شرح الموطأ - 387 - كتاب الأقضِيَة: باب القضاء في شهادة الصِّبيان، وباب ما جاء في الحِنث على منبر النبيّ، وباب جامع ما جاء في اليمين على المنبر

شرح الموطأ - 387 - كتاب الأقْضِيَة: باب الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ، وباب مَا جَاءَ فِي الْحِنْثِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ، وباب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ.

فجر الأربعاء 30 ذي القعدة 1443هـ.

 باب الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ

2136 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ.

2137 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ تَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ، وَلاَ تَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَحْدَهَا، لاَ تَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، أَوْ يُخَبَّبُوا، أَوْ يُعَلَّمُوا، فَإِنِ افْتَرَقُوا فَلاَ شَهَادَةَ لَهُمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَشْهَدُوا الْعُدُولَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقُوا.

باب مَا جَاءَ فِي الْحِنْثِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ

2138 - قَالَ يَحْيَى: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَاري، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِماً تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

2139 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ السَّلَمِيِّ، عَنْ أَخِيهِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَاري، عَنْ أبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ". قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ، وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ، وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ". قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.

باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ

2140 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ يَقُولُ: اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ وَابْنُ مُطِيعٍ فِي دَارٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي. قَالَ فَقَالَ مَرْوَانُ: لاَ وَاللَّهِ إِلاَّ عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ. قَالَ: فَجَعَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ. وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: فَجَعَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ.

2141 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى أَنْ يُحَلَّفَ أَحَدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، عَلَى أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، وَذَلِكَ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاهم في الله وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، من رقوا في المعرفة بالله، والتبليغ عنه والوصول إليه والإيصال إليه أعلى الذُرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

ويواصل سيدنا الإمام مَالِكْ -عليه رضوان الله- في الموطأ ذكر الفصول المتعلقة بالشهادة، ويذكر في هذا الفصل "شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ". ومن المعلوم أنه في عامة القضايا لا تُقبل شهادة الصبيان لِنقصهم قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ) [البقرة:282]. وكما دلّت آيات وأحاديث على ذلك، وأنه يُرفع القلم عن الصبيّ حتى يبلغ، وقال في الشهادة: (وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283]، ولا يدخل في ذلك الصبيان ولا إثم عليهم، فليسوا من أهل الشهادة، ولكن أهل الشهادة من إذا كتمها أَثِم.

ولكن في احتياط لِمسألة الجروح وشُبهها مما يحصل بين الصبيان، جاء اختلاف الأئمة في الصبيان في مسألة الجراح، فإنهم يحصل بينهم في ألعابهم والتقائهم أن يجرح بعضهم بعضًا، فيصعُب بعد ذلك إقامة الشهيد من الكبار، ففي الغالب لا يكون بينهم البالغ، ولا يكون بينهم الكبير حتى يشهد أن هذا ضرب هذا، وهذا اعتدى على هذا، وأن هذا الذي جرح هذا وما إلى ذلك.

  • وبذلك جاءت الرواية عن الإمام أحمَدْ وهو مذهب الإمام مَالِكْ، أنه تُقبل شهادة الصبيان في الجِراح بشروط:
    • أنهم إذا أُخذوا من مكان الحادث مباشرة ولم يذهبوا إلى أهاليهم ولا إلى الكبار.
    • ولم يكن بينهم كبير حاضر.
    • ثُمَّ اتفقت شهادتهم وأقوالهم، فبذلك يؤخذ بها. 

واختلفوا بعد ذلك في القتل. 

  • والمعتمد عند الإمام مَالِكْ: أنه إنما هي في الجراح دون القتل.
  • وفي قول لبعض أصحابه وفي القتل أيضًا، إذا لم يكن بينهم أحد غيرهم من الكبار. 

أما إذا قد تفرّقوا ذهبوا إلى أهليهم فإنهم يُعلّموا، فيقولون لهم: لا تقل كذا وقل كذا، واعمل كذا، فلا يُوثق بشهادتهم بعد ذلك ولا تُقبل؛ ولكن بهذه الشروط هي عند هؤلاء الأئمة تُقبل.

  • وقال أبو حَنِيفَة والإمام الشَّافعي، وكذلك الرواية عن الإمام أحمد: أنه لا تُقبل شهادة الصبيان بحال، ولا بد فيها من شهادة الكبير. 

وثمَّ أنهم الصبيان سواء أن كانوا ذكورًا أو إناثًا،  على اختلافٍ فيمن قال: بشهادة قبول الصبيان، وبعضهم اشترط أن يكون مع الذكر بنتين من الصبيان.

 وبعد ذلك يقول تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) [الطلاق:2] وقال: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة:282]، وهذا كله يدل على أنها إنما تكون في حق البالغين الكبار. ولِمَا يغلب عليهم من البراءة وقول الصدق والحق، جاء هذا الاحتياط عند هؤلاء الأئمة فيما يجري بين الصبيان، فلا شهادة على غيرهم؛ بل لا تُقبل. وقيل كذلك إذا حضروا حادثة وأُخذوا منها ولم يذهبوا إلى أهليهم، ولم يكن بينهم كبير أنهم تُقبل شهادتهم، ولو على الرجال، ولو على الكبار، والذي اعتمده مَالِك إنّما يكون بينهم البين في الجراح خاصة، وهناك الأقوال في ذلك. فكما لا تُقبل في المال، لا تقبل في الجراح، كمثل الفاسق الذي لا تُقبل شهادته في المال، كذلك لا تُقبل شهادته في الجراح. 

"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ" فيما بينهم، بعضهم البعض في الجراح خاصة، وللحاجة إلى ذلك، وكذلك يُروى عن سيدنا علي بقبول شهادتهم، وبضعفٍ في الرواية عنه. وكذلك عن شُريحٍ القاضي وغيره فإنه لا تُقبل عندهم شهادة الصبيان. فقولهم لاغي إنما اعتبروا قول الصبي: 

  • في إيصال الهدية. 
  • وفي الدعوة إلى الوليمة والضيافة. 
  • وفي الإذن بدخول الدار ونحوه. 

فإنهم جعلوا شأن الصبي في ذلك مُعتبر. 

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ تَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ، وَلاَ تَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ"، من الكبار "وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ" البين "مِنَ الْجِرَاحِ وَحْدَهَا"، لا غيرها من شؤون الأموال ولا من شؤون القتل، من باب أولى، "لاَ تَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ" بل في الجراح خاصة، وهذا المعتمد في مذهب الإمام مَالِكْ عليه رحمة الله تبارك وتعالى.

قال: "إِذَا كَانَ ذَلِكَ"؛ أي: أخذ الشهادة منهم، "قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا" من موضع الجراح، "أَوْ يُخَبَّبُوا"؛ من التخبيب وهو الخِداع، أن يقول له هذا معناه كذا، وقل كذا، واعمل كذا، يتعرضون لشيءٍ من هذا، ولكن يؤخذون من محل الحادث مباشرة إلى عند القاضي، ويتكلمون كلهم ويتفق كلامهم في ذلك. قال: "أَوْ يُعَلَّمُوا" يُعلّمهم، يُلّقنهم أحدٌ من الكبار يقولون عندما يسألونك قل كذا ولا تقل كذا، وقل ما رأيتُ، وقل فلان… لا حول ولا قوة إلا بالله! لو تركوهم على صفائهم وحالهم لنَطقوا بالصدق.

وفي هذا كان يقول العوام عندنا: إذا أردت أن تعرف أخبار أهل دار فتخبّر صبيانهم! لأنه يحكي الصدق الصبي، لا يحترز من شيء يجيء بالواقع في براءته، ولهذا قال: لا تُعتبر بينهم العداوة مثل الكبار، لا يُعتبر بينهم لأنهم يتضاربون، وبعد ساعة يلعبون ويضحكون، ما تحمل قلوبهم الحقد كما هو بين الكبار، أما الأطفال لا.

ومن نقص عقل الكبار إذا تضارب صبيانهم فيتزاعلون هم، أو يتضاربون الكبار، ثُمَّ يرجع الصبيان يلعبون ويمشون ولا كأنه حدث شيء، وهؤلاء يقعدون شهر وشهرين، سنة وسنتين، متحاملين على بعضهم البعض، وهذا من نقص عقولهم! بل  ينبغي الإصلاح بين الأطفال، والسداد بينهم بأي شيء مع التنبيه والتحذير، وهم لا تحمل قلوبهم ما يحمله الكبار من التحامل، ولا الحقد، ولا شيء من ذلك، فإنهم أقرب إلى النقاء والطهارة. 

قال: "فَإِنِ افْتَرَقُوا" قبل أداء الشهادة، "فَلاَ شَهَادَةَ لَهُمْ" لاحتمال التلقين، أنهم يُلُقّنون ويُعلَّمون، "إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا"؛ يعني: الصبيان "قَدْ أَشْهَدُوا" الكبار "الْعُدُولَ"؛ فالكبار قالوا نحن سمعناهم يقولون كذا قبل ما يروحون عند أهلهم، قالوا كذا وقالوا كذا قبل، فتُقبل شهادتهم بما ألقوه إلى الكبار العدول من الكلام قبل أن يذهبوا، "قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقُوا"؛ لأنه انتفى احتمال التلقين.

إذًا؛ 

  • اتفق أصحاب الإمام مَالِكْ على أنه تجوز شهادة الصبيان فيما دون القتل من الجراح. 
  • وأنها لا تجوز في الحقوق. 

لأجل الضرورة أُجيزت في الجراح، الحقوق في الغالب يحضرها الكبار، أما الجراح الصغار في الغالب لا يحضرونها الكبار بينهم؛ بل في الغالب لو وحضر الكبير ما يجرح بعضهم البعض. 

وجاء في رواية القاسم عن مَالِكْ في كتاب سحنون: أنها تجوز منهم في القتل، إذا قُتل بعض الصبيان، زاد عليهم طبعهم، لحال وحمل الحجر على أخوه دق رأسه بها،  إذا عمل شيء فوقع، سقط، فيبقى من غير شك أنه ليس بذلك قصاص، نعم ليس به قصاص، ولكن يترتب عليه الديّة وغيرها. 

وكذلك اختلفوا إذا كان الصبيان إناث، وجاء أيضًا عند المَالِكْية عند ابن الماجشون يقولون: أن أقل ما يجزم من شهادة الصبيان غلامان أو غلامٌ وجاريتان. وهكذا جاء أيضًا في رواية عند مَالِكْ: أنه لا يكونوا الصبيان مملوكين، فإذا كانوا مملوكين أسقط شهادتهم في روايةٍ عنه، واشترط أن لا يكون بينهم كبير، فإذا وُجد الكبير بينهم فلا تقبل شهادة الصغار، سواء أن كان الكبار رجال أو نساء.

 

باب مَا جَاءَ فِي الحِنْثِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ

 

قال: "باب مَا جَاءَ فِي الْحِنْثِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ"؛ أي: الحنث في اليمين الكاذبة إذا كان عند منبر رسول الله ﷺ، بمعنى أن اليمين الكاذبة حرام في أي مكان في الأرض كلها، ولكن إذا كانت في محل مُعظّم: 

  • تغلَّظ إثمها. 
  • واشتد سخط الله على صاحبها. 
  • وتعجّلت عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة والعياذ بالله تعالى.

إذًا؛ فتَغلَّظُ الأيمان بواسطة الزمان أو المكان، وهكذا يقول تغلظ بالمكان مثل الجامع، وإذا كانت مثل مسجده ﷺ،  وإذا كانت عند منبره ﷺ، كما نقرأ في النصوص عند منبره ﷺ، ويقول الإمام مَالِكْ وفي عموم المدينة تغلُظ اليمين في عموم المدينة، وكالحرم المكي ووسط مكة، فإنه إن كذب فيها فهي بمائة ألف -والعياذ بالله- في غيرها ويتضاعف. وهكذا كما يقول الشَّافعية فيما ورد من الحديث عن تغليظ اليمين بعد العصر، فهي أغلظ من غيرها من الأوقات..

  • فتغلظ بالزمان.
  • وتغلظ بالمكان.
  • وفي الجامع.
  •  وفي مكة والمدينة.
  • عند منبر النَّبي ﷺ.
  • أو عند الركن، عند الحجر الأسود.

 يشتد إثم اليمين الكاذبة في هذه المواطن.

وإذا كان في المسألة التباسٌ وخوفٌ من وقوع في اليمين الكاذبة، فيمكن تغليظ ذلك، استحبّه بعضهم، والأكثر أنهم لا يستحبون التغليظ حتى لا يتَضاعف الإثم، ولكن إذا كان هذا سيجدي فيه ويمتنع عن الأمر، فإنهم يتهيّبون الحلف في أماكن مخصوصة فينكلون عن اليمين، ويكون ذلك أقرب إلى الوصول إلى الحُكم الصواب أو الحكم الحق. لا إله إلا الله…

  • وهكذا يذهب الحَنَفِية والحَنَابِلَة: أنه لا ينبغي أبدا أن تُغلَّظ اليمين في حق المسلم.
  • ولكن قال الحَنَابِلَة: إن رأى الحاكم في ذلك مصلحة تُغلَّظ اليمين. 

وقد يطلبون تغلِيظها في حق أهل الذمة، لأن تخوّفهم من نزول عقابٍ بهم عاجلٍ في الدنيا أكثر، وهم أيضًا يستشعرون من خلال المجتمع الذي يعيشون فيه أن الحلف في هذه الأماكن يسرع، إذا كذب الحالف لأهلها الانتقام -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. مع أن الحلف حيثما كان كما نقرأ في الحديث إذا اقتطع به مال المسلم بغير حق، عظُم إثمه، وسمعناه ﷺ يقول: "وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ" وهكذا.

وإذًا؛ 

  • يقول الحَنَفِية والحَنَابِلَة: أن التغليظ هذا يرجع إلى رأي القاضي، إذا رأى القاضي التغليظ. 
  • قال المَالِكْية والشَّافعية: أنه حق الخصم، حقٌ للخصم، فإن طلب الخصم غُلِّظت وجوبًا؛ لأنه صاحب الحق، فإن أبى مَنْ توجهت عليه اليمين ممَّا طلبه المُحلِّف من التغليظ عُدّ ناكلًا،  قال: أنا سأحلف لك هنا ما بروح أحلف لك في المسجد، فيُعدّ ناكل إذا طلب الخصم التغليظ فأبى هو، هذا عند المَالِكْية والشَّافعية.

ومن جُملة ذلك غِلَظ اليمين عند منبره ﷺ في النص كما نقرأ. يقول: "حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَاري، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي"؛ يعني: عند منبري، يعني في المكان الذي فيه، ليس فوق المنبر بل جنب المنبر عند المكان الذي فيه المنبر، حتى جاء في رواية: "لا يَحْلِفُ أحدٌ عند مِنْبَرِي على يمينٍ آثِمَةٍ، ولو على سِواكٍ أَخْضَرَ، إلا تَبَوَّأَ مَقْعَدَه من النارِ" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-  كما جاء في رواية أبي داود والنَّسائي وغيرهم. 

"قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِماً" يعني كاذبًا في يمينه مستحق الإثم -والعياذ بالله تعالى- وفي رواية "بيمينٍ آثمة" "تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"؛ يعني: اتخذ له مكانٌ في النار والعياذ بالله، فهيأ لنفسه محلًا في دار الغضب، "تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"

وذكر الحديث الثاني: "عَنْ أبِي أُمَامَةَ -الأنصاري- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ"، هذا في أي مكان كان، ولو لم يكن عند المنبر، حلف كذب من أجل يأخذ حق المسلم، وهو يعلم من نفسه أنه كاذب والعياذ بالله تبارك وتعالى، "حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ"، ولو أعطوه الدنيا كلها، إيش يساوي وهو يحرّم عليه الجنة، وتُوجب له النار، بأخذ مالٍ يَقتطعه بيمينٍ كاذبة!! "قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" شيء من الدنيا يسير، وكل هذه الدنيا حقيرة عند الله، قال أو قالوا الصحابة ‏وإن كان يعني الحق هذا شيء يسير يا رسول الله؟ "قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ"؛ يعني: غصن مقطوع من الأرَاك "وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ"، كررها ﷺ "وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ.. قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ" مبالغةً في الزجر، وتعظيم شأن الخطر في هذا الأمر، فيَحذر المؤمن من أخذ المال بغير حقه.

رزقنا الله التوفيق والاستقامة على أقوم طريق، واللحوق بخير فريق، وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين، إنه أكرم الأكرمين.

 

باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي اليَمِينِ عَلَى المِنْبَرِ

 

بقي في ذلك ما جاء: "باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ". يقول أَبَو غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ: "اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ وَابْنُ مُطِيعٍ فِي دَارٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَحْلِفُ" للخصم "لَهُ مَكَانِي. قَالَ فَقَالَ مَرْوَانُ: لاَ وَاللَّهِ إِلاَّ عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ"" أي: المحل الذي تُقطع فيه الحقوق وهو المنبر، "قَالَ: فَجَعَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ"؛ يعني: ثابت "وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ" كان يمتنع منه يقول إعظامًا للمكان.

 ولهذا يقول: عبد الله بن عمر أنه يُكره أن يأتي ويحلف عند المنبر وإن كان صادقًا، وقال: إني أخشى بعد ذلك أن يُصادف قدر من الأقدار ويُقال هذا اليمين، وهو صادق، قال قد يصادف ذلك ويكون صادق وليس عليه شيء، كأن يصيبه شيء من الأقدار من دون هذه السببية فيظن النَّاس أنه هكذا، ولهذا قال كره ابِن عمر ذلك. 

وجاء عن الشَّافعي أن عمر -رضي الله عنه- حلف على المنبر في خصومةٍ كانت بينه وبين رجل، وعن سيدنا عثمان أنه أبى وافتدى منها، وقال: أخاف أن توافق قدر بلاءٍ فيقال بيمينه. 

"قَالَ: فَجَعَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ"؛ يعني: من امتناع زيدٍ من الحلف عند المنبر. قالوا وسيدنا زيد فقيه الصحابة، وفقه مروان ما يساوي شيء بالنسبة لسيدنا زيد بِنْ ثابت، هو أفقه، تعلم وتلَّقى مباشرة عن حضرة النبوة والرسالة. 

"قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى أَنْ يُحَلَّفَ أَحَدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، عَلَى أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، وَذَلِكَ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ". اختلفوا الذين أجازوا التغليظ هل يكون بمقدار معين؟ وأنه إذا كان حقير تافه ما ينبغي أن يُغلَّظ فيه اليمين. ولأن الكل مقبل على محكمة العدل الكبرى في يوم القيامة، فكلٌّ ينتبه لنفسه لأن هناك (لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]، ما  يبقى فيها إلا كل شيء مكشوف، وحكم عدل لا مُعقِّب لحكمه، جلَّ جلاله وتعالى في علاه.

غفر الله لنا و نظر الله إلينا، وجنّبنا الآفات، وأصلح الظواهر والخفيات، وثبّتنا أكمل الثبات، وختم لنا بأكمل حُسن الخاتمات، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

06 ذو الحِجّة 1443

تاريخ النشر الميلادي

05 يوليو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام