شرح الموطأ - 377 - كتاب الأرض: باب ما جاء في كِرَاء الأرض

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الأرض، باب مَا جَاءَ فِي كِرَاءِ الأَرْضِ.
فجر الثلاثاء 15 ذي القعدة 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي كِرَاءِ الأَرْضِ
2083 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ.
قَالَ حَنْظَلَةُ : فَسَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ فَقَالَ: أَمَّا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
2084 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ.
2085 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ الْحَدِيثَ الَّذِي يُذْكَرُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَقَالَ: أَكْثَرَ رَافِعٌ، وَلَوْ كَانَت لِي مَزْرَعَةٌ أَكْرَيْتُهَا.
2086 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَكَارَى أَرْضاً، فَلَمْ تَزَلْ فِي يَدَيْهِ بِكِرَاءٍ حَتَّى مَاتَ، قَالَ ابْنُهُ: فَمَا كُنْتُ أُرَاهَا إِلاَّ لَنَا مِنْ طُولِ مَا مَكَثَتْ فِي يَدَيْهِ، حَتَّى ذَكَرَهَا لَنَا عِنْدَ مَوْتِهِ، فَأَمَرَنَا بِقَضَاءِ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا، ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ.
2087 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ.
2088 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ أَكْرَى مَزْرَعَتَهُ بِمِئَةِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الْحِنْطَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مكرمنا بشريعته الغرّاء وبيانها على لسان خير الورى، سيدنا محمد الراقي إلى أعلى الذُّرى، صَلَّى الله وَسَلَّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الكبراء، وعلى من والاهم في الرحمن وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من رفع الله لهم قدرًا وذكرا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيتحدث الإمام مالك عن حكم كِراء وإجارة الأرض وما جاء في ذلك.
- والذي عليه الجمهور: جواز كِرائها سواءً كان بالذهب والفضة أو بِأي شَيْءٍ آخر.
- واستثنى من ذلك الإمام مالك ما يخرج منها، أو ما كان من جنس ما ينبت فيها ويخرج منها، فلا يصحُّ عنده الإجارة على ذلك.
كما أنه شذَّ بعضهم فقال: لا يجوز كِراء الأرض قطعًا ولا الإجارة بأي شيء كان.
وعلمنا أن مذهب الشافعية: أيضًا كان هو إنما يجوز المساقاة وكذلك مزارعة الأرض التي فيها مساقاة، أي: الأرض التي فيها من أشجار النخيل أو العنب وبينها بياضٌ فيكون تابعًا لذلك وذلك جائز. على أن مذهب الإمام أحمد بن حَنْبَل -عليه رحمة الله-: أن المزارعة نفسها من دون المساقاة ومن دون أن يكون شجر جائزة، أن يؤجّر الأرض للزراعة على جزء مما يخرج من ريعها.
أورد لنا حديث: "عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ"؛ والحديث في الصحيحين.
"قَالَ حَنْظَلَةُ: فَسَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟"؛ الفضة؛ يعني: هل نُهِيَ عن كِرائها بالذهب والورق؟، "فَقَالَ: أَمَّا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ"؛ فدلّ على أن النهي إنما كان متعلق بإيجارها بشيء مما يخرج منها، أو بجعل جزء مما يخرج منها مستقلًا ذلك عن نخل وعن عنب. ومن هنا جاء اختلاف الأئمة في إجارة الأرض سواءً للزراعة أو لغيرها.
- واشترط الشافعية: أن يُبيَّن الغرض الذي تُؤجّر لَـهُ، فتُستأجر الأرض:
- من أجل الزراعة فيها
- أو من أجل البناء عليها
- أو من أجل دفن ميت فيها، أو غير ذلك من أنواع الانتفاعات التي ينتفعون بها.
وهكذا، كما قلنا أن الجمهور على جواز إجارة الأرض للزراعة: بمعرفة الأرض، ورؤيتها، وتعيينها، وتكون بأُجرة معيّنة. فإذا كان من أجل الزرع: فلا بد أن يكون لها ماء يؤمَن دوامه لأجل الزراعة، ويؤمن انقطاعه، إما فيها أو قريبًا منها يتيسر سقيها منه.
وفي هذا الحديث الذي قرأنا تبيين فهم الراوي: أن النهي عن كِراء الأرض لم يكن مطلقًا، فلذلك لمّا سُئل عن كِرائها بالذهب والفضة قال: لا بأس به.
ومن المعلوم كذلك ما جعل ﷺ كما تقدم معنا لأهل خَيْبَر العمل في الأرض على أنّ لهم نصف ما يخرج منها، واستمر ذلك إلى وفاته ﷺ ثُمَّ في عهد الخلفاء الراشدين -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
وذكر: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ". فذاك قول رافع بن خديجَ الصحابي، وهذا قول التابعي سعيد بن المسيب، فأشار الإمام مالك إلى أن الأمر واضح وبَيِّن في عهد الصحابة وعهد التابعين.
وكذلك روى عن عبدالله بن عمر أن ابنه سالم سُئِلَ عن عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، "فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ".
"قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ الْحَدِيثَ الَّذِي يُذْكَرُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَقَالَ: أَكْثَرَ رَافِعٌ"؛ يعني: أتى بكثير موهِم غير المراد، مع أن رافع قد بيّن لما سُئل عن الإيجار بالذهب والفضة، قال: لا بأس بذلك، لكن لم يبلغ ذلك سالم بن عبدالله؛ فقال: إن حديثه من الأحاديث التي قَدْ توهم غير المراد والمقصود، وأكثرَ من ذلك رافع فيما يرويه. "وَلَوْ كَانَت لِي مَزْرَعَةٌ أَكْرَيْتُهَا"؛ يقول سيدنا سالم بن عبدالله، أي: أنه متيقِّن من حِلِّ ذلك ولو كان عندي لفعلته.
ثُمَّ ذكر لنا حديث عبدالرحمن بن عوف: "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَكَارَى"؛ أي: استأجر أرضًا، "أَرْضاً، فَلَمْ تَزَلْ فِي يَدَيْهِ بِكِرَاءٍ حَتَّى مَاتَ، قَالَ ابْنُهُ: فَمَا كُنْتُ أُرَاهَا إِلاَّ لَنَا مِنْ طُولِ مَا مَكَثَتْ فِي يَدَيْهِ"؛ يعني: سنين عديدة، "حَتَّى ذَكَرَهَا لَنَا عِنْدَ مَوْتِهِ، فَأَمَرَنَا بِقَضَاءِ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا، ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ".
ثُمَّ ذكر لنا حديث عُرْوَةَ: "أَنَّهُ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ".
وذكر سؤال مَالِكٌ: "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ أَكْرَى مَزْرَعَتَهُ بمئة صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الْحِنْطَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ"؛ فإن عنده لا يجوز كِراؤها بالطعام وبما تُنبته الأرض لهذا كَرِه ذلك.
إذًا؛ عندهم لا يجوز كِراء الأرض للزراعة بطعام سواءً أنبتته أو لم تُنبته كاللبن، أو بما تُنبته غير طعام: كقطن وكُتّان وعصفر وزعفران، فاشترط أن يكون إيجار الأرض بغير ما يَنبُتُ فيها، وبهذا أنهى الكلام على كِراء الأرض ليدخل في كتاب الشُّفْعَة.
وهكذا فهمنا الخلاف: إذا كان أُجرة الأرض مما تُنبته الأرض؛
- قال الحنفية والحنابلة: أنّ ذلك جائز، يعني إجارتها ببعض الخارج منها وإن لم يكن هناك نخل ولا عنب.
- وقال المالكية والشافعية: لا يكون إجارتها ببعض ما يخرج منها -على المعتمد عندهم- وإنما تأجيرها للزراعة إذا كانت مدة يكفي فيها أن يحصد من وراء الزراعة ومضمونٌ ماؤها فيؤجّرها بأُجرة معلومة، أما إن كان بما يخرج منها: فإن كان تبعًا للنخيل والعنب جاز ذلك، وإلا فلا.
- ولكن قال الحنفية والحنابلة: يجوز تأجير الأرض بشيءٍ أو بنسبة جزء مما يخرج منها.
- وهكذا علمنا رأي الجمهور: أنه يجوز إجارة الأرض، ولكن على اختلاف في غير الذهب والورِق، ثُمَّ في غير ما يخرج منها، أو طعام: أي طعام كان، أو شيء مما يخرج منها من غير الطعام؛ فذلك الذي لم يجزه مالك ومن وافقه وقال: إنما يكون إخراج إيجارها بشيء آخر من غير ما يخرج منها، من غير جنس الذي يخرج منها.
وإذًا؛ القائل بجواز الكِراء بما يخرج منها هم: الحنابلة وصاحبا أَبِي حنيفة، قالا: بجواز أن يؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها وأخذوا بعموم حديث خَيْبَر، وقالوا: إن حديث خَيْبَر أولى من حديث رافع بن خديجَ؛ لأنه مضطرب المتن ولكونه مستمر، ولو فرضنا النسخ؛ لو قلنا بصحّة حديث رافع فلا يتأتّى أن يكون حديث رافع ناسخ لهذا لأن خَيْبَر بقيت طول حياة النَّبِيُّ ﷺ وهي مؤجّرة بهذه الإجارة، فلا يتأتّى أن يكون حديث رافع ناسخ لها، فإن كان نسخ فحديث خَيْبَر ناسخ لحديث رافع لا العكس، ولكونه استمر أيضًا بعد وفاته.
ومن غير شك أن منح المؤمن أخاه الأرض لينتفع بها أفضل وأجلّ، وهذا بلا شك ولا جدل فيه، ولكن الكلام في الجواز، فذلك يجوز عند الجمهور:
- إن كان بما يخرج منها فعند صاحبي أَبِي حنيفة والإمام أحمد.
- وإن كان بالذهب والوَرِق فعند الجمهور.
- وإن كان بشيء مما يخرج منها فمنعه مالك والشافعية أيضًا بجزء مما يخرج منها إلا أن يكون تبع المساقاة.
وأيضًا جاء في الحديث النهي عن أن يقول: الجزء من الأرض ما تخرجه لك، والجزء ما تخرجه لي فهذا ممنوع؛ لأنه قَدْ يفسد أحد الأجزاء وتنزل به جائحة أو يمتنع زرعه، وإنما على العموم عند من أجازه.
وقرأنا حديث عبدالرحمن بن عوف أن ولده قال: "فَمَا كُنْتُ أُرَاهَا إِلاَّ لَنَا"؛ لأن والده يسرح عليها ويظن أنها مُلكَ أبيه حتى أخبرهم عند موته، وَفيهِ: اعتناء الصحابة بالوصية وبالانتباه من حقوق الخلق. "فَأَمَرَنَا بِقَضَاءِ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا، ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ"؛ أي: ذهب أو فضة.
قال الشافعية: فأما إذا أجّر الأرض بشيءٍ مما يخرج من زرعها ولم يكن مساقاة؛
- فإن كان البذر من المالك: فهي المزارعة.
- وإن كان البذر من العامل: فهي المخابرة.
- فإن كان المزارعة والبذر من المالك: فجميع هذا الزرع وما أنتج للمالك وللعامل أجرة المثل.
- وإن كان البذر من العامل: فجميع نتيجة البذر للعامل، وللمالك للأرض أجرة الأرض، كم إيجارها خلال هذه المدة؟ إذا استأجرها المزارع فيُعطى أجرته، وصاحب البذر هو الذي يأخذ الزرع والنتيجة والثمرة.
- فإن كان بعضه من العامل وبعضه من المالك، نصفه من عند هذا ونصفه من عند هذا؛ فالمحصول والناتج بينهما، وللعامل أجرة العمل في النصف، وللمالك أجرة الأرض للنصف.
فهذا الحكم عند الشافعية إذا زرع أو خابر من دون أن يكون ذلك تبعًا للمساقاة، أي: لأشجار النخيل أو العنب، وبعده كتاب الشّفعة.
رزقنا الله اتباع الشفيع، والاقتداء به في الأمر جميع، وشفّعه فينا وأدخلنا في جاهه الوسيع، ورقّانا به إلى مقام القرب الرفيع، ودفع به عنّا وعن أمته البلايا والآفات والرزايا في الظواهر والخفيّات، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
18 ذو القِعدة 1443