شرح الموطأ - 379 - كتاب الشّفعة: متابعة باب ما تَقَع فِيه الشُّفْعَة

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الشُّفْعَةِ، متابعة باب مَا تَقَعُ فِيهِ الشُّفْعَةِ.
فجر السبت 19 ذو القعدة 1443هـ.
متابعة باب مَا تَقَعُ فِيهِ الشُّفْعَةِ
2093 - قَالَ مَالِكٌ: مَنْ وَهَبَ شِقْصاً فِي دَارٍ أَوْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَأَثَابَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِهَا نَقْداً، أَوْ عَرْضاً، فَإِنَّ الشُّرَكَاءَ يَأْخُذُونَهَا بِالشُّفْعَةِ إِنْ شَاؤُوا، وَيَدْفَعُونَ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ قِيمَةَ مَثُوبَتِهِ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ.
2094 - قَالَ مَالِكٌ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً فِي دَارٍ أَوْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَلَمْ يُثَبْ مِنْهَا، وَلَمْ يَطْلُبْهَا، فَأَرَادَ شَرِيكُهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا، فَإِنْ أُثِيبَ، فَهُوَ لِلشَّفِيعِ بِقِيمَةِ الثَّوَابِ.
2095 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصاً فِي أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ، فَأَرَادَ الشَّرِيكُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ. قَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ مَلِيًّا فَلَهُ الشُّفْعَةُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ إِلَى ذَلِكَ الأَجَلِ، وَإِنْ كَانَ مَخُوفاً أَنْ لاَ يُؤَدِّىَ الثَّمَنَ إِلَى ذَلِكَ الأَجَلِ، فَإِذَا جَاءَهُمْ بِحَمِيلٍ مَلِيٍّ ثِقَةٍ، مِثْلِ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ الشِّقْصَ فِي الأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَذَلِكَ لَهُ.
2096 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ تَقْطَعُ شُفْعَةَ الْغَائِبِ غَيْبَتُهُ وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ عِنْدَنَا حَدٌّ تُقْطَعُ إِلَيْهِ الشُّفْعَةُ.
2097 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُوَرِّثُ الأَرْضَ نَفَراً مِنْ وَلَدِهِ، ثُمَّ يُولَدُ لأَحَدِ النَّفَرِ، ثُمَّ يَهْلِكُ الأَبُ فَيَبِيعُ أَحَدُ وَلَدِ الْمَيِّتِ حَقَّهُ فِي تِلْكَ الأَرْضِ: فَإِنَّ أَخَا الْبَائِعِ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مِنْ عُمُومَتِهِ شُرَكَاءِ أَبِيهِ. قَالَ مَالِكٌ : وَهَذَا الأَمْرُ عِنْدَنَا.
2098 - قَالَ مَالِكٌ: الشُّفْعَةُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، يَأْخُذُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ، إِنْ كَانَ قَلِيلاً فَقَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ كَثِيراً فَبِقَدْرِهِ، وَذَلِكَ إِنْ تَشَاحُّوا فِيهَا.
2099 - قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ مِنْ شُرَكَائِهِ حَقَّهُ، فَيَقُولُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ: أَنَا آخُذُ مِنَ الشُّفْعَةِ بِقَدْرِ حِصَّتِي. وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَ الشُّفْعَةَ كُلَّهَا أَسْلَمْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَدَعَ فَدَعْ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا خَيَّرَهُ فِي هَذَا وَأَسْلَمَهُ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ إِلاَّ أَنْ يَأْخُذَ الشُّفْعَةَ كُلَّهَا، أَوْ يُسْلِمَهَا إِلَيْهِ، فَإِنْ أَخَذَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِيهَا.
2100 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الأَرْضَ فَيَعْمُرُهَا بِالأَصْلِ يَضَعُهُ فِيهَا، أَوِ الْبِئْرِ يَحْفِرُهَا، ثُمَّ يَأْتِي رَجُلٌ فَيُدْرِكُ فِيهَا حَقًّا، فَيُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ: إِنَّهُ لاَ شُفْعَةَ لَهُ فِيهَا، إِلاَّ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ مَا عَمَرَ، فَإِنْ أَعْطَاهُ قِيمَةَ مَا عَمَرَ كَانَ أَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا.
2101 - قَالَ مَالِكٌ: مَنْ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ أَرْضٍ، أَوْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الشُّفْعَةِ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ اسْتَقَالَ الْمُشْتَرِي فَأَقَالَهُ. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَالشَّفِيعُ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ بَاعَهَا بِهِ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغرّاء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، سيدنا محمد صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الكبراء، وعلى من والاهم في الله واتبعهم وسار في منهاجهم سرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رقّاهم الحق في الفضل أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- في الموطأ ذكر المسائل المتعلقة بالشفعة والمتفرّعة في باب الشفعة، وهو أن يبيع شريكٌ نصيبه من المشترَك فيه إلى آخر دون أن يؤذِن الشريك ويُعلمه بذلك، ثم يعلم الشريك فيكون له الحق في الأخذ بالشفعة على تفصيلٍ تقدم بعضه.
ويقول في تفصيل هذه المسائل: "مَنْ وَهَبَ شِقْصاً"؛ يعني: قطعة "فِي دَارٍ أَوْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَأَثَابَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ"؛ يعني: أعطاه وكفاه "بِهَا"؛ أي: بعوض الهبة "نَقْداً، أَوْ عَرْضاً،"أو أعطاه وأثابه العوض من العروض؛ عرضًا من العروض يعني غير النقد من أنواع الأمتعة، "فَإِنَّ الشُّرَكَاءَ يَأْخُذُونَهَا"؛ يعني: القطع المذكورة التي باعها شريكهم "بِالشُّفْعَةِ إِنْ شَاؤُوا، وَيَدْفَعُونَ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ قِيمَةَ مَثُوبَتِهِ"؛ قيمة ما أثاب؛ فإن الهبة بالعِوض بيعٌ؛ إذا كان يهب بعوض، يهب بمقابل هذه الهبة صورة هبة وهي بيع فحكمها حكم البيع في جواز أن يأخذ الشركاء بسهمِهم ويأخذون المباع لهم بالثمن الذي بِيع به فذلك جائز. "فَإِنَّ الشُّرَكَاءَ يَأْخُذُونَهَا بِالشُّفْعَةِ إِنْ شَاؤُوا، وَيَدْفَعُونَ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ"؛ الذي وهب له تلك القطعة "قِيمَةَ مَثُوبَتِهِ"؛ قيمة ما أثاب به الموهوب له إن كانت المثوبة عرضًا، يدفعون له القيمة "دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ."؛ يعني: ما يأتون بمقابل العَرَض بعَرَض ولكن يأتون بقيمته دنانير ويسلمونها له.
- ففيه: ثبوت الشفعة بالهبة بثواب.
واختلفوا في الهبة من دون ثواب، هل يصح فيها حق الشفعة أم لا؟ وإذا صح حق الشفعة، فماذا يدفع الذي أخذ بالشفعة؟ ماذا يدفع في المقابل وقد أُعطيت بلا مقابل؟ فيرجعون فيه إلى قيمة المثل، فيسلّمها للموهوب له على من قال بذلك.
والجمهور قالوا: إذا هي من دون ثواب هبة، من دون مقابل، دخلت الملك من دون عوض، فلا شفعة فيها، كما هو في مذهب الإمام الشافعي وغيره.
"قَالَ مَالِكٌ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً فِي دَارٍ أَوْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَلَمْ يُثَبْ مِنْهَا، وَلَمْ يَطْلُبْهَا"؛ لم يثب: ما أُعطي مقابل لهذه الهبة، ولا طلب شيء، "فَأَرَادَ شَرِيكُهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا،" بقيمة مثلها "فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا"، فمذهبه كمذهب الإمام الشافعي أن الهبة بلا ثواب، والداخل من غير عوض، أو الموهوب بغير عوض، لا شفعة فيه. "فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا، فَإِنْ أُثِيبَ، فَهُوَ لِلشَّفِيعِ بِقِيمَةِ الثَّوَابِ."؛ يجوز له أن يشفع بقيمة الثواب.
إذًا؛ فإذا كانت الهبة بعِوَض وتقابضا، وجَبَت الشفعة، لأن المعاوضة موجودة عند التقابض. وإذا قبض أحدهما دون الآخر، فيقول أبو حنيفة: لا شفعة. ولكن عند بعض الحنفية: تجب الشفعة بنفس العقد، وهذا هو الأظهر عند الشافعية، وأن الشفعة تثبت بمجرد العقد، أي: فإن الهبة بثواب كالبيع، فكأنه باع.
قال: "قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصاً" قطعة "فِي أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ"، رجل أجنبي اشترى من شريكه نصيبه من هذه الأرض "إِلَى أَجَلٍ" بثمن معين، لكن إلى أجل، إلى بعد سنة سيسلمه، بعد شهر بعد شهرين سيسلمه.. "فَأَرَادَ الشَّرِيكُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، قَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ مَلِيًّا" هذا الذي يريد أن يأخذ بالشفعة "إِنْ كَانَ مَلِيًّا"؛ يعني: غنيًا قادرًا ولا يُخاف منه ألا يؤدي هذا الثمن، إذا مرّ الشهر، أو إذا مرّت السنة بل رجل مقتدر سيؤدي الثمن، "فَلَهُ الشُّفْعَةُ"؛ أي: يجوز له أخذها بالشفعة "بِذَلِكَ الثَّمَنِ" الذي اشتراه به المشتري "إِلَى ذَلِكَ الأَجَلِ"؛ يأخذ الشفعة ويثبت له الأجل الذي باع شريكه عليه المشتري الجديد، شهر، شهرين، سنة، سنتين… حسب ما كان من الأجل ينتقل إلى هذا "إِلَى ذَلِكَ الأَجَلِ". فهكذا مذهب الإمام مالك فيأخذ الشفعة بأجلها "إِلَى ذَلِكَ الأَجَلِ" الذي عيّنه المشتري.
"وَإِنْ كَانَ" الشفيع "مَخُوفاً"؛ أي: يُخاف منه "أَنْ لاَ يُؤَدِّىَ الثَّمَنَ إِلَى ذَلِكَ الأَجَلِ"، وقال: سآخذ بحق الشفعة، قال الإمام مالك الآن اختلف الحال، هو باع على واحد ملي بأجل، وأنت غير ملي، فكيف تدخل في الأجل؟ فما هو العمل؟ قال يجيء بضامن سمّاه حميل، "فَإِذَا جَاءَهُمْ"؛ يعني: جاء إلى الشركاء "بِحَمِيلٍ"؛ يعني: كفيل وضامن "مَلِيٍّ" مثل ذا الذي اشترى الجديد، "مَلِيٍّ ثِقَةٍ، مِثْلِ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ الشِّقْصَ فِي الأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَذَلِكَ لَهُ". يقول أنا لست ملي، ولكن سآتي لكم بضامن يضمن، أنّنا في هذا الأجل سنسلم لكم الثمن، والضامن ملي.
إذًا، من اشترى قطعة من أرض من واحد شريك بثمن مؤجل، فيجوز للمشترك الأول -الشريك الأول- أن يأخذ تلك القطعة بمثل ذلك الدين إلى ذلك الأجل، فمن حكم الشفعة إنفاذها بمثل الثمن الأول في قدره، وفي صفته، هذا مذهب الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
ولكن قال أبو حنيفة والإمام الشافعي: إنما له أن ينقد الثمن في الحال، أو ينتظر إلى أن ينتهي الأجل، وعند الأجل يشتريها ويأخذها وقد انقضى الأجل، يعني: يأخذ بالشفعة وقد انقضى الأجل.
إذًا؛ هكذا يقول أبو حنيفة والشافعي: ليس له الأخذ إلا بثمنه حالاً، أو ينتظر إلى أن يحلّ الأجل، فيأخذه أيضًا بالنقد، وأما أن يأخذ بنفس الثمن مؤجلاً كما فعل ذلك فإنه يختلف -كما قال الحنفية وغيرهم: أن الذمم تختلف، هو ذمة ذاك رضي أن يتأخر إلى شهر، إلى سنة، الثاني هذا يقول: إما أن تدفع مباشرة، أو تنتظر ينتهي الشهر أو السنة، وتدفع مباشرة. فإذا حصلت المماثلة، صحّت الشفعة.
إذًا؛ علمنا أن مذهب الإمام الشافعي وأبي حنيفة أن للشفيع هذا الخيار:
- بين أن يعجّل الثمن من دون أجل ويأخذ الشقص المدفوع.
- أو يصبر إلى أن يحل الأجل ويدفع الثمن ويأخذ الشفعة.
أما يقول الآن أنا أخذت بالشفعة والأجل واقف لي، نقول: لا؛ هذا هو مذهب الإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة.
وأما الإمام أحمد بن حنبل، فكان مثل الإمام مالك يقول:
- إذا كان الثمن مؤجلًا، فالشفيع يأخذ بذلك الأجل إن كان مليًا -كما قال الإمام مالك-.
- وإلا أقام ضمينًا مليًّا وأخذ بالشفعة، هذا مذهب مالك ومذهب الإمام أحمد بن حنبل -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى-.
إذا كان الشريك باع حصّته على مشترٍ بأجلٍ؛ بثمنٍ معينٍ إلى أجل، قال الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي: الشريك إذا أراد أن يأخذ بالشفعة، يأخذ الثمن معجلاً، ينقد الثمن ويسلمه معجلاً، أو ينتظر حتى ينتهي الأجل، ويسلم الثمن، ويأخذ الشفعة.
وعلى هذا ما يضر هذا الانتظار والتأخير، لأنه لعذر، ولوجود الأجل فيه في أصل البيع، وأما إذا باعه منَجّزًا من دون أجل، فعلِم الشريك فلم يأخذ بحق الشفعة بَطَلت، إذا تأخر عن الأخذ بحق الشفعة بَطَل حقه، لأنك دريت وعلمت وسكتَّ، والآن قلت أنا سآخذ بحق الشفعة! انتهى حقك لأنك ما باشرت أداء الحق، فالمعنى أنك رضيت وسكتّ، فقد صحت البيعة.
"قَالَ مَالِكٌ: لاَ تَقْطَعُ شُفْعَةَ الْغَائِبِ غَيْبَتُهُ"، باع شريكه على واحد جديد، وهذا ما درى كان غائب مسافر، بعد مدة وصل، قال: قد البيعة لها خمسة أشهر خلاص، ما انتهى الأمر الرجال وصل الآن فله حقه ومكانه من الوقت الذي علم فيه ودرى من حين وصوله فله الأخذ بحق الشفعة.
"لاَ تَقْطَعُ شُفْعَةَ الْغَائِبِ غَيْبَتُهُ وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ"؛ أي: لطول غيبته " عِنْدَنَا حَدٌّ تُقْطَعُ إِلَيْهِ الشُّفْعَةُ"؛ بل ما دام غائب غير عالم، فله الحق. وهذا فيما لم يعرف، ولم يتأتى فيه أن يعرف بأخذه بالشفعة، أما مع توفر الأسباب، ووجود الإعلانات أن فلان اشترى، وأن فلان باع، أو وصول الخبر من قِبل ذا أو ذاك بهذه الوسائل الموجودة، فيلزمه عند وصول الخبر أن يأخذ بحق الشفعة عبر الاتصال وما إلى ذلك، ولا يكون له حكم الغائب. إلا ألّا يدري، أو أن لا يتأتى بالإبلاغ كذلك، وبقي مكتوف ما يقدر يبلغ حتى يصل، فحيئذٍ هذا هو الحكم الذي ذكره الإمام مالك.
- فالأخذ بالشفعة ثابت ما لم يترك أو يظهر منه ما يدل على الترك، فإذا جاء من طول المدة ما يُعلم أنه تارك للشفعة، فلا.
- وهكذا، قلنا إذا علم فلا عذر له، وحقه أن يباشر ويبادر فإن حق الشفعة على الفور كما هو عند الشافعية والحنابلة وغيرهم.
قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُوَرِّثُ الأَرْضَ نَفَراً مِنْ وَلَدِهِ، ثُمَّ يُولَدُ لأَحَدِ النَّفَرِ، ثُمَّ يَهْلِكُ الأَبُ"؛ أي: يموت "فَيَبِيعُ أَحَدُ وَلَدِ الْمَيِّتِ حَقَّهُ فِي تِلْكَ الأَرْضِ: فَإِنَّ أَخَا الْبَائِعِ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مِنْ عُمُومَتِهِ شُرَكَاءِ أَبِيهِ."، رجل مثلاً زيد ورّث أرض لعدد من أولاده؛ عمرو وبكر وخالد… ثم يولد لأحد هؤلاء النفر من الأولاد -مثلاً عمرو- اثنين أولاد: هود وصالح، ثم يهلك الأب عمرو هذا، من الذي يرثه؟ يرثه ولداه هود وصالح، فيبيع أحد ولدَ الميت -أولاد عمرو هؤلاء- حقه في تلك الأرض، وهم قد ورثوها من أبيهم الذي هو أخ هؤلاء الشركاء.
إذًا؛ فنصيبهم الذي ورثوه من أبيهم من تلك الأرض، وأعمامهم شركاء في الأرض، فلما مات أبوهم، ما كان الحق لأعمامهم أن يأخذوا بالشفعة، لأن هذا إرث، والإرث لا شفعة فيه، ما تجيء الشفعة في الإرث، مات شريكك، وأعطى لولده فتقول أنا سآخذ بحق الشفعة! ايش من شفعة لك؟! ما باع الرجل، الرجل مات الله يرحمه خلاص، فانتقل حقه لورثته رغم أنفك، إن هم أرادوا يبيعوا عليك فلهم الحق، وإن ما أرادوا فهم شركاء جدد حلّوا محل أبيهم، لا حق لك في أخذ الشفعة، ما أخذوا الأعمام بالشفعة على أولاد أخيهم لأن أخاهم هذا مات فتركه إرث.
واحد من أولاد أخيهم هذا باع حصته من أبيه، فمن الذي يشفع الآن في الأرض؟
- الأرض فيها أعمامهم شركاء.
- وهم بنصيب أبيهم شركاء.
واحد من أولاد الميت هذا باع نصيبه فقط لواحد ثاني، فقالوا إخوانه: نحن سنآخذ بحق الشفعة، قالوا أعمامهم ونحن مثلكم كلنا شركاء في الأرض! قال الإمام مالك -عليه رحمة الله-: فَإِنَّ أَخَا الْبَائِعِ" هذا الذي هو ولد أخيهم "أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مِنْ عُمُومَتِهِ" وإن كانوا "شُرَكَاءِ أَبِيهِ."؛ هم شركاء أبيه نعم، ولكن أبوه الآن خلّف هذا القسط، والقسط ورثه هؤلاء، فهم أحق فيه بالشفعة من أعمامهم.
وهكذا؛ فالإخوة إذا ورّثوا أرضًا؛ فيُتوفى أحدهم ويُورّث ولده، وباع أحد أولاد هذا الميت نصيبه، فإخوة البائع أحق بشفعة ما باع من أعمامهم، هم أحق من أعمامهم بالشفعة. هكذا علمنا المسألة، فلو ورث أخوان دارًا مثلًا، واشتريا بينهما نصفين، أو غير ذلك، فمات أحدهم معه ابنين، الابنين ورثوا حصة أبيهم، وأحد الابنين باع نصيبه، الشفعة بين من؟
- يقول الإمام مالك: للأخ فقط، لأخ البائع ولا شيء لعمّه.
- ولكن قال الآخرون كالحنابلة والإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة قالوا: الأرض مشتركة لا زالت بين الكل، وإن كان هؤلاء دخل عليهم نصيب أبيهم متأخر بسبب إرثهم له، لكن الشركة ثابتة بين الجميع، فإذا باع أحد منهم نصيبه، فالشفعة صالحة وجائزة للكل؛ لكل الشركاء في الأرض، سواءً الأعمام، أو الإخوان للبائع هذا؛ فهم عند الأئمة الثلاثة شيء واحد.
- وعند الإمام مالك يقول: لا، هؤلاء إخوانه أحق بالشفعة في هذا القسم دون أعمامهم، فإن ذلك القسم قد كان حقًا لهؤلاء، فإذا باع أحدهم نصيبه منه فهم أحق به من أعمامهم، وإن كانوا شركاء في الأرض.
- قال الأئمة الثلاثة: لا، بل هم وأعمامهم شركاء، فإذا أحدهم باع، فحق الشفعة للجميع تثبت، نعم.
- وفي المذهب القديم للإمام الشافعي كمذهب الإمام مالك: أن الأحق بالشفعة إخوانه المباشرين.
"قَالَ مَالِكٌ: الشُّفْعَةُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ"؛ يأخذ كل شفيع على قدر حصّته، تساوي ربع، نصف، ثلث… فيأخذ في المشفوع فيه مثل ذلك، يقول: "يَأْخُذُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ، إِنْ كَانَ قَلِيلاً فَقَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ كَثِيراً فَبِقَدْرِهِ، وَذَلِكَ إِنْ تَشَاحُّوا"؛ يعني: تنازعوا "فِيهَا".
"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ مِنْ شُرَكَائِهِ حَقَّهُ، فَيَقُولُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ: أَنَا آخُذُ مِنَ الشُّفْعَةِ بِقَدْرِ حِصَّتِي. وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَ الشُّفْعَةَ كُلَّهَا أَسْلَمْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَدَعَ فَدَعْ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا خَيَّرَهُ فِي هَذَا وَأَسْلَمَهُ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ إِلاَّ أَنْ يَأْخُذَ الشُّفْعَةَ كُلَّهَا، أَوْ يُسْلِمَهَا إِلَيْهِ، فَإِنْ أَخَذَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِيهَا."
لما دخل هذا الشريك الجديد، قال واحد من الشركاء القدامى: أنا سآخذ شفعة بمقدار حقي فقط، والباقيين هم وشأنهم إن أرادوا يأخذون منك أو لن يأخذون، قال الشريك الجديد: الآن أنت إما خذ الشفعة كلها وأسلمها لك، وإما أتركها لي وخلني شريك معكم، قال الإمام مالك: له الحق في ذلك. بعد هذا الخيار نقول له: إما تُسلّم شفعة كاملة، أو اتفق مع شركائك الآخرين وخذوها كلكم، وأما إذا بعضكم ما يريد أن يأخذ بحق الشفعة، فالذي يريد أن يأخذ بالشفعة لابد يأخذ الشفعة كلها أو يرضى بالشريك الجديد.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الأَرْضَ فَيَعْمُرُهَا بِالأَصْلِ يَضَعُهُ فِيهَا، أَوِ الْبِئْرِ يَحْفِرُهَا، ثُمَّ يَأْتِي رَجُلٌ فَيُدْرِكُ فِيهَا حَقًّا، فَيُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ: إِنَّهُ لاَ شُفْعَةَ لَهُ فِيهَا"
"يَشْتَرِي الأَرْضَ فَيَعْمُرُهَا بِالأَصْلِ"؛ أي: بأصل الشجر يضعه فيها "أَوِ الْبِئْرِ يَحْفِرُهَا" فيها "ثمَّ يَأْتِي رَجُلٌ فَيُدْرِكُ فِيهَا حَقًّا، فَيُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ" التي هي حق له، قال مالك: "إِنَّهُ لاَ شُفْعَةَ لَهُ فِيهَا، إِلاَّ أَنْ يُعْطِيَهُ" الشفيع المشتري "قِيمَةَ مَا عَمَرَ" في مثل ما ذكرنا من الغائب مثلاً، لم يعلم، فهذا لما اشترى حفر بئر، وغرس الأرض… ثم جاء ذا قال أنا آخذ بحق الشفعة، يقول هذا: وذا البئر الذي حفرتها، والتعب الذي تعبته أنا في الأرض هذه أين تروح إذا أخذت بحق الشفعة؟! قال: "إِنَّهُ لاَ شُفْعَةَ لَهُ فِيهَا، إِلاَّ أَنْ يُعْطِيَهُ" يعطي المشتري "قِيمَةَ مَا عَمَرَ" من الأشجار، أو حفر من البئر، "فَإِنْ أَعْطَاهُ قِيمَةَ مَا عَمَرَ كَانَ أَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا."؛ فهذا الحكم إذا غرس وعمل شيء في الأرض.
"قَالَ مَالِكٌ: مَنْ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ أَرْضٍ، أَوْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الشُّفْعَةِ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ اسْتَقَالَ"؛ كيف استقال؟
الشريك الأول راح استقال المشتري، قال له: خلاص ردّيت البيعة، قال: مرحبا، ما دام ما عاد تريد تبيع خلاص رد لي فلوسي وخذ الأرض.. قال بهذه الطريقة ما يسقط حق الشركاء، يقول: أنت قد بعت وقد رضيت تبيع، الآن بالإقالة، استقلته وأقالك، تريد تفوِّت علينا حق الشفعة؟! اخرج من الأرض خلاص، نحن نعطيك الثمن الذي بعتها به أولاً وهو لنا.
قال: "مَنْ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ أَرْضٍ، أَوْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الشُّفْعَةِ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ"، راح إلى المشتري قال له: أقلني خلاص أنا برجع خذ حقك، فقَبِل وأقاله.. "لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَالشَّفِيعُ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ بَاعَهَا بِهِ"؛ لأنك متلاعب.. بتدخّل عليهم واحد غيرك، فلما علمت أن لهم حق الشفعة، قلت خلاص أنا بدخل برجع ثاني مرة! لا إله إلا الله…
فإذًا، الإقالة لا تبطل الشفعة باتفاق الأئمة.
جعلنا الله من المقتدين بهدي سيد المرسلين، والعاملين بشريعته في جميع شؤوننا ظاهرًا وباطنًا، وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وثبّتنا على ما يحب وجعلنا فيمن يحب، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
20 ذو القِعدة 1443