الإسلام، مثلاً بأن يعتقد عدم وجود الآخرة، أو عدم وجود النار، أو يعتقد أن الله ثالث ثلاثة، إلى غير ذلك من الاعتقادات.
  • أو يقول قولاً باطلاً، (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) [المائدة:73]، أو يقول قولاً فيه استهزاءٌ بآيةٍ أو بحديثٍ أو بنبيٍ من الأنبياء ،أو بالشريعة أو بالدين، فالقول ذلك مكفرٌ له، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
  • كذلك في الأفعال، بأن يتعمَد رميَ المصحف الكريم، أو الدعسَ عليه، أو يتعمَّد إحراقه إلى غير ذلك، من أنواع الإهانة، فالاستهانة بآيةٍ من آيات الله كُفر -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
  • وكذلك العزمُ على الكفر مستقبلاً، يُحكََم على صاحبه بالكفر حالاً منجّزًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

وإقامة الحد هذا ليس إلا للإمام، كما عُلم في إقامة الحدود، الإمامُ ومن أنابه عنه، فإذا قُتل المرتدُ -والعياذ بالله-، فلا يُغسَّل ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين.

وقال ﷺ: "لا يَحلُ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة". كذلك المرتد عند جمهور الفقهاء، فلا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى. 

وقد جاء عن سيدنا جابر: أن امرأةً يقال لها أم رومان ارتدّت، فأمر ﷺ أن يُعرَض عليها الإسلام، فإن تابت وإلا قتلت. 

  • وقال الحنفية: المرتدة لا تُقتل، بل تُحبس حتى تتوب أو تموت، وذلك بقياسهم لها على الكافرة، التي لا تُقاتِل ولا تُحرِّض على القتال، فالنبي ﷺ نهى عن قتلها، فالمرأة التي ما باشرت القتال ولا تحرض عليه ما يجوز يقتلونها المسلمين إذا دخلوا في الحرب، ونساءُ الكفار معتزلات لا يحرضن على الحرب ولا يقاتلن، ممنوع نلمسهن؛ممنوع نقتلهن؛ لأنهن لم يقاتلن، فقاس على هذا الحنفية المرتدة، قال: والمرتدةُ كذلك إذا لم تكن مجمِّعة لحربٍ، ولا مؤلّبةً على الإسلام نترُكها.
  • قال الجمهور: يختلف هذا عن هذا، تلك لم تدخل الإسلام أصلاً، وهي على كفرها الأصلي، وهذه قد دخلت في دين الله تعالى، ثم رجعت عنه، فحُكمها حكمُ الرجل. 

إذًا؛ فقلنا أن الاستتابة:

  • واجبةٌ عند الجمهور. 
  • وفي رواية عند الإمام أحمد أنها مستحبة. 
  • وكذلك يستحب الإمهال إن طلب المرتد إمهالاً، فيُمهَل إلى ثلاثة أيام، ليراجعَ نفسه ويراجع حسابه، ليتبين له الحق.
  • وهكذا يقول الإمام مالك: تجب الاستتابة، ويُمهل ثلاثة أيام، وكذلك هو المشهور عند الحنابلة.

قال الحنفية: كيف توبة المرتد؟ قالوا توبة المرتد أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام، أو عن خصوص ما انتقل إليه بعد نطقه بالشهادتين، ولهذا نقول إذا نطق بالشهادتين، يقول الحنفية ولم يتبرأ من الدين الذي انتقل إليه، ما يَعتدُّون بقوله، لا بد أن يتبرأَ من الدين الذي انتقل إليه، أو من جميع الأديان غيرِ دين الإسلام، وتبرأنا من كل دينٍ يخالف دين الإسلام.

وقال الأئمة الثلاثة: إذا نطق بالشهادتين كفى ذلك. 

إلا هذا القول عند بعض الحنفية. ولكن أيضًا يقول الشافعية والحنابلة: إذا كان كفره بسبب إنكار أمر معلوم من الدين بالضرورة، أو جحد فرض معيّن، فيلزم مع الشهادتين والإقرار بهما أن يذكر هذا الأمر، فإذا كان ارتدّ بقوله أن رسول الله ﷺ بُعث للعرب وحدهم، هذه رِدّة، ويجب أن يرجع للإسلام، يقول :أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلى جميع الخلق، فيجب أن يقول هكذا، حتى يخرج من الردة التي انتقل إليها، فما يكفي أن ينطق بالشهادتين. 

وإذا كذلك كفر بإنكار فريضة الصلاة، وأنها ليست بواجبة، ارتد، قال برجع أريد أن أرجع كيف أعمل؟ قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقول: وأن الصلاة فرضٌ لازمٌ على كل من اجتمعت فيه شروط الوجوب من المسلمين، لا بد أن يُقرّ بالأمر الذي أَنكَره وكفر بسببه. 

قال: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ، مِثْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ"، فالزندقة تُطلق على الضيّق، والزنديق يضيّقَ على نفسه، أن لايؤمنُ بالآخرة والوحدانية. والزندقة عند جمهور الفقهاء: إظهارُ الإسلام وإبطان الكفر، ولكن هذا هو المشهور والمعروف بالنفاق في العصور الأولى، ولكن:

  • يقول بعضهم: هي عدم التديّن بدين. 
  • أو القول بأمرٍ مخالفٍ للدين، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-

فهكذامن تزندق أيضًا؛ الجمهورعلى أنه يُستتاب، أمثال الذين ينكرون الإيمان بالربوبية، أويتظاهر بالإسلام، ويصرُّ على أمرٍمخالف للدين، أو ينكر الفرائض عليه، أوأن ذلك مخصوصٌ بالمبتدئين، إلى غير ذلك من أنواع الزندقة.

 قال: "فَإِنَّ أُولَئِكَ"؛ يعني: الزنادقة وأشباههم "إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ"؛ يعني: غُلب عليهم "قُتِلُوا، وَلَمْ يُسْتَتَابُوا". يقول الإمام مالك: لأنه لا فائدة فيه؛ "لأَنَّهُ لاَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ،" قال ووجه ذلك: "أَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الإِسْلاَمَ، فَلاَ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلاَءِ،، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ"؛ أي: لا عبرة بتلفّظهم وبإظهار توبتهم، لما عُلمَ من زندقتهم.

  • وجاء أن سيدنا علي استتابهم. 
  • وهكذا يقول الإمام الشافعي: يستتاب الزنديق كما يُستتاب المرتد. 
  • وجاء عن الإمام أحمد وأبي حنيفة روايتان، في هذا الزنديق: 
    • رواية لا يستتاب، كما قال الإمام مالك.
    • والأخرى أنه إن تكرر منه لم تقبل توبته.

وبعضهم فصّل بين من يدعو إلى زندقته ويضرّ الناس، وبين من يقتصر الأمر في نفسه ولا يضر أحد.

قال: "وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ"؛ أي: ارتدّ جهرًا "إِلَى غَيْرِهِ"؛ إلى غير الإسلام، "وَأَظْهَرَ ذَلِكَ"؛ يعني: ارتداده "فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ". فعندهم ثلاثة أيام كما أسلفنا. "فَإِنْ تَابَ" قُبلت توبته، كما هو عند الأئمة الأربعة والجمهور، "وَإِلاَّ قُتِلَ، وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْماً كَانُوا عَلَى ذَلِكَ"؛ أي: على الارتداد "رَأَيْتُ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى الإِسْلاَمِ وَيُسْتَتَابُوا، فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ"، يعني: توبتهم، "وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا، وَلَمْ يُعْنَ بِذَلِكَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ" وفي لفظ: "لم يَعنِ"، يعني النبي ﷺ بذلك، "وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَنْ خَرَجَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ"؛ يعني: ما عنى إلا من خرج من الإسلام إلى غير الإسلام، أما من خرج من اليهودية إلى النصرانية "وَلاَ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ،" ليس المراد بقوله: "غَيَّرَ دِينَهُ" فالمراد: من خرج من دين الإسلام إلى الكفر.

 "وَلاَ مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ،" قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) لأآل عمران:19].  "فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ،" ارتداده،  "فَذَلِكَ الَّذِي عُنِيَ"؛ أو عنى ﷺ "بِهِ".

قال: "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ ،عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ : قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ" قيل اسمه: مجزأة بن ثور، "مِنْ قِبَلِ أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ"، استفسره سيدنا عمر عن الأخبار، "فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟"؛ أي: هل من حالة حاملةٍ لخبرٍ، من موضع بعيد؟ يعني أمر غريب ومحل نظر واهتمام؟.. "فَقَالَ" الرجل "نَعَمْ: قال: ماهو؟  فَقَالَ : رَجُلٌ كَفَرَبعد اسلامه" -والعياذ بالله- يعني: ارتد، "قَالَ: فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ ؟" قال له المخبر: "قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلاَ حَبَسْتُمُوهُ"؛ يعني: أدخلتموه الحبس، وأبقيتموه حتى يراجع أمره، لمدة "أَفَلاَ حَبَسْتُمُوهُ ثَلاَثاً، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفاً"، "واحدًا وسقيتموه كوزًا من ماءٍ" -في رواية-، يعني: ألا يوسَّع عليه في الحبس توسعةً، يكون فيها إحسانٌ إليه، ويعطى ما يبقى به حياته، حتى يُحسنَ مراجعةَ نفسه ويهتمَ بالأمر. "وَاسْتَتَبْتُمُوهُ"؛ طلبتم منه التوبة، "لَعَلَّهُ يَتُوبُ، وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ" قتله "وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ" بفعلهم "إِذْ بَلَغَنِي."؛ فكأنه أنكر عليهم عدم الاستتابة. 

نظر الله إلينا وثبّتنا على الإسلام والإيمان، وزادنا إسلامًا وإيمانًا في كل آن، ورفعنا إلى مراتب الإحسان، ورقّانا في مراقي العرفان، وأعاذنا من كيد النفس والهوى والشيطان، وحفِظ على أهل الإسلام إسلامهم ودينهم ومِلة الحق والهدى، وثبّتهم عليها حتى يموت كلٌّ منهم على التحقق بحقائقها في لطفٍ وعافية، ودفع الله عنا وعن الأمة شر الكفر والفجور والفسوق والعصيان، وجعلنا من الراشدين، وأن يحبّب إلينا الإيمان ويزيّنه في قلوبنا ويكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويثبتنا في خواص أهل الرشاد، الذين يرتقون إلى أعلى مراتب القُرب والوداد، وتُقطع بهم شأفةُ الفساد، ويصلحَ لنا وللأمة كل خافٍ وباد، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

20 ذو الحِجّة 1443

تاريخ النشر الميلادي

19 يوليو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام