(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الْقَضَاءِ فِي الْمُسْتَكَرَهَةِ مِنَ النِّسَاءِ، وباب الْقَضَاءِ فِي اسْتِهَلاَكِ الْحَيَوَانِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ.
فجر الأربعاء 7 ذي الحجة 1443هـ.
باب الْقَضَاءِ فِي الْمُسْتَكَرَهَةِ مِنَ النِّسَاءِ
2156 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَضَى فِي امْرَأَةٍ أُصِيبَتْ مُسْتَكْرَهَةً بِصَدَاقِهَا عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا.
2157 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَغْتَصِبُ الْمَرْأَةَ بِكْراً كَانَتْ أَوْ ثَيِّباً: إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَعَلَيْهِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَالْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُغْتَصِبِ، وَلاَ عُقُوبَةَ عَلَى الْمُغْتَصَبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُغْتَصِبُ عَبْداً، فَذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُسَلِّمَهُ.
باب الْقَضَاءِ فِي اسْتِهَلاَكِ الْحَيَوَانِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
2158 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنِ اسْتَهْلَكَ شَيْئاً مِنَ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ : أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ، لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْخَذَ بِمِثْلِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَهُ فِيمَا اسْتَهْلَكَ شَيْئاً مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ، الْقِيمَةُ أَعْدَلُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ.
2159 – قَالَ: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: مَن اسْتَهْلَكَ شَيْئاً مِنَ الطَّعَامِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ بِمَكِيلَتِهِ مِنْ صِنْفِهِ، وَإِنَّمَا الطَّعَامُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إِنَّمَا يَرُدُّ مِنَ الذَّهَبِ الذَّهَبَ وَمِنَ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ، وَلَيْسَ الْحَيَوَانُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ فِي ذَلِكَ، فَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ الْمَعْمُولُ بِهِ.
2160 - قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: إِذَا اسْتُودِعَ الرَّجُلُ مَالاً فَابْتَاعَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَرَبِحَ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الرِّبْحَ لَهُ، لأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ.
باب الْقَضَاءِ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلاَمِ
2161 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ".
2162 - وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ". أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ، مِثْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَإِنَّ أُولَئِكَ إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قُتِلُوا، وَلَمْ يُسْتَتَابُوا: لأَنَّهُ لاَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الإِسْلاَمَ، فَلاَ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلاَءِ، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ, وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ قُتِلَ، وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْماً كَانُوا عَلَى ذَلِكَ، رَأَيْتُ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى الإِسْلاَمِ وَيُسْتَتَابُوا، فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا، وَلَمْ يُعْنَ بِذَلِكَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، وَلاَ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَلاَ مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي عُنِيَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الحمدُ لله مُكرِمنا بشريعته، وبيانها على لسان عبده، وحبيبه، وصفوته خير بريته، سيدنا مُحمد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى اهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الله في خليقته، وعلى آله وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وتابع الإمام مَالِكْ -عليه رضوان الله تعالى- بيان الأحكام المتعلقة بالأَقضية في مسائل متعددة، فذكر في هذا الفصل الحكم في من استُكرهت من النساء على ما حرّم الله -جلَّ جلاله- واجتمعت شروط الإكراه بذلك، وأنه يسقط عنها بذلك الحد لوجود هذه الشُبهة، وأنَّ الحد يقوم على المستكرِه دون المكرهة، واختلفوا هل يتأتى الإكراه من قبل الرجل أو لا يتأتى الإكراه على ذلك. ثُمَّ إنه كذلك كان من الحكم في الإكراه أنَّ ما أُكره عليه الإنسان واجتمعت شروط الإكراه:
أنه يسقط عليه الإثم فيما أُكره عليه إلا خصلتين:
فهذا لا يُباح له بالإكراه بل يختار القتل، يقول: أقتل هذا أو أقتلك أنت، يقول: نفسي ونفسه سواء، لا أتحمل إثم قتل هذا وكيف أقتل واحد؟ إن ستقتلوني اقتلوني، أنا ما أقدر أقتل الغير لأنه نفس مثل نفسك لا يجوز لك أن تقول اقتلوه، أنتم اقتلوه، أما أنا لا أقتل واحد ما يستحق القتل، فلا يُباح القتل بالإكراه، ولا يباح الزنا بالإكراه، بخلاف بقية المعاصي والذنوب التي ستأتي، إذا أُكره عليه الإنسان ارتفع الإثم عليها في عموم قوله ﷺ: "إنَّ اللهَ تَجاوَزَ عن أُمَّتي الخَطَأَ، والنِّسْيانَ، وما اسْتُكرِهوا عليه".
وأما ما يتعلق بإقامة الحدود فإنها تُدرأ بالشُبهات كما علمنا، وكذلك يلزمه أيضًا الصَّداق للتي وطئها بغير حق.
وذكر في الباب الثاني: "الْقَضَاءِ فِي اسْتِهَلاَكِ الْحَيَوَانِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ"، من أتلف مال الغير أو اغتصب.. وهي الأمور العظيمة في الإسلام، وهي التي أكدها ﷺ في حجة الوداع، وذكر الدِّماء والأعراض والأموال، وقال: ألا إن دمائكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلغت يا رسول الله، قال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، قال: ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض.
يشير إلى أن أعدادًا من أُمته يستحلون ما حرّم الله ويقعون في الكفر، أو في موالاة الكفار حتى يقتل بعضهم البعض بغير حق، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض. وقد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وهكذا كل من استولى على حق الغير بغير حقٍّ، وقع في الإثم والمطالبة من الله تعالى بالحقوق التي لا يُسامح فيها حتى يُسامِح اربابها وأصحابها، سواءً أن كان ذلك بسرقةٍ او باختلاسٍ، او بنهبٍ وغصبٍ إلى غير ذلك. من من حلف يمينًا يستحل بها مال امرئٍ مسلمٍ بغير حق أدخله الله النار، وحرَّم عليه الجنة، قالوا: وإن كان ذلك المال يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ولو كان قضيبًا من أرَاك، ولو كان قضيبًا من أرَاك، ولو كان قضيبًا من أرَاك. صلَّى الله عليه وعلى اله وصحبهِ وسلَّم.
وهكذا تحدّث هنا عن الغصب في حيوان وطعام وما يلزم الغاصب، وما يجب عليه من التوبة، ومِن إِرداد الحقوق إلى أهلها. فمن استولى على مال غيره بغير حقٍ وغصب شيئًا منه لزمه ردّه بلا خلاف بعد ذلك، كما قال ﷺ: "على اليَدِ ما أَخذَتْ حتّى تُؤدِّيَه"، فإن تلِف فعليه أن يردَّ المثلية في المثل، والقيمة في المُتقوم، كما أشار إلى ذلك الإمام مَالِكْ عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
قال مَالِكْ: "الأَمْرُ" المُرجح "عِنْدَنَا فِيمَنِ اسْتَهْلَكَ شَيْئاً مِنَ الْحَيَوَانِ"؛ يعني: أخذ حيوان غيره فأتلفه، "بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ: أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ"؛ يعني: القيمة الواجبة في الأصل في قيمة السلعة في يوم الغصب، سواءً زادت بعد ذلك القيمة أو نقصت، فالعبرة فيما كان في يوم غصبه أو يوم إتلافه.
وكذلك يقول: لو كان أتلفها بعد أن ضعفت وتسبَّب ذلك في نقص ثمنها فإنه يلزمه قيمتها حين كانت زائدة، أما إذا كان القيمة اختلفت بسبب اختلاف الأسعار لم يضمن الزيادة، تضمن قيمتها يوم التلف.
قال: "لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْخَذَ بِمِثْلِهِ مِنَ الْحَيَوَان" فإن المثلية في الحيوانات لا تتفق، "وَلَكِنْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ"، لأن "الْقِيمَةُ أَعْدَلُ"، أعدَل للذي يجب "فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ.".
فالقيمة تجِب عند إتلاف الحيوان حق الغير، إذًا، إذا أتلف حيوانًا على الغير وجبت عليه القيمة باتفاق الأئمة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
"قَال: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: مَن اسْتَهْلَكَ شَيْئاً مِنَ الطَّعَامِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ بِمَكِيلَتِهِ" ذلك ما كان من مكيلٍ أو موزونٍ، وقال: "وَإِنَّمَا الطَّعَامُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ" ويرجع إليه بالمثل، فَالذهب والفضة يجب إرجاع مثلهما إذا أتلَفهما بالاتفاق.
قال الإمام مَالِكْ: وكذلك هذا الطعام، المكِيل والموزون هو مثله مثل الدينار والدرهم، مثل الذهب والفضة يُرجع إليه المثل، لذا يجب على من أتلف شيء أن يرد مثله.
وهكذا قال الإمام الشَّعراني -عليه رحمة الله-: جاءني رجلٌ في الليل يدق عليّ، ما جاء بكم في هذه الساعة؟ قال: مصيبة وقع فيها خلِّصني منها، ماذا عندك؟ قال: مررت على زرع آل فلان وأخذت سبولة من زرعهم، ففحكتها وأكلت حبًّا فيها ثُمَّ مضيت، فنمت البارحة فرأيت القيامة قامت وإذا بمنادي ينادي هذا ظالمي، هذا آخذ حقي، خذوا لي حقي، فالتفت أنا لا أعرف هذا، وما بيني وبينه معاملة، ولا ظلمته في شيء! فقال: البارحة مرّ في زرعي فأخذ منه سبولة! قال: قلت له إنني رددتها بعد ما فحكتها وتذكرت أنها حرام رددتها في أرضه، في تربته ما تناولت منها شيء، قال يا رب طيّر عليّ التبن الذي فيها، وبدأوا سيحكمون فانتبهت من النوم جئتك الآن ما جاءني النوم.. والآن آخر الليل والنَّاس نيام، اقعد نستغفر الله ونتوب إليه، ثُمَّ أول ما يقوم النَّاس بعد صلاة الفجر، نروح أنا وإياك عند صاحب المزرعة، وهذا الذي رأيته نُخلِّصك قبل أن يأتي القصاص في القيامة.. جلس وهو منزعج في حاله حتى صلَّى وأخذه إلى بيت الرجل وخرج لهم، قال الشيخ يجيء لهذا.. هذا أمر بسيط ويسير!.. لا رأيت الحكم في القيامة ستقول أريده..أحسب كم تأتي بالربح هذه؟ ويمكن أنك تأخذها وتزرعها ثاني مرة كم تجيب زرع؟ قام يُقدِّر تقديرات حتى قدَّر كذا كذا صاع من هذه السبولة ومسامحة في التبن الذي خرج حقها، وخُذ، أعطاه حقه، قال: مسامحك! قال: ما يطمئن قلبي حتى تأخذه، فأخذ منه الطعام وراح الرجل.. قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47] .لا إله إلا الله!..
قال: "وَلَيْسَ الْحَيَوَانُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ" بخلاف الطعام "فَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ الْمَعْمُولُ بِهِ"؛ يعني: الأحاديث الدالة على الفرق بينها، ففي الحديث الحِنطة بالحِنطة مثلًا بمثل سواء بسواء، والبِر بالبِر سواءً بسواء، لكن في الحيوان ما يتأتى.
قال: والعمل المعمول به في عُرف أهل العلم، وهكذا اتفق الأئمة على أنه يجب المِثل في الطعام، ويجب القيمة في الحيوان، إذا أتلف الطعام فعليه بمثله، ومعلوم أن هذا المثل إذا لم يكن مطبوخًا؛ أما إذا كان مطبوخًا يختلف ليس أمامه إلا القيمة، فإذا كان طعام متساوي قبل ما يطبخ فعليه أن يأتي بمثله.
قال مَالِكْ: "إِذَا اسْتُودِعَ الرَّجُلُ مَالاً فَابْتَاعَ بِهِ" اشترى زيد بهذا المال متاع "لِنَفْسِهِ" ثُمَّ باعه "وَرَبِحَ فِيهِ"، فإن ذلك الربح له؛ للمالِك الأول؛ لأنه إذا استودع زيد مالًا لعمر، قام "فَابْتَاعَ بِهِ" اشترى زيد بهذا المال متاع لنفسه "وَرَبِحَ فِيهِ" فإن الربح التالي كلٌه يكون له وهو ضامن للمال؛ "لأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ"؛ أي: يوفّيه إلى مالِكه، فمَذهب مَالِكْ أن ربح الوديعة للمُودَع به، قال بعض التابعين.
وهذا وجبه الإمام مَالِكْ، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
ثُمَّ أخذ يتكلم عن أقبح أنواع الكفر، أقبح أنواع الكفر، الرِّدة؛ أن يرتد بعد الإسلام -والعياذ بالله تعالى- قال تعالى: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:217]. وقال: (وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:5].
أعاذنا الله تعالى من الكفر كله، وحبَّب إلينا الإيمان وزيَّنه في قلوبنا، وكرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
وبدأت ظهور الرِّدة بعده صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم، وقام لها أبو بكر الصديق، ولمّا انتشرت أنواع يرتد بها النَّاس من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، ولا يُعذرون، ألّف بعض أهل العلم في الهند رسالة قال: رِدّة ولا أبا بكر لها! يعني أن الرِّدة الأولى حصلت أبا بكر واستأصل شأفتها ودفع شرّها، والآن في وقتنا ردة رِدّة ولا أبو بكر لها. لا إله إلا الله… (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) الله يجعلنا منهم، (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) [المائدة:54].
فإذا انتشرت الرِّدة بأنواعها كما هو حاصل في الزمن، فإن الله يختار في صادق وعده الذي وعد نبيّه يختار من بين الأمة قلوبًا تصدق معه (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ويحيون على هذا المسلك.
(وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)، وهؤلاء تفضَّل الله عليهم، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) علامتهم صدق الولاء، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:54-56]
اللهم اجعلنا منهم، واكفِ المسلمين البلايا والشدائد والرزايا في الظواهر والخفايا، واجعل هذا العيد من أبرك الأعياد علينا وعلى أمة حبيبك مُحمّد، ظاهرًا وباطنًا، واقسم لنا فيما قسمت وتقسم، وأعطيت وتعطي للطائفين والقائمين والعاكفين والركع السجود، والواقفين بعرفات وأهل الحج وأهل العمرة، وأهل زيارة خير البريات، وأعد علينا عوائدهم، واقسم لنا فيما قسمت لهم، وأصلح شؤون أمة هذا المصطفى، وادفع عنهم البلاء والآفات والعاهات والجفاء في الظاهر وفي الخفا، و رُدَّ عنهم كيد إبليس وجُنده، واجعلنا اللهم من أهل الصدق معك والمُوفين بعهدك، والظافرين بمحبتك وودّك ومودة ومحبة حبيبك المصطفى حتى نعيش حياتنا ونموت وأنت ورسولك أحبُ إلينا مما سِواكما، في لطفٌ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
19 ذو الحِجّة 1443