شرح الموطأ - 384 - كتاب الأقضِيَة: باب القضاء بِاليَمِين مع الشَّاهِد

شرح الموطأ - 384 - كتاب الأقْضِيَة: باب الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأقْضِيَة، باب الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.

فجر الأحد 27 ذي القعدة 1443هـ.

 باب الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ

2121 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.

2122 - وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ عَامِلٌ عَلَى الْكُوفَةِ: أَنِ اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.

2123 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلاَ: هَلْ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ فَقَالاَ: نَعَمْ.

2124 - قَالَ مَالِكٌ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، يَحْلِفُ صَاحِبُ الْحَقِّ مَعَ شَاهِدِهِ، وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ، فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ أُحْلِفَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَقُّ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ.

2125 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الأَمْوَالِ خَاصَّةً، وَلاَ يَقَعُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ، وَلاَ فِي نِكَاحٍ، وَلاَ فِي طَلاَقٍ، وَلاَ فِي عَتَاقَةٍ، وَلاَ فِي سَرِقَةٍ، وَلاَ فِي فِرْيَةٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ الْعَتَاقَةَ مِنَ الأَمْوَالِ، فَقَدْ أَخْطَأَ، لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ، لَحَلَفَ الْعَبْدُ مَعَ شَاهِدِهِ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ، وَأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى مَالٍ مِنَ الأَمْوَالِ ادَّعَاهُ، حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتَحَقَّ حَقَّهُ كَمَا يَحْلِفُ الْحُرُّ.

2126 - قَالَ مَالِكٌ: فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى عَتَاقَتِهِ، اسْتُحْلِفَ سَيِّدُهُ مَا أَعْتَقَهُ، وَبَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ.

2127 - قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَيْضاً فِي الطَّلاَقِ، إِذَا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ بِشَاهِدٍ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، أُحْلِفَ زَوْجُهَا مَا طَلَّقَهَا، فَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ.

2128 - قَالَ مَالِكٌ: فَسُنَّةُ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقَةِ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَاحِدَةٌ، إِنَّمَا يَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى زَوْجِ الْمَرْأَةِ، وَعَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الْعَتَاقَةُ حَدٌّ مِنَ الْحُدُودِ لاَ تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، لأَنَّهُ إِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ، وَوَقَعَتْ لَهُ الْحُدُودُ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ رُجِمَ، وَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ قُتِلَ بِهِ، وَثَبَتَ لَهُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُوَارِثُهُ، فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فَقَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ عَبْدَهُ، وَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ سَيِّدَ الْعَبْدِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَشَهِدَ لَهُ عَلَى حَقِّهِ ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ, فَإِنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الْحَقَّ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، حَتَّى تُرَدَّ بِهِ عَتَاقَتُهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ مَالٌ غَيْرُ الْعَبْدِ، يُرِيدُ أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَعْتِقُ عَبْدَهُ، ثُمَّ يَأْتِي طَالِبُ الْحَقِّ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، ثُمَّ يَسْتَحِقُّ حَقَّهُ، وَتُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ، أَوْ يَأْتِى الرَّجُلُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِ الْعَبْدِ مُخَالَطَةٌ وَمُلاَبَسَةٌ، فَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ مَالاً، فَيُقَالُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ : احْلِفْ مَا عَلَيْكَ مَا ادَّعَى، فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، حُلِّفَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ يَرُدُّ عَتَاقَةَ الْعَبْدِ، إِذَا ثَبَتَ الْمَالُ عَلَى سَيِّدِهِ.

2129 – قَالَ: وَكَذَلِكَ أَيْضاً الرَّجُلُ يَنْكِحُ الأَمَةَ، فَتَكُونُ امْرَأَتَهُ، فَيَأْتِي سَيِّدُ الأَمَةِ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فَيَقُولُ: ابْتَعْتَ مِنِّي جَارِيَتِى فُلاَنَةَ أَنْتَ وَفُلاَنٌ بِكَذَا وَكَذَا دِينَاراً. فَيُنْكِرُ ذَلِكَ زَوْجُ الأَمَةِ، فَيَأْتِي سَيِّدُ الأَمَةِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَيَشْهَدُونَ عَلَى مَا قَالَ، فَيَثْبُتُ بَيْعُهُ، وَيَحِقُّ حَقُّهُ، وَتَحْرُمُ الأَمَةُ عَلَى زَوْجِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِرَاقاً بَيْنَهُمَا، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لاَ تَجُوزُ فِي الطَّلاَقِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته ومبيّنها، على لسان خير بريته سيدنا محمد ابن عبد الله حبيب الرحمن وصفوته، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى أهل ولائه ومتابعته وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في ذرى المجد أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 أما بعدُ،

فيواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- الأبواب المتعلقة بالقضاء، وشأن الشهادة في الأحكام، يقول: "باب الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ"، وذلك أن الحق -جل جلاله وتعالى في علاه- جعل في نظام الشريعة الغراء إقامة الحجج، وجعل "البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر".

  •  وإذا لم يكن شاهدان فيكون الشاهد الواحد مع يمين، المدّعي كافية في إنزال الحكم عليه عند جمهور أهل العلم.
  •  ولم يقل بذلك الإمام أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه- ومن وافقه.

ودليل الجمهور صحّ في الحديث ورواه الإمام مسلم. 

ثم إن في خصلة أو في خصال يطلع عليها النساء أكثر فتُقبل فيه شهادة النساء. وعند شهود الرجل الواحد إذا شهد امرأتان معه، قضيَ في ذلك بالشهادة كما جاء في الآية. 

  • ومن الشهادات ما يُقبل فيه الواحد، وذلك أيضًا عند جماعة من أهل العلم في دخول شهر رمضان وأنه يُكتفى بشاهد واحد لا في خروج رمضان ولا في دخول غيره من الأشهر.
  • ثم إن مسألة الكبيرة المتعلقة بأربعة شهداء، لا يُقبل فيها أقل من أربعة شهداء؛ مسألة الزنا، فلا يُقبل فيها قول من قال أنه رأى وشاهد حتى يجتمع على ذلك أربعة؛ لما أحب الله -تبارك وتعالى- من حفظ حرمات الأعراض، و إسدال الستر على عباده، والبعد عن الادّعاء، وعن الخوض في السوء والباطل، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وتهدّد على ذلك -جل جلاله-.

وتقدم معنا إثم القذف والاختلاف الكبير في قبول شهادته، إذا تاب ورجع عما قال، وأناب إلى ربه -سبحانه وتعالى-. وكذلك لا يحصل ثبوت ذلك بالإجماع إلا بأربعة شهداء كما قال تعالى: (لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النور:13]، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)[النور:4]. وهؤلاء الأربعة الشهداء؛ رجال أحرار؛ ما تُقبل شهادة النساء ولا العبيد، كما هو عند مالك والشافعي وأبي حنيفة -رضي الله تعالى عنه أنهم أجمعين- لا يُقبل إلا أربعة رجال أحرار.

ويذكر الإمام مالك في هذا مسائل فأولها قال: "عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ"؛ عن جعفر الصادق بن محمد الباقر "عَنْ أَبِيهِ" سيدنا محمد الباقر بن علي بن الحسين، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ" وهذا الحديث المرسل أخرجه الإمام مسلم في صحيحه موصولًا. "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ"، فحكم بذلك. وجاء في رواية البيهقي عن سيدنا محمد الباقر: أنه  وأبو بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الواحد ويمين المدّعي. وهكذا جاء أيضا قضاء سيدنا علي-رضي الله تعالى- به قضى به علي -رضي الله تعالى- بين أظهركم. وفيه أن هذا الحكم مشتهر بين الصحابة -رضي الله تبارك وتعالى عنهم-.

 ثم ذكر "أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ"، حفيد زيد بن الخطاب أخو سيدنا عمر، "وَهُوَ عَامِلٌ"؛ أي: في الوقت الذي كان فيه أميرًا "عَلَى الْكُوفَةِ"، استعمله عليها هو سيدنا عمر بن عبد العزيز. "أَنِ اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ"، وهكذا جاء أن شُريحًا قضى بذلك وهو القاضي الذي كان يقضي في خلافة سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، وأمره بالقضاء بذلك لأن الأمر مشتهر وواضح عند أهل المدينة؛ متفق عليه. 

وروى لنا بعد ذلك: "أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلاَ: هَلْ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ فَقَالاَ: نَعَمْ". وهكذا قال الإمام أحمد بن حنبل: مضت السنة أن يُقضى باليمين مع الشاهد الواحد، فإن أبى أن يحلف استُحلف المطلوب؛ المدّعى عليه. وهو كذلك في قول الإمام مالك وفي قول الإمام الشافعي. 

قال: "يَحْلِفُ صَاحِبُ الْحَقِّ مَعَ شَاهِدِهِ، وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ"، فإذا ادعى أن هذا له وهو بيد غيره، ثم شهد له شاهد أنه ملكه وحلف فوق الشاهد يمينًا حَكَمَ الحاكم بأن هذا له ويستحق حقه، فإن نكل؛ ما رضي يحلف "وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ أُحْلِفَ الْمَطْلُوبُ"، يعني المدعى عليه فإذا حلف سقط عنه ذلك الحق، وإن أبى أن يحلف خلاص ثبت الحق للمدعي، "أُحْلِفَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَقُّ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ".

"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الأَمْوَالِ خَاصَّةً". 

  • فالقائلون باليمين والشاهد يقولون أن هذا فيما يتعلق بالأموال. 
  • أما إذا كانت الدعوى في غير الأموال ما يُقبل شاهد ويمين. 

وروى الشافعي أنه ﷺ قضى بشاهد ويمين في الأموال. 

"وَلاَ يَقَعُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ"؛ فلا تثبت إلا بشاهدين، فلا يُقبل فيها إلا شهادة رجلين، وهو كذلك عند الأئمة الأربعة وجماهير أهل العلم. وإنما قال الأئمة الثلاثة بقبول اليمين مع الشاهد فيما يتعلق بالدعاوي في الأموال، ولا يقع ذلك في شيء من الحدود، "وَلاَ فِي نِكَاحٍ" فما يثبت النكاح بشاهد واحد، ويمين المدعي. 

"وَلاَ فِي طَلاَقٍ، وَلاَ فِي عَتَاقَةٍ، وَلاَ فِي سَرِقَةٍ" ،فإذا ادعى على رجل أنه سرق نصابًا من حرز، أقام بذلك شاهد، وحلف معه، وجب المال المشهود به إن كان باقي، أو قيمته إذا كان قد تلف ولا يقام الحد، لأن إقامة الحد ما يكفي فيها شاهد ويمين، بل لا بد من شاهدين على أنه سرق هذا من حرز مثله، من أجل ماذا؟ من أجل القطع فهو حد، أما من أجل ثبوت المال فيُقبل الشاهد مع اليمين ويلزم بردّ وتسليم المال، ولكن القطع لا؛ ما يأتي قطع اليد إلا: 

  • بشهادة رجلين 
  • أو إقرار السارق. 

إذًا؛ فالسرقة: توجب القطع وتوجب الغرم فهي فيها مال وفيها حد، فيقبل الشاهد واليمين: 

  • فيما يتعلق بالمال. 
  • ولا يُقام به الحد. 

قال: "وَلاَ فِي فِرْيَةٍ"؛ يعني: الكذب، وهي القذف بالزنا -والعياذ بالله- لا تثبت على القاذف بشاهد ويمين لا بد من أربعة كما تقدم من أن ذلك مُجمع عليه. "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ الْعَتَاقَةَ مِنَ الأَمْوَالِ" فلا بد يثبت قبول الشاهد واليمين فيها! قال:" فَقَدْ أَخْطَأَ" هذا القائل  "لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ"؛ ليس هذا من باب الأموال، ولو كان "ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ، لَحَلَفَ الْعَبْدُ مَعَ شَاهِدِهِ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ." إذًا؛ الشهادة على الأموال شهادة بطلب مال يخرج من متمول له إلى متمول آخر، وهذا ما يجيء في العتاقة، ما تخرج إلى متملك، وإنما يجيء هذا لو ادعى أن العبد عبده، وأن هذا أخذه عليه، نعم هذا يأتي الانتقال، ولا يثبت به الحد، ولكن في الانتقال من ملك إلى ملك آخر، "وَأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى مَالٍ مِنَ الأَمْوَالِ ادَّعَاهُ"؛ يعني: العبد "حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتَحَقَّ حَقَّهُ"؛ أي: يأخذ هذا المال الذي ادعاه "كَمَا يَحْلِفُ الْحُرُّ"؛ لا فرق في استحقاق المال بشاهد ويمين بين الحر والعبد، لا فرق. 

قال مالك: -عليه رحمة الله- "فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى عَتَاقَتِهِ"، وحلف العبد على ذلك مع الشاهد الواحد لم يعتبر ذلك ولكن "اسْتُحْلِفَ سَيِّدُهُ" على أنه "مَا أَعْتَقَهُ"؛ لأن السيد منكر للعتق، وهذا يدّعي أنه أُعتق ومعه شاهد واحد، ويريد أن يحلف فلا يُقبل شاهد يمين، ولكن يُقبل تحليف السيد أنه "مَا أَعْتَقَهُ وَبَطَلَ ذَلِكَ"؛ يعني: العتق "عَنْهُ"؛ أي: العبد بعد حلف السيد إذا حلف أنه لم يعتقه. 

قال مالك: "وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَيْضاً فِي الطَّلاَقِ"  كيف ذلك؟ قال توضيحه يقول:"إِذَا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ" أو غيرها "بِشَاهِدٍ" واحد على "أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا"، وحلف المدّعي على ذلك مع الشاهد الواحد لا يُعتبر بهذا بل تُردّ هذه البينة، "أُحْلِفَ زَوْجُهَا مَا طَلَّقَهَا"؛ لأنه منكر الطلاق و "اليمين على من أنكر"، "فَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ". 

"قَالَ مَالِكٌ: فَسُنَّةُ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقَةِ" في اعتبار "الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ" مع اليمين واحدة، أنه لا عبرة فيهما للشاهد واليمين، "إِنَّمَا يَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى زَوْجِ الْمَرْأَةِ"؛ لكونه منكر الطلاق، "وَعَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ"؛ لكونه منكر العتاق، فإذا أبى الزوج أن يحلف أنه ما طلق، أو أبى السيد أن يحلف أنه ما عتق، يقول الإمام مالك: يُحبس هذا الزوج أو يحبس ذلك السيد إلى  يقر أو يحلف. 

يقول: "وَإِنَّمَا الْعَتَاقَةُ حَدٌّ مِنَ الْحُدُودِ" من حدود الله تعالى؛ يريد أنه يتعلق بها حق لله - تبارك وتعالى-، لهذا لو اتفقوا معًا السيد مع العبد قال له: الآن أنت أعتقتني وأحسن أرجع مُلكك  واتفقوا العبد والسيد على إبطال العتاق لم يبطل وليس لهما ذلك! إذًا؛ فهو حق لله تبارك وتعالى. ولما ذكر - سبحانه وتعالى- الطلاق وقال: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ)، ثم قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا)[البقرة :229]، فوصف الطلاق أنه من حدود الله. 

قال: "لاَ تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ"؛ العتاق والطلاق، فضلًا عن شهادة الواحد واليمين وهكذا. 

يقول ابن قدامة: وما ليس بعقوبة كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإيلاء والظهار والنسب والتوكيل والوصية والولاء والكتابة، أشبه هذا المعوّل عليه في مذهب الإمام أحمد: أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين، ولا تُقبل فيه شهادة النساء بحال؛ وهكذا نصّ الإمام أحمد على أن شهادة النساء في النكاح والطلاق لا تجوز،  قال: الدليل على كونه من حدود الله، "لأَنَّهُ إِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ، وَوَقَعَتْ لَهُ الْحُدُودُ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ"، مثل الحر "وَإِنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ رُجِمَ" بعد العتاق، قال: "وَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ قُتِلَ بِهِ".  من قتل هذا الذي أُعتق وهو حر يُقتل به، 

  • وهو عند الإمام مالك والشافعي وأحمد: أنه لا يُقتل الحر بالعبد.
  •  وخلافًا لأبي حنيفة أنه يُقتل إذا قتل الحر مملوكًا فإنه يُقتل عند الإمام أبي حنيفة وأصحابه.
  •  ويُقتل الحر بالعبد إلا عبد نفسه إن كان عبده ما يُقتل به.
  •  وقال الجمهور: أنه لا يُقتل الحر بالعبد المملوك.

 قال: "وَثَبَتَ لَهُ"؛ يعني: العبد "الْمِيرَاثُ" بعد أن عُتِق "بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُوَارِثُهُ"؛ أي: يجعله وارثًا، "فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ عَبْدَهُ، وَجَاءَ رَجُلٌ" آخر وهو عمرو، "يَطْلُبُ سَيِّدَ الْعَبْدِ" يطلب عمرو، عمرو هذا يطلب زيد "بِدَيْنٍ لَهُ"؛ أي: لعمرو عليه، قال: "فَشَهِدَ لَهُ" عمرو "عَلَى حَقِّهِ"؛ يعني: على دينه، على زيد "رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الْحَقَّ" لعمرو "عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ"؛ يعني: على زيد، "حَتَّى تُرَدَّ بِهِ عَتَاقَتُهُ"؛ يعني: عتاق زيد عبده، "إِذَا لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ"؛ وهو زيد "مَالٌ غَيْرُ الْعَبْدِ" المذكور. 

يقول: هذا عتق الرجل عبده عليه دين يحيط بماله والعبد يحيط بماله، غير جائز؛ لأنه ليس له إتلاف أموال الناس ولو بأداء كفارة أو غيرها؛ ما يعتق إذا كان دينه مستغرق للمال والعبد، فخلاص فما له حق التصرف في هذا العبد. "يُرِيدُ" هذا المحتج "أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ"، قال مالك: "فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَ"؛ لأن ردّ العتاق ليس بشهادة النساء بل بثبوت الدين على زيد. 

قال: "وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَعْتِقُ عَبْدَهُ، ثُمَّ يَأْتِي طَالِبُ الْحَقِّ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، ثُمَّ يَسْتَحِقُّ حَقَّهُ، وَتُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ". 

"الرَّجُلُ يَعْتِقُ عَبْدَهُ، ثُمَّ يَأْتِي" رجل آخر "طَالِبُ الْحَقِّ عَلَى سَيِّدِهِ" على سيد العبد فيثبت هذا الطالب حقه "بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ" على حقه، "فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، ثُمَّ يَسْتَحِقُّ حَقَّهُ" بقضاء القاضي "وَتُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ" لثبوت الدين على السيد "وَتُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ". 

"أَوْ يَأْتِي الرَّجُلُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِ الْعَبْدِ مُخَالَطَةٌ وَمُلاَبَسَةٌ، فَيَزْعُمُ" يدّعي "أَنَّ لَهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ مَالاً، فَيُقَالُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ: احْلِفْ مَا عَلَيْكَ مَا ادَّعَى"؛ أي: لا يجب عليك ما ادّعى عمرو وإن حلف زيد بريء منه، "فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، حُلِّفَ صَاحِبُ الْحَقِّ" عمرو على ما ادّعى "وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ"؛ يعني: نكول المدّعى عليه يردّه على المدعي، "يَرُدُّ عَتَاقَةَ الْعَبْدِ، إِذَا ثَبَتَ الْمَالُ عَلَى سَيِّدِهِ"؛ العتق يُرَد بنكول السيد عن اليمين، هذا قول الإمام مالك - عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.

"قَالَ: وَكَذَلِكَ أَيْضاً الرَّجُلُ يَنْكِحُ الأَمَةَ، فَتَكُونُ امْرَأَتَهُ، فَيَأْتِي سَيِّدُ الأَمَةِ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فَيَقُولُ: ابْتَعْتَ مِنِّي جَارِيَتِى فُلاَنَةَ أَنْتَ وَفُلاَنٌ بِكَذَا وَكَذَا دِينَاراً. فَيُنْكِرُ ذَلِكَ زَوْجُ الأَمَةِ، فَيَأْتِي سَيِّدُ الأَمَةِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَيَشْهَدُونَ عَلَى مَا قَالَ، فَيَثْبُتُ بَيْعُهُ، وَيَحِقُّ حَقُّهُ، وَتَحْرُمُ الأَمَةُ عَلَى زَوْجِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِرَاقاً بَيْنَهُمَا، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لاَ تَجُوزُ فِي الطَّلاَقِ.". ثم تابع ذكر الصور في هذه المسألة، والله أعلم.

رزقنا الله الاستقامة والصدق والإخلاص والإنابة، ووقانا الأسواء والأدواء، وأصلح لنا السر والنجوى، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

03 ذو الحِجّة 1443

تاريخ النشر الميلادي

02 يوليو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام