شرح الموطأ - 376 - كتاب المُسَاقاة: تتمة باب ما جاء في المُسَاقَاة

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الْمُسَاقَاةِ، تتمة باب مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ، وباب الشَّرْطِ فِي الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاة.
فجر الإثنين 14 ذو القعدة 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ
2076 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُسَاقِي: إِنَّهُ لاَ يَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي سَاقَاهُ شَيْئاً مِنْ ذَهَبٍ، وَلاَ وَرِقٍ يَزْدَادُهُ، وَلاَ طَعَامٍ، وَلاَ شَيْئاً مِنَ الأَشْيَاءِ، لاَ يَصْلُحُ ذَلِكَ وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَاقَى مِنْ رَبِّ الْحَائِطِ شَيْئاً يَزِيدُهُ إِيَّاهُ، مِنْ ذَهَبٍ، وَلاَ وَرِقٍ، وَلاَ طَعَامٍ، وَلاَ شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ، وَالزِّيَادَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا لاَ تَصْلُحُ.
2077 - قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُقَارِضُ أَيْضاً بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لاَ يَصْلُحُ، إِذَا دَخَلَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمُسَاقَاةِ أَوِ الْمُقَارَضَةِ صَارَتْ إِجَارَةً، وَمَا دَخَلَتْهُ الإِجَارَةُ، فَإِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الإِجَارَةُ بِأَمْرٍ غَرَرٍ، لاَ يَدْرِي أَيَكُونُ، أَمْ لاَ يَكُونُ، أَوْ يَقِلُّ أَوْ يَكْثُرُ.
2078 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُسَاقِي الرَّجُلَ الأَرْضَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْكَرْمُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأُصُولِ، فَيَكُونُ فِيهَا الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ. قَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ الْبَيَاضُ تَبَعاً لِلأَصْلِ، وَكَانَ الأَصْلُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وأَكْثَرَهُ، فَلاَ بَأْسَ بِمُسَاقَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَيَكُونَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيَاضَ حِينَئِذٍ تَبَعٌ لِلأَصْلِ، وَإِذَا كَانَتِ الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ فِيهَا نَخْلٌ أَوْ كَرْمٌ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنَ الأُصُولِ، فَكَانَ الأَصْلُ الثُّلُثَ أَوْ أَقَلَّ، وَالْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، جَازَ فِي ذَلِكَ الْكِرَاءُ، وَحَرُمَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يُسَاقُوا الأَصْلَ وَفِيهِ الْبَيَاضُ، وَتُكْرَى الأَرْضُ وَفِيهَا الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الأَصْلِ، أَوْ يُبَاعَ الْمُصْحَفُ أَوِ السَّيْفُ وَفِيهِمَا الْحِلْيَةُ مِنَ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ، أَوِ الْقِلاَدَةُ أَوِ الْخَاتَمُ وَفِيهِمَا الْفُصُوصُ وَالذَّهَبُ بِالدَّنَانِيرِ، ولم تزل هذه البيوع جائزة يتبايعها الناس ويبتاعونها، ولم يأتِ في ذلك شيءٌ مَوصُوفٌ مَوقُوفٌ عَلَيهِ اذا كَانَ بَلَغَهُ كَانَ حَرَاماً، أو قَصُرَ عنهُ كَانَ حَلَالاً، والأمْرُ في ذَلِكَ عِندَنَا الذِي عَمِلَ بِه النَّاسُ وأجَازوه بينَهُم، أنَّهُ إذا كانَ الشيءُ مِن ذلِكَ الوَرِقِ أو الذَّهبِ تَبعَاً لِمَا هُوَ فيهِ جَازَ بَيعُه، وَذَلكَ أنْ يكونَ النَّصلُ أو المُصْحَفُ أَوِ الْفُصُوصُ قِيمَتُهُ الثُّلُثَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَالْحِلْيَةُ قِيمَتُهَا الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ.
باب الشَّرْطِ فِي الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاةِ
2079 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي عُمَّالِ الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاةِ يَشْتَرِطُهُمُ الْمُسَاقَى عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ، إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، لأَنَّهُمْ عُمَّالُ الْمَالِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِمْ لِلدَّاخِلِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَخِفُّ عَنْهُ بِهِمُ الْمَؤُونَةُ، وَإِنْ لَمَ يَكُونُوا فِي الْمَالِ اشْتَدَّتْ مَؤُونَتُهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْعَيْنِ وَالنَّضْحِ، وَلَنْ تَجِدَ أَحَداً يُسَاقَي فِي أَرْضَيْنِ سَوَاءً فِي الأَصْلِ وَالْمَنْفَعَةِ، إِحْدَاهُمَا بِعَيْنٍ وَاثِنَةٍ غَزِيرَةٍ، وَالأُخْرَى بِنَضْحٍ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، لِخِفَّةِ مُؤْنَةِ الْعَيْنِ، وَشِدَّةِ مُؤْنَةِ النَّضْحِ. قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنا.
قَالَ: وَالْوَاثِنَةُ الثَّابِتُ مَاؤُهَا الَّتِي لاَ تَغُورُ وَلاَ تَنْقَطِعُ.
2080 - قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْمُسَاقَى أَنْ يعمل بِعُمَّالِ الْمَالِ فِي غَيْرِهِ، وَلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي سَاقَاهُ.
2081 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَجُوزُ لِلَّذِى سَاقَى أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ رَقِيقاً يَعْمَلُ بِهِمْ فِي الْحَائِطِ لَيْسُوا فِيهِ حِينَ سَاقَاهُ إِيَّاهُ.
2082 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الَّذِي دَخَلَ فِي مَالِهِ بِمُسَاقَاةٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رَقِيقِ الْمَالِ أَحَداً يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا مُسَاقَاةُ الْمَالِ عَلَى حَالِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ رَقِيقِ الْمَالِ أَحَداً فَلْيُخْرِجْهُ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ، أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ أَحَداً فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ، ثُمَّ لْيُسَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ.
قَالَ وَمَنْ مَاتَ مِنَ الرَّقِيقِ أَوْ غَابَ، أَوْ مَرِضَ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْلِفَهُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مكرمنا بأحكامهِ وبيانِها على لسان نبيه محمدِ بن عبد الله، صلى الله وسلمَ وبارك وكرمَ عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن فازَ بولائه ومتابعتِه والائتمامِ به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، ساداتِ أهل محبة الله وأئمةِ أهل قُربه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكةِ المقربين، وجميعِ عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل الإمام مالكٌ ذكر المسائل المتعلقة بالمُساقاة. "قَالَ -عليه رحمة الله-: فِي الْمُسَاقِي: إِنَّهُ لاَ يَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي سَاقَاهُ شَيْئاً مِنْ ذَهَبٍ، وَلاَ وَرِقٍ يَزْدَادُهُ،" لنفسِه خاصةً، "وَلاَ طَعَامٍ، وَلاَ شَيءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ"، أيًّا ما كان "لاَ يَصْلُحُ ذَلِكَ "؛ بمعنى: لا يجوز. فإنما عليه العملُ في الحديقة والبستان وتلك الأشجار، وله الجزءُ الذي اتفقا عليه من الثمرةِ، لا غيرَ ذلك. "وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَاقَى"؛ يعني: العامل "مِنْ رَبِّ الْحَائِطِ شَيْئاً يَزِيدُهُ إِيَّاهُ"؛ يعني: يعطيه ربُّ الحائط العاملَ "مِنْ ذَهَبٍ، وَلاَ وَرِقٍ، وَلاَ طَعَامٍ، وَلاَ شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ، وَالزِّيَادَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا"، سواءً كان من ربِ الحائط أو العامل، "لاَ تَصْلُحُ." وهذا مجمَعٌ عليه.
فإذا شرطَ مع العملِ والنصيب من المحصول والثمرة، جزءًا معلوم أو دراهم معلومة فوق النصيب، فذلك لا يجوزُ؛ بالاتفاق أنه لا يصح ولا يجوز، إنما معاملة أباحَتْها الشريعةُ لمكان الحاجة إليها، فتُضبَطُ بضوابطِها:
- من تحديدِ العمل على العامل.
- ومن قِسمةِ الثمرةِ والناتج بينه وبين المالك، بحَسبِ النسبة، لا شيءَ غير ذلك.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُقَارِضُ أَيْضاً" مثل المساقي "بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لاَ يَصْلُحُ، إِذَا دَخَلَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمُسَاقَاةِ أَوِ الْمُقَارَضَةِ صَارَتْ إِجَارَةً" على أمرٍ غير معلوم، "وَمَا دَخَلَتْهُ الإِجَارَةُ، فَإِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الإِجَارَةُ بِأَمْرٍ غَرَرٍ، لاَ يَدْرِي أَيَكُونُ، أَمْ لاَ يَكُونُ، أَوْ يَقِلُّ أَوْ يَكْثُرُ."
إذًا؛ فإنما جاءت الرخصة لأجلِ القِراض ولأجل المساقاة بخصوصِهما، فلا يُتجاوَز ذلك، فيتحول إلى إجارةٍ بأجرٍ غير معلوم، وهو النصيبُ أو الجزء من المحصول، أو من الربحِ في القراض.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُسَاقِي الرَّجُلَ الأَرْضَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْكَرْمُ"؛ أي: العنب "أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأُصُولِ، فَيَكُونُ فِيهَا الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ" بين هذه النخيل، وبين هذه الأعناب، أرضٌ بيضاء، يصلحُ أن يَزرعَ فيها شيئًا. قال: "إِذَا كَانَ الْبَيَاضُ تَبَعاً لِلأَصْلِ" فيجوز حينئذٍ أن يَدخل، "وَكَانَ الأَصْلُ"- في اشتراط الإمام مالك أنه إذا كان البياضُ أقلَ من الأصل- "وَكَانَ الأَصْلُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وأَكْثَرَهُ، فَلاَ بَأْسَ بِمُسَاقَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَيَكُونَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ"؛ يعني: الأرضَ البيضاءَ التي لا زرعَ فيها، "وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيَاضَ حِينَئِذٍ تَبَعٌ لِلأَصْلِ."
- وهكذا قال الشافعية: إذا ساقاه على نخلٍ وكان بين النخل أرضٌ بيضاء تصلحُ للزرع، فيجوزُ أن يكون ذلك تبع للمساقاة، فيساقيه على الكلِّ، ويأخذ النصيبَ من الحاصل من ثمر الكُل.
- يقول الإمام مالك: بشرط أن يكونَ الأصل هو الغالب، والأرضُ البياض أقل، وهذا شرطٌ في مذهب الإمام مالك.
"وَإِذَا كَانَتِ الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ فِيهَا نَخْلٌ أَوْ كَرْمٌ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنَ الأُصُولِ، فَكَانَ الأَصْلُ الثُّلُثَ أَوْ أَقَلَّ، وَالْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، جَازَ فِي ذَلِكَ الْكِرَاءُ، وَحَرُمَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ."؛ يعني: يجوز حينئذٍ أن يعطيَه الأرضَ على الكراء، فيستأجر منه الأرضَ بأجرةٍ معلومة، "وَحَرُمَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ."؛ لأن الأجرة لا تكون حينئذٍ معلومةً، فعنده أن الأشجارَ الآن دخلت تبعًا للأرض، وإنما أجَّره الأرض.
"وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يُسَاقُوا الأَصْلَ وَفِيهِ الْبَيَاضُ، وَتُكْرَى الأَرْضُ وَفِيهَا الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الأَصْلِ"؛ يعني:
- إذا كان الأصل قليلاً فما تصح المساقاة، ولكن يمكنُ ان يستأجرَ الكل، والشجر تبعٌ للأرض.
- وإن كان الأصلُ هو الكثير، والقليلُ أرضٌ بيضاء، فيجوز أن يُساقيَه في الكل، فيكون البياضُ تبعاً للأصل.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام مالك عليه رضوان الله تعالى، وأخذَ بما أشارَ في الوصية ﷺ في قوله: "الثُلُثُ، والثُلثُ كثير"، فإذا كان مقدارُ الأرضِ البيضاء ثلثًا أو أكثر من الثلث، فلا تصحُ المساقاة، ويصحُ عنده الإجارة والكِراء.
"وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يُسَاقُوا الأَصْلَ وَفِيهِ الْبَيَاضُ" القليل "وَتُكْرَى الأَرْضُ وَفِيهَا الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الأَصْلِ،" الذي يُساقى، ولا تُؤجر ولا تُكارى عندما يكون الشجر قليل. يقول: إن هذا هو الأمرُ الشائع، المنتشرُ بين الناس في زمانه، في المدينة المنورة، من دون أن يُنكرَ نكير.
وذكر مسائل تناسب ذلك من البيوع:
قال "أَوْ يُبَاعَ الْمُصْحَفُ أَوِ السَّيْفُ وَفِيهِمَا الْحِلْيَةُ" اليسيرة؛ قليل "مِنَ الْوَرِقِ" من الفضة "بِالْوَرِقِ،" يعني يباع "بِالْوَرِقِ،" بالفضة، باع مصحفاً بفضةٍ، والمصحفُ هذا فيه زينةٌ محلى بفضةٍ، فكيف الآن؟
يقول: ما دامت الفضة هذه قليلةً، التي في المصحف -التي يزين بها المصحف-، والأكثرُ هو المصحف، فيُغتفر هذا، ويجوزُ أن يبيعَ المصحفَ بفضةٍ، أي: بدراهم.
فإن قيل: كيف هذا بيع فضة بفضة؟! فيُقال: لا، هذا إذا كان قل صار لا حكمَ له، والحكمُ للمصحف، والمقصود هو المصحف، فإن مقدار هذه الفضة لا يساوي شيئاً، فحينئذٍ يجوز.
قال: "يُبَاعَ الْمُصْحَفُ أَوِ السَّيْفُ" أيضاً السيفُ فيه حليةٌ محلى بورِق، -بفضة- فيباع بفضةٍ أيضًا -بدراهم-، "أَوِ الْقِلاَدَةُ أَوِ الْخَاتَمُ وَفِيهِمَا الْفُصُوصُ وَالذَّهَبُ"؛ يبيع القلادة؛ الذي يُعلق في العنق، أو الخاتم، وفيهما الفصوصُ والذهب، فيهم ذهب، ويبيعها بماذا؟ "بِالدَّنَانِيرِ،" فإذا قلنا إنه بيعُ الذهب بالذهب، لا بد من الحُلول والتقابضِ والتماثل.
فيُقال: ما دام هذا فيه زينة قليل فهو تبع، مثلما قلنا في الأرض، -مثل ما قال في مذهبه في الأرض-، إذا كان البياض قليل يصح المساقاة، وإذا كان الشجرُ قليل يصحُ الكراء،ُ قال: وهذا كذلك.
"أَوِ الْخَاتَمُ وَفِيهِمَا الْفُصُوصُ وَالذَّهَبُ بِالدَّنَانِيرِ، ولم تزلْ هذه البُيوعُ جائزةً" عند أهل العلم "يَتبايعُها الناسُ ويَبتاعونَها" بدون نكير،"ولم يأتِ في ذلكَ شيءٌ موصوفٌٍ"؛ يعني: نصٌ من كتاب ولا سنة "موقوفٌ عليهِ" يكون مدارًا حيث "اذا هوَ بَلغَه كانَ حَراماً ،او قَصُرَ عَنْهُ"؛ يعني: هذا المقدار "كَانَ حَلَالَاً،" ما جاء فيه شيء.. فيرجعُ إلى عملِ أهل المدينة المنورة زادَها الله شرفًا.
قال: "والأمْرُ في ذَلِكَ عِندَنَا الذِي عَمِلَ بِه النَّاسُ وأجَازوه بينَهُم، أنَّهُ إذا كانَ الشيءُ مِن ذلِكَ الوَرِقِ أو الذَّهبِ تَبعَاً لِمَا هُوَ فيهِ"؛ يعني: أقل منه، يسير، "جَازَ بَيعُه، وَذَلكَ أنْ يكونَ النَّصلُ" من السيف "أو المُصْحَفُ أَوِ الْفُصُوصُ قِيمَتُهُ"؛ يعني: قيمة الأصل "الثُّلُثَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَالْحِلْيَةُ" التي فيه.. ما تبلغ "قِيمَتُهَا الثُّلُثُ"، فتكون مجردَ ثلثٍ "أَوْ أَقَلُّ"، فحينئذٍ يجوز. وهذا محلُ اختلافٍ بين أهل العلم.
ويأتي فيه: أنه يدخل حينئذٍ إذا كان فيه ذهب وغيره بدنانير، أو فيه فضةٌ تابعة لشيء آخر بدراهم، أنه يأتي فيه مسألةُ مُدٍ وعَجوة، واختلف فيه الأئمة.
والمعتمدُ:
- لا يجوز عند الشافعية وكذلك عند الحنابلة.
- وفي قولٍ عند الحنابلة أنَّ ذلك جائزٌ.
- وعرفتَ فيه مذهب الإمام مالك: يَنظر إلى القِلة والكَثرة؛
- إذا كانت قيمة الذهب أو الفضة أقلَ من ثلث القيمة أو أقل جاز.
- وإن كان أكثرَ من الثلث ما يجوز باتفاق.
باب الشَّرْطِ فِي الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاة
وذكرَ "الشَّرْط فِي الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاةِ."؛ وهو أن يشترط العاملُ في المساقاة، أن يعمل معه الرقيقُ المملوك لرب المال، يقول له يشتغل معي، فما كان في الحائط من دوابٍ ومماليك، هؤلاء ليسوا من حق العامل. ولكن اختلفوا إذا شرط العاملُ ذلك على المساقي:
- قال مالك: يجوز -كما سمعت- فيما كان منها في الحائط قبلَ المساقاة.
- يقول إذا كان هؤلاء المملوكين هم أصلاً في هذا البستان، يشتغلون فيه من قبل المساقاة فساقاه، فيدخلون.
- وإن كان لا، ليسوا وسط البستان عملهم ثاني لكن يقول اجعلهم معي يساقون، فلا يجوز، هكذا يقول الإمام مالكٌ.
- يقول محمد بن الحسن من الحنفية: هذا لا يجوز أن يشترطَه العامل على رب المال، ولكن قال: يجوز لرب المال أن يشترطَ على العامل أن يشغِّل معه مملوكُه، لأن مملوكُه تبع له، كأنه هو، لأنه جزءٌ منه.
- ويقول الحنابلة كذلك: إذا شرطَ أن يعمل معه غلمان رب المال، قال: فهو كشرطِ عمل رب المال، وهذا باطل ما يصح، ويذكرون فيه وجهين عندهم.
وهكذا فالمالكية يعتبرون إن كان موجوداً وسط الحائط في يوم المساقاة، فهو من الحائط ويعمل، وإن لم يكن كذلك فلا.
"قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي عُمَّالِ الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاةِ يَشْتَرِطُهُمُ الْمُسَاقَى عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ، إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ."؛ يعني: الذين كانوا عماله وقت المساقاة، عمّال في نفس الحائط والبستان، "لأَنَّهُمْ عُمَّالُ الْمَالِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِمْ لِلدَّاخِلِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَخِفُّ عَنْهُ بِهِمُ الْمَؤُونَةُ،"، وإلا لا يملكهم ولا يدخلون في الثمرة ولا في الربح، ولكن يساعدونه في العمل، ويستفيد هذا.
"وَإِنْ لَمَ يَكُونُوا فِي الْمَالِ اشْتَدَّتْ مَؤُونَتُهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْعَيْنِ وَالنَّضْحِ"؛ أي: الماء الذي يحمله الناضح وهو الجمل. فإذا ساقى في أرضٍ فيها العين، دخلت في المساقاة، فهو يستفيد من تلك العين. والناضح: الجملُ الذي يَحمل الماءَ، ويُنزح عليه الماء.
"وَلَنْ تَجِدَ أَحَداً يُسَاقَي فِي أَرْضَيْنِ سَوَاءً فِي الأَصْلِ وَالْمَنْفَعَةِ، إِحْدَاهُمَا بِعَيْنٍ وَاثِنَةٍ"؛ يعني: عين دائمة ما تنقطع "غَزِيرَةٍ وَالأُخْرَى بِنَضْحٍ"؛ بالنزح "عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ"؛ يعني: ما تجد أحد يساقيهما على حصةٍ واحدة، فالذي يكثرُ فيه المشقةُ بسبب النزح والنضح، يحتاجُ إلى مقابلٍ أكثر. "لِخِفَّةِ مُؤْنَةِ الْعَيْنِ"؛ يصلّح لها المجرى فيدخل بسهولة، وأما النزحُ من البئر ليس مثل هذا، فيحتاج إلى نسبةٍ من الربح أكثر، صاحب النزح والنضح. "قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنا."
"قَالَ: وَالْوَاثِنَةُ الثَّابِتُ مَاؤُهَا الَّتِي لاَ تَغُورُ وَلاَ تَنْقَطِعُ"؛ هذه العين الواثنة، يعني: ثابتٌ ماؤُها، لا تغور ولا تنقطع.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْمُسَاقَى أَنْ يَعْمَلَ بِعُمَّالِ الْمَالِ فِي غَيْرِهِ،" هؤلاء حصلهم عمال في المزرعة هذه يخليهم يشتغلوا معه فيوصّيهم في حاجات أخرى ثانية ما لها تعلق في المزرعة! ممنوع… هؤلاء إنما بخصوص المزرعة فقط، كما هو مذهبه.
وليس من ذلك "أَنْ يعمل بِعُمَّالِ الْمَالِ فِي غَيْرِهِ، وَلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي سَاقَاهُ."؛ يعني: يشترطُ عملَهم في غير الحائط، يقول له ما دام هؤلاء هنا يساعدونا في البستان وفي أي شيء أنا سأستخدمهم، يقول: لا يجوز أن يشترطَ هذا الشرط.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَجُوزُ لِلَّذِى سَاقَى أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ رَقِيقاً يَعْمَلُ بِهِمْ فِي الْحَائِطِ لَيْسُوا فِيهِ حِينَ سَاقَاهُ إِيَّاهُ." وقتَ عقد المُساقاة، ليسوا في الحائط هم، فلا يدخلون فيه، ولا يجوزُ له أن يشترط شيئا ًعليهم.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الَّذِي دَخَلَ فِي مَالِهِ بِمُسَاقَاةٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رَقِيقِ الْمَالِ أَحَداً يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا مُسَاقَاةُ الْمَالِ عَلَى حَالِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ."؛ قال عندنا هؤلاء أرقاء تبع البستان لكن اسمع.. اثنين أنا سأخرجهم من عندك وآخذهم! فيقول: يوم عقدت العقد وهؤلاء تبع البستان والآن تأخذهم؟ يقول: لا!.. "قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الَّذِي دَخَلَ فِي مَالِهِ بِمُسَاقَاةٍ أَنْ يأخذ"؛ يعني: ربُ المال "مِنْ رَقِيقِ الْمَالِ أَحَداً يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا مُسَاقَاةُ الْمَالِ عَلَى حَالِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ" عند العقد.
"قَالَ مالك: فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ رَقِيقِ الْمَالِ أَحَداً فَلْيُخْرِجْهُ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ"؛ قبل عقد المساقاة يخرجه، ثم يُجري العقد بينه وبين المساقي. "أَوْ يُرِيدُ"؛ ربُ المال "أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ أَحَداً فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ" الإدخال والإخراج "قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ"؛ أي: قبل عقدِ المساقاة "ثُمَّ لْيُسَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ،" لأن عقدَ المساقاة لا بد أن يكون على ما كان عليه وقتَ العقد.
"قَالَ وَمَنْ مَاتَ مِنَ الرَّقِيقِ"؛ أي: كان موجودًا عند العقد "أَوْ غَابَ" عن الحائط، "أَوْ مَرِضَ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْلِفَهُ."؛ يعني: يعطي العاملَ خلفًا بدلاً له، لأن المساقاة انعقدت عليه وتعذّر الآن ما قدر، فيجيء له بواحد ثاني، فإن تعذر عملُهم لوجهٍ، فلا بد على رب المال من الخَلَف، لئلا يشتدَ العمل على العامل، أكثرَ مما كان عليه عقد المساقاة.
صلحت العقد وكان خمسة معي يساعدوني ما شاء الله! والآن ما باقي إلا ثلاثة أو اثنين!! أحضر بدل لهم.. اثنين مرضوا أو ماتوا، أو منهم من مات ومن مرض لا بد يعوضه بغيرهم يشتغلون معه، "فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْلِفَهُ".
وهنا كمَّلَ كتابَ المساقاة، ويأتي ذكرُ كراءِ الأرض، والله أعلم.
الله يرزُقنا الإيمانَ واليقين والنجاة يوم العرض، ويربطَنا بحبيبه الأمين، ويجعلَنا ممن أقرضَ الله فأحسنَ القرض، ويرزقنا حسنَ أداء السُّنة والفرض، ويتولّانا بما هو أهله في جميع الشؤون في الظهور والبطون، ويفرّج كروبنا والمؤمنين أجمعين في لطفٍ وعافية، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
17 ذو القِعدة 1443